الفصل العشرون

آسترا التي..

حمل نفسه ينظر لعينيها مجدداً لقد كانت تلك من أصعب لحظات حياته! فيفهما القرار المكين، اللحظة المصيرية التي قد ترفعه أو تسقطه في مكب العشاق الواهمين و لكنه إختار التصديق فالحديث الأخير بقي يرن في ذاكرته وهو يبحث في قراطيسه القديمة!

فهي تركته أمام سؤال واحد حائر

"من تكون؟"

و كينونته كانت غموض و لكن هو كان يعرف نفسه! اعتقد انه يعرف حتى اللحظة! و لكنه كان يجب أن يكون أذكى وكبريائه الطفولي وقف عائقاً أمام تسليم نفسه لها بهذه البساطة فقال بهدوء بعدما بقي يردد خلفها "من أكون؟"

"بل ماذا تريدين؟"

"عتبة أنا لم أستدعيك للعراك معك فأنا تعبت من هذه المناورات" قالت و التعب قد رسم كلوحة عتيقة على وجهها ! دق قلبه خوفاً من تعبها، لم يكن يريد أن يكون هو السبب ! كان يؤلمه أنها تتهمه و ترميه جزافاً و لا ترحمه من كل الإفتراءات و ذلك كان السم الذي تسقيه!

"أنا هنا؟" صرخ لسان حاله و لكن عقله و عزة نفسه طغت أمام ما اعتقد انه جبروت!

"أنتِ أخفيتِ عني كل شئ ….."

كانت نبرته فيها عتاب وعند تلك النقطة وهي نقطة الخلاف! و لكن لم تكن بينهم عهود والثقة كانت ضائعة و هي أكدت له قائلة:" لا أنكر و لكنك ايضاً لم تبح لي بكل الحقيقة ! وأنت… أنت تعرف من أكون"

"لقد عرفت مؤخراً" قال و قد هدأت روحه قليلاً و عاد يبحث راجياً عن جواب فقال بحذر:" ما الذي كنتِ تخططين له؟"

كانت صامتة، عقلها كما هو واضح تدور فيه الدوائر و لكن بقيت فيها نار لم تغب عنه منذ تلك الحادثة! ان براكينها لم تخمد بعد! فهي رفعت عينيها و هو رأى النار! و لا تليق هذه النار بها !

" كنت سأقتله" قالتها بلا تردد و بكل ثبات

تنهد! أراد أن يخطف انتقامها فيكون انتقامه و لكنه ابن العدالة والمبادئ عنده عقيدة صريحة ! لن يقتل أحداً بغير وجه حق، حاول أن يتنفس فهي بكل نيرانها ذكرته ببراكين قديمة ظن أنها خمدت مع الزمن!

ففي ليلة حالكة غاب عنها قمرها كانت صيفية هادئة سرق فرسه ولم ينوي الا على أمر واحد و نيرانه استعرت محركة روحه، فهو دخل للإصطبل متسحباً في صمت وقف الفرس الذي كان هدية من أخيه عبدالعزيز

"الأدهم"

بلونه الذي حكى حكاية اسمه و بكبريائه لم يقاوم فارسه وإن كان جلفاً معه! كان قد وضع يومها المنوم في طعام حراس الإسطبل وهذا سهل عمله! و خفة حركته بالرغم من غضبه و اندفاعه ايضاً خدمتاه! لم يترك خلفه حرفاً و لا أثر! و كان متأكد أن أحد لن يبحث خلفه اساسًا!، الا اذا اشتموا منه الخطر، و لكن بشكل عام غيابه كان لصالحهم!

هو كان يبحث عن حقيقة غائبة! و علم أنه لن يجدها في قصر والده، و هو المكان الذي لم يقبل به مع أنه من المفترض انه حمل أغلب ملامحه! فقرر أن ينسحب و يترك لهم عالمهم يدورون به كما يشاؤون و يبحث عنها في عالم والدته التي لم يعلم عنها سوى اسمها و أصلها.

حمل اسمها ثلاث أحرف بسيطة

"لونا"

أميرة آسترية و لذلك وجهته كانت شمالية نحو مملكة مستقلة و لكن تابعة، دخلت الإسلام قبل أكثر من خمسين عام وقبلها دانت بدين وثني عبد احجاراً وآلهة كثر! و كانت هي الحد الفاصل، الحامية الشمالية و لكنها بقيت الخنجر المرتاب منه! كرهه الحلفاء والأعداء تماماً كعتبة! يومها سار خلف هدفه حتى كاد يهلك هو وفرسه الذي تبعه بوفاء! لم يتوقف الا عندما أغمي عليه في منتصف الطريق من الجوع والعطش ولحسن حظه وجده حرس حدود مملكة آسترا! لم يعرفوا أصله و لكنهم ارتابوا منه و لكن حداثة سنه تركتهم يتنفسون الصعداء! تكلم معه من يتقن العربية جيداً

"من تكون يا ولد؟"

"من أكون؟" سأل و الصداع يفتك به فتكاً و أكمل و هو يحاول التعرف على محيطه! فسرت رعشة فيه بالرغم من انهم كانوا في فصل الصيف و الوجوه بدت مختلفة، شقراء بيضاء و لكن العيون حملت أخضراً مألوف!

" أين أنا؟"

"في آسترا" قال الحارس و هو يحاول او يفهم فوجد المراهق يقفز في وجهه و هو يصيح و كأنه شفي من كل ما كان فيه:" يجب أن أقابل ملككم و على وجه السرعة"

نبرته الآمرة جعلت من فهم العربية يضحك فضحك أغلب الحضور و من لم يفهم ترجموا له فضحك، لغة جديدة أحرفها كانت فجة فيها شئ من الهمجية و لكن وقعها على إذنه للمرة الأولى أدخل في قلبه الرغبة للتعرف عليها

"من تظن نفسك ؟" سأله أحد الحراس بعربية مكسرة

"أنا عتبة "

قالها للمرة الأولى فخوراً ظن أنه سيحضى بالاحترام!

"و انا كلاسبير " قال الحارس ساخراً و أكمل:" خذ علاجك و عد أدراجك يا ولد"

"انتظر" قال عتبة بهلع و هو خائف أن يضيع ما وجد انه أمله الأخير

" ماذا هناك؟… لا تضيع وقتنا"

"أنا عتبة ابن الأميرة لونا" قال بتردد و خوف و الاسم نطق به مبهوراً كانت المرة الأولى التي ينسب فيها نفسه لأمه ! للأم التي لا يعرفها و راح في هذه الرحلة يتعرف عليها!

وجد الحارس يقف و هو يتفحص ملامحه! نعم شابه عتبة أهل أبيه و لكنه حمل أمه في عينيه العشبيتين! و الذي بشكل ما أقنع الحارس و هندامه و فرسه كانا أيضاً ينمان عن أن الواقف أمامهم أمير و لكنه قليل خبرة وتدبير! و حتى اعتقدوا أنه بدى بخير اخذوه و فرسه للقصر!

قاومت آسترا لتحافظ على أصالتها و لكن في نفس الوقت كانت تثبت إسلامها، فالمساجد هنا كانت حديثة و لكن كل المباني الاخرى حملت طابع مميز طابع ينم عن حضارة بائدة كانت يوماً قوية و لكنها اليوم نامت بسكون في ثوب جديد ثوب هادئ مسالم! هذه آسترا المحاطة بالجبال بأبنيتها الحجرية الصريحة لم تخفي خلفها إلا الصدق!

وصل اخيراً للقصر و الذي كان يبدو قديماً بل و أقدم من قصر الخلافة في بهرمان و لكنه كان مهيب، حمل عراقة و حكاية عتيقة عن شعب قرروا ان يؤمنوا وقد دخل لقلبهم الإسلام و لكنهم لم يكونوا يريدون أن يفقدوا أنفسهم فحافظوا على ثقافتهم ولغتهم و لكنهم تخلصوا من وثنيتهم!.

انتظر في غرفة صغيرة أنيقة و الإنتظار حمل معه ناراً كان كجمرة مستوية! لم يستطع أن يجلس بهدوء فراح يتقلب في مكانه يمشي ثم يجلس حتى دخل عليه شاب في بداية الثلاثين له ملامح آسترية رقيقة!

"السلام عليكم" قالها وهو يراقب ملامح المراهق الواقف أمامه كانت نظراته هادئة تحمل الخبث! و لكن سرعان ما تحولت للدفئ و هو يقول

"انت ابنها بالتأكيد!"

فوجده يسحبه خلفه بحماس و هو يكمل:" الجميع متحمس للقائك"

"ماذا؟" قال عتبة وهو يجاري الشاب الغريب و يحاول ان يستوعب ما يجري من حوله:" من هم؟"

"اوه لم أعرف بنفسي" قال الشاب و أكمل:" أنا موسى خالك الأصغر"

"أنا…"

"أعرف من تكون أنت ابن لونا" قال متحمساً

مشوا في الطرقات حتى وصلوا لغرفة العرش! حيث جلس هناك على العرش ملكهم يرتدي تاجاً ذهبياً اختلط بلون الأشقر النحاسي و بشرة بيضاء محمرة استطاع أن يقدر أنه في اربعينياته! عرف انه خاله الأكبر و لكن لم يعرف اسمه! وجده يقف من العرش و هو يتقدم منه و خلفه كان يسير رجل آخر في أواخر الثلاثينات! هل هو خال آخر؟ كانت ملامحه أكثر حدة من بقية اخوته و لكنه حمل ذات الملامح و التي بالمقارنة لعتبة كانت رقيقة، و لكنه لاحظ أنه حظى بالطول من جانب والدته غالباً فهم لم يكونوا ضخاماً ولكن طوال!

"انه هو…أنا متأكد!" قالها خاله موسى و أكمل:" يحمل ذات العينين ألا توافقني يا عيسى!"

"انه محق يا عيسى، من بعيد تظنه عربي بالكامل و لكن العينين هما عيناها" قالها الملك و الذي كانت عيناه تلمع ما فهمه انه شوق! كان شوقاً لأخت راحلة!

"أنا محمد ابن فالدران دراغينوف ملك آسترا و خالك الأكبر و انت قابلت موسى" أكمل و هو يشير على الخال الاصغر و سرعان ما أشار على الخال ذا الملامح الحادة الغاضبة و قال:" هذا خالك عيسى انه الأخ التوأم لوالدتك"

ما إن سمعها حتى اتجهت عيناه له يبحث عن شئ يشبه والدته و لكنه عجز لان القابع امامه كان رجلاً !

"لا أصدق أنهم أطلقوا سراحك اخيراً" قال الملك ضاحكاً وقف عتبة يومها مستغرباً

"اطلقوا سراحي؟" سأل متعجباً! و لكن تم تجاهل تعجبه فلحق بهم يتعرف على بقية العائلة الزوجات و الأبناء الذين بالكاد تذكرهم يومها!

كان جميع اخواله متزوجون، للأكبر ثلاث اولاد وابنة، للوسط ابن و ابنه و زوجته حامل، و الأصغر له ابنان توأم و زوجته كانت حامل ايضاً !

كانت المرة الاولى التي يرى فيها عائلة حقيقة تجتمع على مائدة كبيرة كلهم بجنونهم يصرخون أصوات عالية و محاولات يائسة من الكبار لاسكاتهم! و هو بينهم أصابت قريحته الغربة! حزن لما فاته! نعم تقرب من أخيه آنفاً وبالرغم من الخلاف لم تتزحزح مكانة أخيه من قلبه ولكن هذا شعور دافئ مختلف لم يشهده من قبل، شعور تمنى لو عاشه منذ نعومة أظفاره لا مراهقاً في السادسة عشر!

جلس حولهم لم يعرف من اي طبق يبدأ فهو لم يعرف الأطباق

"هل تحب اللحم؟" سألته احدى الصغيرات

" نعم" قالها بتردد

"اذاً كل من لحم الغزال انه لذيذ" قالت شارحة و أكملت:" لقد اصطاده والدي مع أخي صباحاً"

نظر لها محتاراً! لم يفهم كيف هو طعم لحم الغزال و لا كيف تكون علاقة الأب بابنه فهو لم يذق من تلك الأصناف!

" أيها العربي لا تستمع لها" قال أحد الأطفال التوأم و تبعه أخيه بذات النبرة:"لا تستمع لها يا عربي"

هو كان قد لاحظ انه نادوه بالعربي و جميعهم تكلموا بعربية واضحة كأنها لغتهم الأم!

"لماذا؟" سأل

وجد احدى زوجات اخواله و هي الزوجة الأصغر توبخ ابناؤها بلغة آسترية و لكنها هذه المرة سمعها متزنة و ليست كما نطقها الجنود و لم يلتقط سوى كلمة

"ناكورتا"

و لكن رد الأولاد كان كما نطقها الجنود تنتهي الأحرف بحركة همجية لم يعلم الفرق و لكنه لاحظه! فوجدها تبتسم له و هي تقول بعربية واضحة:" ارجوك لا تخجل و تناول من الطعام، تبدو متعباً من رحلتك"

ليلتها اخذوه لغرفة هادئة أنيقة، كانت دافئة رغم برودة الجو لها طابع مريح، و مع كل الراحة المتوفرة بقي هو عالقاً في نفسه و في قلبه غبطة من ما رآه ! هو لم يعلم أن هذا شكل من أشكال العائلة! فهو لم يكن يعرف ما هي العائلة!

2025/05/31 · 1 مشاهدة · 1590 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025