الفصل التاسع عشر
المهد
لا يدري كيف وصل اخيراً لقصر "ايبيا" الذي حمله وتحمله و كان الجذر المفقود فيه، حيث عاش فيه منفاه الذي كتبه هو على نفسه، جنته التي فعل فيها ما يشاء ملاذ هرب إليه و مسكن انتمى له، فهناك كان بعيداً عن بهرمان وقصرها و الأعين المربصة و الأيدي القاتلة! كان المكان الذي أجبره ليكون ملاذاً و انتماء له هو بكل انتماءاته التي قبلها على مضض! ربما لم يكن الوطن و لكنه كان أكثر مكان آمن استطاع ان يغلق فيه عينيه و يحلم بسلام دون خوف ، لم يعرف جنته تلك الا المقربين، قصر عتيق مبني من أنقاض قصر آستري وثني منسي مثله تماماً.
دخل من البوابة التي اخبأ حولها الحراس في صمت دون ان يثيروا شك أو ريبة! وقف أمامه شاب طويل غطي وجهه بعمامته، له نظرات حادة كصقر مستعد دوماً للدفاع قبل الهجوم!
"هل هي هنا؟" سأل عتبة بحدة و هو ينظر لمرافقه
"أجل" قال المرافق من خلف عمامته بثبات
"هل حدث شئ في غيابي؟" سأل و هو يبحث عن جواب فهمه مرافقه قائلاً
"لا لقد كانت هادئة جداً"
"حسناً سأذهب لأراها" قال بوجه مضطرب لم يرسمه منذ زمن، لأنه كان يعرف ما يختلج دواخله المبعثرة بها و الغائبة في اسمها، لم يكن هناك مجال للحيرة فهو كان قد قطع شكه آنفاً و الكلمة كانت بين يديها، و هو سلم لها بالهزيمة مع أنه الرابح في المعركة، فوجد مرافقه يربت على كتفه و هو يقول:" كان الله في عونك يا أخي"
"اجمعين" قال عتبة وهو يجهز نفسه لتسليم حصونه المنيعة ببساطة
دخل و قد حملته الريح ناحية الحديقة، ذاك السلام الذي جلست فيه، كل الثقة التي كانت فيه خارت في لحظة أمامها، مع أنه كان مستعد للمواجهة فهو حمل خطواته بصعوبة ناحيتها و هو يفكر طويلاً و لكن الذكريات ايضاً ساقته لهذا القصر و لسبب رحيله عن بهرمان و لعودته لها ايضاً
فكلمة سره لم تكن سيرسيوس الذي طرد ظلماً و لكن
"ليلى بنت عبد الله النُعماني" زوجة أبيه الثالثة و التي كانت دائماً تشفق عليه ولم يعجبها كيف تم اهماله!، فبعد أن فقد من حياته حمايته المتمثلة في سيرسيوس أصبح أكثر انعزالاً و مع سفره المتكرر لحمايته أصبح حاله أصعب و لكنه التقى بزوجة أبيه التي عرضت على والده
"لقد عانى من الترحال ما يكفي و لذلك دعه معي أنا سأتكفل به و بحمايته"
بينما جلس هو يومها في مكانه حمل وجهه نظرة غضب مرتجفة و هو يراقب ملامح والده الباردة كانت هي تقف هناك بصوت أعلى من ما اعتقد أنه مناسب للحديث مع الخليفة و بإصرار قالتها! كانت المرة الأولى التي يرى فيها كائناً يقف أمام جبروت والده! و هو لم يجرؤ على رفع عينيه حتى بالرغم من غضبه! ولكن هذه القوة المتمثلة في هذه المرأة جعلته يعتقد أن الحياة و أبعد من تصوره البسيط للأمور و بالتأكيد لم تتمحور حوله و هو الصغير البسيط!
و من هنا بدأ فصله الجديد حيث وجد عتبة في ليلى الأم التي لم يعرفها في حياته لم يستطع أن يناديها بأمي و لكنه كان يحملها هذه المكانة، فهي انتشلته من مقابر الحزن التي دفن نفسه فيها. اهتمت بتعليمه الناقص وبل انها اهتمت بتعليمه حتى الفروسية واستخدام الأسلحة. و أغرقته بحنان و لطف هو لم يعرفهما، يعلم ان كسر حصنه لم يكن سهلاً فهي عانت في البداية مع عناده و صمته و إرتيابه و لكنه قرر إذابة هذا الحديد المنيع في أحد الأيام عندما دخلت تدعوه للطعام في الحديقة
"دعنا نتناول الطعام في الخارج ان الجو يرد الروح إلى العليل" قالتها بلطف واضح
لم يقابلها الا بالصمت
"ان المعلم يقول أنك رفضت إكمال الدرس" قالت معاتبة و هي تبحث عنه حتى وجدته مختبئ خلف الكنبة فجلست معه وأكملت:" الاستغراق في تأمل الجدار لا يصنع إلا عقلاً منغلقاً… وأنت أحوج ما تكون إلى عقل يقظ كي تواصل الحياة."
كان الصمت اولاً ثم وجدته يقول بعد فترة:" ما الذي يجعلكِ تظنين أنني أريد أن أحيا؟"
"لا أحد يحب الموت يا عتبة" قالتها بحدة و لكن لطيفة
كان يشيح بنظره بعيداً هارباً من هذه المواجهة و لكنه قرر أن يوضح لها ما يفكر فيه لتتركه…..كالآخرين.
"ان مت سيحتفلون و يرقصون على قبري" قال و هو يحاول ان يجعلها تهرب منه بكلامه و هي بقيت صامتة فاعتقد انه وصل لمراده و لكنه وجدها تقول
"اذاً لا تعطهم هذه الفرصة"
"و لكن يا خالة انهم…" قال بإنفعال متوتر و هو اخيراً و قد رفع نظراته لها و كانت مليئة بالثقة التي لم يعرفها يوماً و من بعدها علم أن الأعين مرأة للحقيقة و خلفها ينام صدق البشر و كذبهم!
"لقد سأل أخيك عبدالعزيز عنك مراراً.. يقول إنه يريد أن يأخذ دروس المبارزة معك" أكملت وهي تغير الموضوع تحاول أن تخطفه من عزلته، يومها شعر ان قلبه ينبض وكأن الحياة عادت لدقائق لقلبه و لكنه سرعان ما عاد ليأسه وهو يقول:
"انه لا يحتاج لدروس مبارزة… فلماذا تكذبين علي؟"
"هل تعتقد أنه يأخذها لنفسه انه يبحث عن طريقة للتقرب منك" قالت بضحك
"لماذا ؟…. ليطعنني في ظهري متى سنحت له الفرصة؟" قال بيأس
"انك واهم يا عتبة" قالت ناهرة و هي تمسك بوجهه تجبره على رؤية عينيه
"أنت لا تفهمين… ما أعيشه"صاح مستعداً للهرب من عينيها و منها
"إنهم أضعف مما تعتقد و أنت ترفع من شأنهم " قالت بحدة و أكملت هي تربت على وجهه بحنان:" عليك أن تعمل عقلك معهم وتسبقهم"
"و لكني لا أعرفهم جميعهم" قال بإنفعال
"ستعرفهم سيفضحهم الله يوماً و سينصرك عليهم" قالت بهدوء و أكملت :" اذاً هل سنتناول الطعام في الخارج؟"
مع إصرارها و لمعة الصدق في عينيها يومها استسلم و من هناك استطاعت ليلى أن تخترق حصونه.
حتى أنه قبل و تحت وطأة ضغوطها أن يأخذ الدروس مع أخيه عبدالعزيز والذي ما أن رآه لم يتوانى عن الهجوم عليه حضنه و لكنه سرعان ما هرب من ذلك الحضن محرجاً منزعجاً. يتذكر تلك الأيام و هي أجمل أيامه فيها تقرب من أخيه و من ليلى و لكن تلك الذئاب كانت لا تنام حتى في الليل! ففي صباح أحد أيام الربيع استيقظ مستعداً لزيارة زوجة ابيه و ذلك قبل ان يتوجه لدروسه و لكنه وقف أمام الفضيحة الملكية محتاراُ !
"لقد كانت تؤلب وتخطط للإنقلاب بالتخابر مع جهات أجنبية هي و والدها" قالها له الخدم ببساطة و كأنه حديث عابر! مساء كانت هنا فكيف حدث كل هذا بهذه السرعة؟
"و أين هي الآن؟" صاح غاضباُ، ولم يأخذ هذا الهراء كجواب مقنع و لكنه لم يجد جواباُ واضحاُ و هذه المرة توجه لأكثر شخص هو يثق فيه، ليرمي بخوفه قلقه عنده، اقتحم قصره هلعاُ هذه المرة، نسي كيف يعد الخطوات، بل ان قدمه كادت تخونه و تذوب تحت هلعه و هو يعلم أن الأمر فيه كذبة قذرة و لكن من سيسمع من مراهق في ال 16 من عمره! أين هي؟ كان السؤال الذي احتار أمامه!
" عبدالعزيز" قالها و قد وقعت عيناه على أخيه الذي اخطروه بإقتحام أخيه الأصغر لقصره
"عتبة اهدأ أرجوك" قالها عبدالعزيز و هو يهدئه عارفاً بما يدور في عالمه
"تعال معي ، دعنا نكلمهم " قال و أكمل و هو لا يأخذ نفساً هلعاً لا يبتلع ريقاً:" انني قلق قد يقومون بالحكم عليها "
"انني أبحث في الموضوع " قال عبدالعزيز و أكمل بثقة :" في المساء ستتضح الأمور"
"و لكن ما الذي تنتظره هنا في قصرك و هي الله وحده يعلم أين تكون؟" قال معاتباً بحدة و قد بدأ يفقد ما تبقى من أعصاب أمام هدوء أخيه الأكبر
"لقد أرسلت رجالي لا أستطيع أن أقوم بالأمر بصفتي الشخصية" قال باحراج شعر عتبة منه شئ من الخذلان و هو لم يرد أن يخذلها!
" أنت خائف!" قال عتبة بصدمة و قد باغته الإدراك أنه أمام أمر أكبر من عالمه الصغير، فأكمل بنبرته المستهجنة باحثاً عن جواب او حقيقة و كل ما واجهه كان الإصرار على الهروب:" من ماذا تخاف وتهرب هكذا ؟"
" لست اهرب فقط أمهلني بعض الوقت ولا تتدخل" وقتها قالها عبدالعزيز بحدة لم يعهدها منه عتبة! حدة شبهت ولي عهد وخليفة مستقبلي… ولكنها لم تشبه عبدالعزيز أخو عتبة الأكبر! كان هذا الفاصل بين العالمين الذي لم يفهمها عتبة!
"يا لك من جبان!" يومها يذكر أنه قالها تاركاً خلفه روح لم يفهم ما يختلجها!
"أنت لا تفهم…" قالها عبدالعزيز منكسراً كسراً لم يفهمه عتبة
"ان صمتك هذا سيكلفك غالياً يا أخي"
ربما كان عتبة مندفع اندفاع المراهقين ولكنه صدق في كل حرف.
يومها ترك أخيه خلفه باحثاً عن وجه آخر هو كان يعرفه ولا يثق فيه و يعلم أن له يد مباشرة و بالتأكيد يعرف امراً او ربما كل الأمور!
"جرير الرياحي"
و هذه المرة توجه له حاملاُ سيفه، باغت الحراس الذين وقفوا أمامه مهزوزين و لكن فورة غضبه كانت أقوى من ترددهم فهجم مشهراً سيفه بتهور و هو يصيح
"ما الذي فعلتوه؟"
"اهدأ أيها الأمير و لا تتصرف تصرفاً قد يندمنا جميعاً" قال الرجل بخبث و هو يستجمع نفسه أمام المراهق الغاضب
"تكلم"
"لقد ثبتت عليها و على والدها الخيانة" قال و أكمل بخبث و هو يعدل وقفته مبتعداً عن سلاح عتبة الموجه لوجهه:" هل تحاول ان تدافع عن خونة حاولوا الانقلاب على والدك؟"
" و لكن والدها صاحب ديوان الكتاب" قال في انفعال
"و هل هذا يلغي الخيانة" قال الوزير الخبيث و أكمل كأفعى تبث سمومها:" انك صغير جداً لم تشبع منك هذه الحياة لذلك من الأفضل ان تلتزم الصمت"
"اصمت "قال بغضب كان ذاك تهديد صريح و اعتراف واضح و لكن بلا دليل مثل اغتيالاته و التي كان يستطيع ان يجزم ان لهذا القذر يد فيها
" بدل ان تجري خلف الخونة ابحث خلف أخوالك" قال الرجل بخبث
"ماذا تقصد؟"
"قد تكون لهم يد في الأمر او في محاولة قتلك!" قال الخبيث
يومها لم يستطع ان يخرج بشئ سوى المزيد من الحيرة و الشكوك و لكنه ايضاً علم أنهم لم يعدموها وربما لاينوون و لكن بقي مكانها غامضاً و هذا ما جعله يصر أن يجدها!
خرج من ذكرياته اذ وصل اخيراُ لوجهته، حيث عينيها العسليتان الثابتتان و اللاتي لم يرى فيهما سوى الصدق، فكيف؟ وأين هو مخطئ؟
" من تكون؟" سألته و الحذر يطل من عينيها
"من أكون؟" سألها باستغراب