الفصل الأول

نداء النار

وقفت، والترقّب قد حاوطها، ملأت المكان بنظراتٍ محتاطة، كلُّ خطوةٍ محسوبة، كلُّ نفسٍ، كلُّ رمشةٍ كانت بقنطار. خطوط العرق البارد نزلت من جبهتها لتذكّرها بمهمتها. كانت مستعدة لتغرس الخنجر، وستكون القاضية. سترتاح روحها الملتاعة، ستتنفّس أخيرًا من الصخرة التي وُئدت في جوفها، من الوحوش التي جثمت على صدرها لسنوات.

علمت منذ البداية أنها لا تقوم بالأمر لما في نفسها فقط، بل كانت تدرك حجم العدالة التي ستسقي جموع المساكين الذين عانوا من هذا الشرير. ولهذه العدالة ثمن. ظنّت أن الأمر قُضي، تعرف أنها تردّدت عندما تخيّلت حبل المشنقة حول رقبتها. وفي لحظة الضعف تلك، تذكّرت لماذا هي تقف في هذا المكان. فالغاية كانت سليمة، وردّدت في داخلها أنها ستموت مرتاحة.

اعتقدت أن الوقت حليفها، وأنها سبقتهم بخطوات، ولكن اليد التي لحقتها في اللحظة الأخيرة وخطفتها من ما كانت تنوي فعله، سرقت لحظة مجدها!

"ماذا تعتقدين أنكِ فاعلة؟" سألها وهو يهزّها بانفعال، وعيناه الباردتان تنظران إليها بجمود.

كانت تنظر له بحيرة، ولكن سرعان ما حلّ محل توترها غضب مفاجئ، بل إنها نارٌ تركت روحها مكويّة في لوعة. وجدت نفسها تقفز في غضب نافثة نيرانها فيه:

"اتركني!"

هنا فقط وجدته يكتم أنفاسها. فلا هو ولا هي كان يجب أن يُسمع لهما حِس، ووجودهما هنا كان يعرّضهما للموت بالتأكيد و للكثير من التساؤلات. لم يكن يعلم أنه بفعلته البسيطة قد دمر عالمها و حكم عليها بالعذاب. لا يعلم أنه أعادها لنقطة البداية، وألقى بروحها في غياهب الذكريات.

فهي قاومت ليعتقها ويسمح لها بأن تُكمل مهمّتها . تمعّنت في يدها، وهناك أطلّ عليها الخنجر الثمين. بقي الوعد مُخلَفًا، كانت تعلم أنه ليس أقوى سلاح، ولكنها عاهدت نفسها أن ترويه بدماء المجرم.

أغلقت عينيها، تبعد الذكريات البشعة، ولم تجد نفسها إلا في اليوم الذي انتهى فيه كل شيء بالنسبة لها…

"ما هذا الذي في يدكِ يا رفيدة؟"

كانت تنظر للخنجر الفضي ذي الياقوتة الجميلة في آخره باهتمام. كان بسيطًا ولكنه ثمين، يشبه صاحبه. وجدت نفسها تبتسم لصاحبتها بخبث وهي تقول:

"إنه خنجر قتيبة."

"هل سرقتِه مجددًا؟" قالت لها صاحبتها باستنكار، وأكملت:

"لم نعد طفلات صغيرات!"

لا تذكر لماذا تحديداً أشارت جنان لهذا الأمر,لماذا كانتا تسرقان الخنجر في الماضي؟ و لكنه بالتأكيد كان أمراً ستقوم به مع شريكتها في الجريمة.

"هذا صحيح، أنتِ لم تعودي طفلة يا جنان"، قالت مطلقةً ضحكتها المميزة بحدتها، وأكملت وهي تملأ المكان:

"أما أنا، فكما ترين، لن أتغيّر!"

"هذا صحيح... سنرى،" ردّت جنان بمزاح.

"إذًا أيتها السيدة، هل تم تحديد موعد زفافك؟" قالت رفيدة وهي تبحث في وجه صديقتها عن ملامح الخجل لتسخر منها.

وبالفعل، رسمت صديقتها لوحة من الحياء، وهي تخفض نظرها هامسة:

"سيكون خلال شهر."

"وسأكون أول الحاضرات!" تذكّرت أنها قالتها، وأعلنت حربها لإحراج صديقتها:

"سأكون على قصة حبكم شاهدة!"

"توقّفي يا رفيدة!" قالت جنان، وهي تحاول أن تُسكتها بإحراج.

كانت رفيدة تعشق هذه الحياة التي تحياها في قريتهم الصغيرة المسماة "واحة الغانمة". لم تحمل همًّا، مستمتعة بكل لحظة. وحتى عندما كانت في عامها العشرين، استطاعت أن تحمل روح الطفلة المرحة بلا خجل من فرط دلالها، فقد دلّلها أخوها، وبعد رحيله للعمل أصبحت مدللة زوجته سارة، التي كانت لها كالأخت الكبرى و الحضن الذي تحتمي به.

لم تتوقّف عن الركض والضحك إلا عندما رأت منزلهم الكبير يلوّح في الأفق، مُعلنًا عن وجوده، ومُعلنًا عن أصالة ونُبل عائلة الهيساني.

فقالت:

"حسنًا، عليّ أن أعود للمنزل، لقد وعدت صهيب أنني سأُعلّمه بعض الحساب."

"بالتوفيق في ذلك،" قالت صديقتها بانزعاج من ذكر الموضوع الثقيل.

تذكّرت أنها دخلت المنزل بهدوء، ساحبةً خلفها يومها السعيد، مترقّبةً ذلك اليوم الذي سترى فيه صاحبتها عروسًا. ضحكت بصوت مسموع وهي تتذكر ردة فعل جنان وخجلها، متوعدةً بالمزيد من المشاكسة.

"العمّة المجنونة!" قالها الطفل ذا الثمانية أعوام، بينما كرّرها الصغير ذي الثلاثة أعوام بحروف مكسّرة: "المدنونة!"

"صهيب!" صاحت بتهديد، وقد تجعّدت ملامحها في غضب.

"المدنونة!" كرّرها الأصغر، فوجدت نفسها تلحق بالأكبر، الذي علّم الأصغر كلمة سيئة مجددًا، وعلى الأغلب سمعها هو نفسه من أقرانه. وكان قد هرب من تهديداتها منذ مدة، بينما يركض سليم الصغير خلفهم باحثًا عن مرح وسط هذه المعركة، التي ربحتها رفيدة بدهائها. فقد رمت نفسها أرضًا، ممسكةً بقلبها بتعب، وسرعان ما وجدت صهيب يركض نحوها بخوف، مُعلنًا بقلق:

"هل أنتِ بخير يا عمّة؟"

وخلفه سليم يصيح، والدموع تهدّد بالنزول:

"عمّة!"

فاستغلّت الفرصة لتمسك بصهيب، وهمت بتأديبه وتأديب سليم معه، لكي لا يقتدي بأخيه في هذه الأفعال.

"هذا ليس عدلًا، لقد خدعتِنا!" قال صهيب باعتراض.

"لا تلم دهائي، فمعاناتك هذه هي حصاد حماقتك!" قالت وهي تضحك.

"حسنًا، سنتوقّف الآن، وستذهب لتستعد للدرس،" قالت بأمر.

"أكره الحساب!" صاح بملل.

تنهدت بانزعاج، وقالت مؤيدة:

"وأنا كذلك."

"وأنا،" قال سليم وهو يقلّدهما.

انتبهت للخادمة التي هرعت للباب الذي راح يُقرع كطبول الحرب.

"رفيدة، توقّفي عن العبث واذهبي لتغيّري ثيابك قبل الدرس." جاء الصوت الرقيق الزاجر من خلفها ليذكّرها أن هناك من يستطيع السيطرة عليها أيضًا.

"من بالباب؟" قالت متجاهلة الأمر السابق متعجبةً من صوت القرع الذي لم يشبه قرع جيرانهم.

"لا أدري،" قالت زوجة أخيها وهي تراقب تقدّم الخادمة بمظروف أنيق.

"من كان على الباب؟" سألت سارة الخادمة بعيون مستفهمة.

"سيّدتي، بدا وكأنه رجل من رجال الخلافة، سلّمني هذه الرسالة وطلب أن أُسلّمها لكِ تحديدًا."

"هل هي رسالة من قتيبة؟" سألت رفيدة بحماس، فهي كانت تتحمّس لرسائل أخيها الذي يخبرهم فيها عن أيامه ككاتب في القصر، فقد أخبرهم أنه سينتقل لجناح القضاة قريبًا. وهذا الخبر الذي تركها في حماس كبير، فهي كانت تعلم أنه حلم من أحلام أخيها.

"بذكر قتيبة... أين الخنجر؟" قالت سارة بتهديد واضح.

"لقد استعرتُه، إنه أداة مناسبة لدروس الخياطة!" قالت رفيدة بتبرير، وهي تتمسك به كالطفل الذي يتمسك بلعبته.

"إنه سلاح حادّ، خطرٌ في يد فتاة متهوّرة مثلكِ،" قالت وهي تشير لها لتسليم السلاح المذكور.

"بالمناسبة، لقد تم تحديد موعد زفاف جنان، سيكون خلال شهر،" قالت رفيدة بحماس.

توهّج وجه زوجة أخيها بحنان، وقالت وهي تربّت على شعرها:

"هذا لطيف، إن شاء الله يكون نصيبكِ هو التالي."

لكن رفيدة تذكّرت كيف هربت بخجل من نظرات زوجة أخيها، وهي تصيح:

"لا، أنا لن أتزوج! إن تزوجت، سيكون للجميع عذرٌ لمنعي من الاستمتاع!"

"لا تكوني حمقاء..."

"الرسالة؟" تذكّرت أنها قالتها وهي تغيّر الموضوع.

كانت تراقب بحماس سارة وهي تفتح المظروف بتأنٍّ، راقبت عيونها الهادئة التي راحت تتفحّص الصفحة باهتمام. كانت تقرأ الشوق والحب عادةً من هذه الرسائل، ولكن هذه المرة تذكّرت أنها قرأت تعابير أخرى...

"هلا تقرئين المكتوب يا عزيزتي؟

أعتقد أنني … لا أفهم المكتوب"

خرجت تلك الجملة من فم سارة، فارغة من الحياة. ملامحها كصخرة جامدة. كانت كأنها تتأكّد من شيء، مع أن رفيدة في ذلك اليوم لم تفهم ما الذي أصاب زوجة أخيها. فهي تجيد القراءة والكتابة بالتأكيد، وإن كان تعليمها متواضعًا.

تناولت الرسالة من يد مرتجفة. شعرت لوهلة أن سارة كانت تتشبّث بالرسالة وكأنها لا تريدها أن تقرأ المكتوب. ولكن، المقدَّر سيكون، لأنها همّت بالقراءة، باحثةً عن الشيء الذي سرق الضوء من عيني سارة في ثوانٍ…

"...حرقًا."

كانت الكلمة التي أحرقت هذه العائلة السعيدة.

2025/05/31 · 23 مشاهدة · 1076 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025