الفصل السابع عشر

عيد رفيدة

جاء العيد حاملًا معه السرور، ورسم الأمل الذي ملأ أجواء المملكة. حتى في الأحياء الفقيرة، امتلأت الزينة لتعلن عن انتهاء شهرٍ كريم، ملأ أرواح صيامه بالراحة، وجدد فيهم الإيمان. جلست رفيدة براحة تتناول من الحلوى المصنوعة من التمر التي قدّمتها لها أمينة.

"إنها لذيذة!" قالت رفيدة بسعادة، وهي تستطعم الطعم الذي ذاب في فمها بمتعة.

"تُسمّى رُطَيبة، تعلّمتها من سيدة كانت تزور الميناء"، قالت أمينة بفخر لقدرتها على إبهار رفيدة.

"إن ثوبك جميل بالمناسبة!" قالت أمينة، وهي تدور حول رفيدة بمرح.

راحت رفيدة تضحك بمرح، ضحكتها المميزة التي لم تشهدها بهرمان، فجلجلت الأرجاء وسط تعجب جيهان وأمينة، لكنهن سرعان ما شاركنها الضحك. كانت تضحك وقد امتلأت روحها بسعادة حقيقية، لأن هذا الثوب كان له مكانة خاصة؛ هدية تركتها والدتها لها، ولم تستطع أن ترتديه سابقًا لأنه لم يكن يناسب وزنها. تذكّرت كم كانت حزينة! لكنها في هذا العيد استطاعت أن ترتديه. ثوب أبيض مطرّز بخيوط ذهبية، ذكرها بثوب سألت والدتها عنه عندما كانت أصغر، ارتدته عروس من أقاربها.

"سأشتري لكِ واحدًا أجمل عندما تكبرين"، تذكرت كم قالتها والدتها لها بحنان، واستيقظت في اليوم التالي والثوب أمام عينيها. حلمت بارتدائه، لكنه كان إما كبيرًا أو صغيرًا!

"صباح الخير يا بنات، وأعاده الله عليكنّ بالخير"، قالت السيدة سكينة وهي تنزل من دارها بكامل أناقتها، وقد ازداد جمالها جمالًا.

رددن الفتيات التحية وباركن لها بالعيد بمرحٍ ملأ الدار.

"السلام عليكم"، قالتها سلامة التي دخلت متأخرة، وبانت عليها معالم التعب.

"وعليكم السلام وعيد سعيد"، قالت رفيدة.

"هل كانت ولادة ناجحة؟" سألتها السيدة سكينة.

"الحمد لله، وُلد طفلٌ معافى، لكنهم لم يختاروا له اسمًا بعد"، قالت سلامة بتعبٍ وابتسامة مرتاحة، ثم التفتت للفتيات فباركتهن وأكملت طريقها هاربة إلى غرفتها!

وأخيرًا وصلت ورد بكامل زينتها، وعطرها يسبقها. وقفت أمامهنّ بنظرتها المستفزة، لكنها – على ما يبدو – لم ترد أن تثير الفوضى، إذ بدت مشغولة بنفسها.

"إنها هادئة على غير العادة"، همست أمينة.

"أوه، لقد استدعوها لقصر مهم للغناء كما سمعت"، ردّت جيهان.

"ليست متفرغة لتمثيلنا"، قالت أمينة بسخرية.

كانت رفيدة تتمنى لو تستطيع البقاء والاحتفال معهن، فقد كانت تحب العيد وكل مظاهره السعيدة. وكم احتفلت به بحفاوة في واحة الغانمة، لكنها وعدت أميمة أن تأخذ مكانها، لأن الأخيرة كانت ترغب بزيارة أهلها.

"يجب أن أغادر"، قالت رفيدة مستعجلة.

"بهذا الثوب؟" سألت جيهان متعجبة.

"أوه، إن ذهبت بثوب العمل ستغضب السيدة"، قالت رفيدة وأكملت: "كما فهمت من أميمة، السيدة تحب أن ترى مباهج العيد في قصرها بشكل خاص".

"ولكنها تجعلكم تعملن في العيد؟" قالت أمينة باستغراب.

"هو كذلك، فهي ستحتاج لمن يخدمها في هذا اليوم بالتأكيد"، قالت رفيدة شارحة.

"رفيدة، أقترح أن تغيري الثوب السخيف، فهو يبدو قديمًا جدًّا"، قالت ورد بسخرية، وهي تضع قطعة حلوى في فمها.

"ورد..." قفزت أمينة، لكن رفيدة، التي لم تعد تحتمل، أجابت بسرعة: "لا أرتديه لأرضيكِ يا رود".

"هل هو لترضي شخصًا آخر في القصر؟" قالت ورد بخبث جلي.

"لا تقلقي، فأنا سأغادر قصر السيدة زبيدة"، قالت رفيدة وأكملت: "بل ولن تضطري لرؤية وجهي حتى".

"ماذا؟" سألت ورد بتعجب.

"أوه، أنتِ الوحيدة التي لا تعلمين يا ورد"، قالت جيهان بانزعاج، وكأنهن كشفن المستور وهي تكره أن تكون غير عالمة بالأمور.

"حتى سلامة علمت بالموضوع"، قالت أمينة بسخرية، مستمتعة برؤية تحطم هذه الطفلة أمامها، والتي التفتت إلى رفيدة تبحث عن الفهم.

"أنا سأغادر للعمل في قصر الخلافة بإذن الله"، قالت رفيدة، ولم تستطع أن تُخفي فرحتها. كانت فرحة مبررة في أعين الجميع، لكنهم لم يعلموا أنها كانت سعيدة لأسباب في نفسها.

"ومن الأحمق الذي رشّحكِ؟!" صرخت ورد، وأكملت: "ما الذي سيستفيدونه من فتاة غبية مثلكِ؟"

"ورد، إنه يوم عيد ولن أقضيه في العراك معكِ. امضي لعملكِ، ودعيني أمضي لعملي"، قالتها رفيدة بثقة.

منذ أيام، أذاعت الخبر بين المقربات منها لتودعهنّ بشكل لائق. لم تكن تنوي عند وصولها لبهرمان أن تبني علاقات، لكنها لم تستطع إلا أن تتعلّق بهؤلاء الفتيات وتأبى أن تتركهن بلا وداع. فأخبرتهن دون التطرق لطبيعة عملها كما طُلب منها.

"تكلّمي معي بشكل لائق!" صاحت ورد.

أما رفيدة، فمضت وهي تسمع صراخ ورد الذي أخرسه تأنيب السيدة سكينة لها، وهي تقول: "هذا يكفي يا ورد!"

في طريقها، كانت تضحك مع نفسها وهي تتذكّر يوم أخبرتها سيدتها أن الموافقة قد جاءت أخيرًا! لحظتها رأت خلاصها.

"على ماذا يا مولاتي؟"

"وظيفتكِ الجديدة"، قالتها سيدتها بثقة.

"أي وظيفة؟" سألت رفيدة باستغراب، وفي رأسها الفكرة التي زرعتها بنفسها في عقل السيدة.

"هل تريدين أن تمضي عمرك خادمة عندي؟" قالت زبيدة باستهجان.

"لا أمانع يا مولاتي"، قالت رفيدة وهي تكمل مسرحيتها بإتقان.

"يا بنت، ستكونين معلمة في قصر الخلافة، معلمة للأميرين الصغيرين!" صاحت فيها بغضب.

هنا فقط لمعت عيناها بسعادة، لكنها وجب أن تساير شخصيتها المزيفة، فقالت بقلقٍ مصطنع: "مولاتي، وهل هذا يليق بمولاي الخليفة أو بأبنائه؟"

"لا تناقشي، واعلمي أنكِ أكبر شأنًا من أغلب رجال ذلك القصر؛ فأغلب من فيه واهمون شبه متعلمين"، قالت السيدة وهي تزم شفتيها بحنق.

"ماذا عليّ أن أفعل يا مولاتي؟"

"زوجة الخليفة تبحث عن معلّمٍ لزيد وسليمان، أما عمر فلا يزال صغيرًا"، قالت السيدة بتفكير.

"ولِمَ أنا؟"

"لأنكِ موثوقة وذات علم"، قالت السيدة وهي تنظر في عينيها، ثم أكملت: "ستخبركِ الأميرة سلمى بكل شيء، لكن لا تخبري أحدًا عن مهامكِ. فقط قولي إنكِ وجدتِ عملًا في القصر".

"حاضر"، قالت رفيدة، وقد شعرت بثقل المسؤولية. لم تكن لتتملص منها حتى لو كانت غايتها أخرى. فقد تربّت على تحمّل تبعات قراراتها، ولن تدخل أحدًا في كوارثها.

"انتبهي... القصر عرين ذئاب، بل نتن، إن كان يليق تسميتهم بالذئاب"، قالت زبيدة بقلق.

وكانت تلك نصيحة أخرى من سكينة: "إن كانت ورد مصدر إزعاج، فهناك ستقابلين من هم أسوأ، رجالًا ونساءً. فخذي حذرك، وكان الله في عونك."

وصلت رفيدة إلى قصر زبيدة، تلقي عليه التحية وتبارك له العيد في سرّها، وكأنها تودّع الأحجار والتفاصيل فيه. بالرغم من الهدوء، كان في الدار رقة لا متناهية، والخادمات المعدودات تزيّن بأجمل الثياب. دخلت تلقي التحية وتبارك للجميع، فعمّت السعادة.

وخرجت السيدة زبيدة، وقد تأنّقت ببساطة. كان نادرًا أن تخرج للحديقة، لكنها اليوم فعلت، توزع العيدية على الجميع، بل حتى دعت العامة لقصرها. امتلأ المكان بالأطفال والدفوف والأغاني.

نامت مباهج الاحتفال مع العصر، وطلبت السيدة شايها من رفيدة، إذ غابت نسمة لتحتفل مع عائلتها. جهّزت رفيدة الشاي، كوبًا ظنّته الأخير، ولم تتخيّل أن تودّع كل شيء في يوم عيد. لكنه وداع أفضل من أن يأتي بمأساة أو حزن.

دخلت بعد الاستئذان، فوجدت السيدة زبيدة تقول: "هذا الكوب الأخير الذي ستقدّمينه لي، يا رفيدة"، وفي يدها رسالة.

"هل وصلت الرسالة؟" سألت رفيدة.

"سيكون مندوب من القصر أمام سكنكِ صباحًا"، قالت بهدوء، ثم قدّمت صرّة مال: "هذه أجرتكِ. تستطيعين المغادرة مبكرًا لتجهزي."

"ولكن يا مولاتي، يجب أن أنتهي..."

"رفيدة"، قالتها السيدة بحزمٍ لطيف.

هدأت روح رفيدة، وتحوّل وجهها المضطرب إلى ابتسامة صادقة. لاحظت زبيدة ذلك، فرسمت شبه ابتسامة.

"أستأذنكِ يا مولاتي"، قالت رفيدة، ثم أضافت من عند الباب: "كوب الشاي سيكون في منزلي، يا مولاتي، سنشربه معًا إن شاء الله."

"إن شاء الله"، ردّت السيدة على أمل اللقاء.

ودّعت الجميع، وكانت قد ودّعت أميمة في المساء الماضي. علاقة بدأت بمصلحة وانتهت بصداقة حقيقية.

"سنلتقي، وإن لم يُكتب لنا لقاء، فسيبقى لكِ دعاء مني مستمر"، تذكّرت كيف قالتها أميمة.

عادت للدار وقلبها مليء بالدقات والتنهدات. أحبّت هذه الحياة رغم كل شيء، وتمنّت أن تعود بعد الوصول لهدفها. دخلت بهدوء تخلّله حزن، واستقبلتها أمينة وجيهان بوجوه متسائلة.

"هل وصل؟"

"غدًا صباحًا"، قالت متنهدة، وتحول الفرح إلى قلق.

"أوه، رفيدة..."، قالت جيهان، ثم باغتتها الدموع، وركضت تعانقها، تبعتها أمينة.

"لن أنقطع. سأزوركن إن سمحت الظروف، وسأصل حبل الوصل"، قالتها رفيدة من بين الدموع.

لم تعلم أنها كانت واحدة من وعود كثيرة لم تفِ بها بعد، لكنه وعدٌ بقي محفورًا في قلبها.

في المساء، جهّزت السيدة سكينة وليمة صغيرة لتوديعها، حتى سلامة حضرت بصمتها. الوحيدة التي اختفت كانت ورد، والتي حملت مفاجأتها تلك الليلة.من بين الحديث والضحكات، نزلت ورد تحمل الثوب الأثير بين يديها، قائلة ببرود: "يبدو أنكِ نسيتِ السراج، يا حلوتي."

نظرت رفيدة للثوب. حرق واضح أصاب منتصفه... ثوب والدتها! أي حقد دفع ورد لفعلٍ كهذا؟ كيف حُرق بهذه الدقة؟ عرفت رفيدة أنها لم تشعل السراج في ذلك اليوم تحديدًا، ففهمت الرسالة.هبطت من قمة سعادتها بهدوء، كرماد الجزء المحترق. احترق قلبها، لكنها قاومت الدموع، وقالت فقط: "لا بأس، الله المستعان."

وانسحبت بهدوء. كادت تبكي، لكنها تذكّرت كلمات سكينة عن القصر. لن تبكي عند كل منعطف. ستصادف الكثير والكثير. رأت الخيط الأحمر، هدية أمينة، فابتسمت. قررت ترقيع الثوب... رمانة صغيرة، رمانة مقاومة. قضت الليل تخيطها، ولم تشعر بنفسها إلا والفجر قد أذّن.

صباحًا، خرجت لهم منتعشة سعيدة، تودّعهن بابتسامة صادقة.

"احترزي أينما كنتِ. كان الله معكِ"، قالت سلامة.

"أرجوكِ يا رفيدة، راسليني متى سنح لك الوقت"، قالت جيهان، والدمعة تلمع.

"سأفعل"، ردّت رفيدة بثقة.

"لا تنسي منارة الدار!"، قالت أمينة بحماس، تكتم رجفتها.

"وهل يمكنني أن أنسى؟" قالت رفيدة بمرح.

رأت ورد تراقب من بعيد، تبحث عن فوضى جديدة، لكن رفيدة اقتربت منها، وقالت: "شكرًا يا ورد، لقد تعلّمت منكِ درسًا، رغم أنكِ أصغر سنًا مني."

"هل جُننتِ؟!" صاحت ورد.

"وداعًا"، قالت رفيدة، تاركة خلفها الطفلة الحائرة، تتمنى ألّا تراها مجددًا.

تنفّست وهي تفتح الباب، ولا تدري لأي سبيل تسلكه قدماها المرتجفتان.

2025/05/31 · 4 مشاهدة · 1424 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025