الفصل الواحد و العشرون
فوضى الحقيقة
في صباح اليوم التالي استقبله خاله الملك بعد وجبة فطور عامرة بالتحديات، معارك صغيرة بين الأطفال الذين سمحوا لكلب الصيد بالدخول لغرفة الطعام و إحداث الفوضى و التحكم بكل هذا الشغب لم يوقفه الا تدخل الآباء! يذكر وجبته لأنه أحبها بشكل خاص، كانت عصيدة غنية لها طعم حلو، قالوا له ان اسمها "بالخا بانتينا" و هي تعني "السمينة الجميلة" بالآسترية مصنوعة من حبوب الجاودار التي تشتهر بها المنطقة ويضاف لها العسل و القرفة و الكثير من الحليب، و المكسرات كالجوز، أحب طعمها و لكن معدته لم تتحملها كما تحملتها معدة بقية أقربائه و التي أعطتهم طاقة مباشرة.
تمكن منه توتر تركه كجرو صغير أمام أخواله الثلاث، و لكنه وجد ترحيب كبير من الملك و خاله موسى ولكن كان خاله عيسى ملتزماً زاويته ينظر له بنظرة حملت الاعتراض والكثير من الشك و الغضب الذي انعكس عليه فوراً فلم يتساهل هو الآخر بنظراته.
"أنا سعيد أنك اخيراً تقف بيننا اليوم" قال الملك محمد بحماس
كان يقف أمامهم و عقله لم يستوعب بعد أنه مرحب به هنا بهذه السهولة! فهو في حياته الماضية لم يتخيل ان يأتي شئ بالسهولة، و كل شئ كان يجده سيأتي بثمن! الشئ الوحيد الذي علم أنه كان بلا ثمن هي رحمة الله التي وسعت كل شيء! كان قد انتابه بعض التأنيب اذ انه كان قد جاء حاملاً في قلبه اتهام ثقيل على الصدر! و الكثير من الأسئلة المعلقة وطلب يتيم!
"كان هناك رجل يدعى سيرسيوس …" قال بتردد و هو يفتح موضوعه واضعاً نصب عينيه الترتيب الذي كان سيتخذه حتى يصل لمآربه
"رحمه الله" قالها خاله موسى
"لقد مات قبل سنتين بسبب حمى أصابته كان كبيراً في السن اساساً" قال خاله بحزن واضح
"حقاُ" يذكر أنه قالها وهو يقاوم صدمته وقد باغتته شهقة خنقت أوصاله و لكنه احتفظ بها لنفسه، شاعراً أنه صغير جداً أمام وقع الخبر الذي نزل عليه كالحجارة الكبيرة! لقد تذكر دعاءه القديم فدعا الله في سره أن يجمعه بمن سماه يوماً عائلته في الجنة.
"لا أتخيل أن زيارتك هذه لكحل عيوننا يا ولد" نطق بها الخال عيسى
"عيسى.." نهره أخيه الأصغر و لكنه تجاهله و بقي مركزاُ بكل ما فيه بحدة لعتبة والذي استفزته اللهجة الساخرة و النظرات الكارهة! و لكنه كان محرجاً و إن كانت كرامته كما سماها هي الثمن فقال:"أنا جئت طالباً الحقيقة…….و الحماية"
هنا فقط استقبلته ضحكة سخرية من أخواله محمد و موسى و أما عيسى فوقف يبتسم بسخرية دون ان يقدم اي ردة فعل اخرى وكأنه لم يكن بحاجة لمضايقته فهو أحرج نفسه سلفاً.
شعر بالانزعاج و كاد يعود أدراجه هارباً من السخرية التي كرهها، فهذه الاهانة تركته يشعر بصغر حجمه و كأنه عاد طفلاً يسخر منه قومه!
"أرجوك لا تشعر بالاهانة منا يا ولدي" قال خاله محمد من بين ضحكاته و لكنه أكمل و قال:" لو كنا نستطيع توفير الحماية لك لوفرناها لأختنا قبلها"
"و لكن لماذا؟" قال وهو في قلبه كل الأسئلة، لماذا تركتوها تموت وحيدة ؟ و تركتوني وحدي تذروني رياح القصر القاسية؟ الكثير من ال "لماذا؟" استوقفته
"حاولنا و لكن والدك لم يسمح لنا حتى بحمايتك" قالها له خاله محمد و قد ظهرت عليه ملامح الغضب و أكمل بغموض:"كدنا ندخل حرباً….."
"و لكن سيرسيوس…." رد بتردد و في عقله و قلبه عواصف! و هو لا يزال داخله يبكي مربيه وكل عائلته والذي لم يجد الوقت ليودعه!
"يبدو أنهم ملؤوا عقلك بالهراء" قال خاله موسى و الشفقة بانت في عينيه
"لست غبياً ليتلاعبوا بي" قالها و قد شعر بالاهانة
"يبدو أنك لا تستطيع ترى نفسك" قال عيسى بسخرية فجة
"اسمعني هل تعلم لماذا أرسلنا سيرسيوس؟" قال خاله محمد بجدية
"لا" قال بحذر
"لهدفين، أحدهما ليحميك " قال الملك بثقة
"و كيف كنتم تعلمون أنني كنت في خطر؟" قالها بشك
"انه يتهمنا الآن" قال عيسى بفجاجة و كأنه قرأ بين حروف عتبة الذي لم يكن تحديداً يحاول أن يخفي شكوكه بالرغم من طلبه
" لقد ماتت لونا و هي تلدك ولادة مبكرة" قال خاله محمد بحدة و أكمل:" هذا ما أخبرنا به الجميع و لكن كان لخادمتها رأي آخر"
"ماذا تقصد؟" سأل و كأنه علم في قلبه الحقيقة بأكملها و لكنه كان يبحث عن التأكيد، سرقت روحه الفكرة المجردة فلو كانت حقيقة كان يعلم أنه سينهار، حتى لو أخبروه بها ألف مرة
"السم" قال خاله عيسى بقسوة
"السم؟" كررها و كأنه يستطعم ذلك الطعم الكريه مجدداً و كأن الرمان تجسد في فمه و ذلك الموت المحتم يسخر منه!
"نعم لقد كان سبب ولادتها المبكرة هو السم ولكن الخادمة لم يكن عندها الدليل"
"و لكن أين هذه الخدامة يجب ان نتأكد…." قال باندفاع و عقله لم يكن يستطيع استيعاب الحقيقة
" اختفت" قال محمد بخفة في محاولة لتخفيفها
"أنت تجملها يا محمد، أخفوها بشكل قسري و ربما يكونو ازهقوا روحها من يدري؟" قال خاله عيسى
"التزمنا الصمت لسنوات لأن والدك وعدنا بأنه سيحقق بشكل جاد في الأمر" قال خاله محمد و كان سيكمل و لكنه قاطع خاله بوجه منفعل و قال:" و لكنه بالتأكيد لم يفعل كعادته"
“علمنا بأنك تعرضت لحادث السقوط من السور" أكمل خاله محمد بحذر
"تلك.." قالها متوتراً وهو يتذكر شعور الريح، لم يفهم هل كانوا يحاولون تذكيره بكل ذلك الموت عمداً؟
"لا نستطيع أن نؤكد على شئ ولكن أردنا حمايتك"قال خاله محمد
"و ثم؟" قال و هو يريد أن يعرف اكثر
"أنت تعرف بقية الحكاية حادثة الرمان و بعدها طرد سيرسيوس" قال خاله……. و أكمل بعد فترة صمت :"ولكن…"
"و لكن؟"رددها باحثاً عن بقية الحكاية
"كان سيرسيوس حامي لك نعم ولكنه كان جاسوسنا" قال خاله بصراحة و هو ينظر لعينيه بثبات. لم يخجل منه وهو لم يكن يتوقع هذه التكملة.
"لماذا كنتم بالحاجة لتتجسسوا على القصر؟" سأل بريبة
"أمرين" قال خاله و أكمل:" كنا نحتاج أن نطمئن من نية والدك على الأقل و… كنا نحقق في مقتل والدتك"
وقف أمامهم يحاول احتواء صدمته! كل انفعالاته لم تكن مناسبه و لكن الصمت صديقه القديم كان هو الحل صمت و هو صمتوا غائبين في حزن وحسرة… علم أن جميعهم لم يتخطوا موت أختهم.
"لن تفهم الآن يا عتبة" قال خاله محمد
هنا فقط فقط سمع خاله موسى و هو يقول "تباً" بحنق كأنه سطلق كل غضبه في هذه الجملة.
"هل هذا يجيب على سؤالك الأول يا بني؟" سأل خاله محمد بلطف و أكمل بتردد:" اما عن ثاني طلب …. فهو مستحيل"
"لماذا؟" سأل عتبة و كأنه عرف الجواب انفاً
"الحرب" قال خاله موسى و أكمل:"في الماضي دخلنا في مناوشات حدودية و لكنها أهلكتنا و مهما أعدننا نحن محاطون بالأعداء ولم تعد هذه المملكة كسابق عهدها"
"اي أعداء؟"سأل عتبة و بدى سؤاله غبياً لجهلة بالأوضاع السياسية
"مملكة شولانا تحيطنا من الشمال و بقية الحدود اما لشولانا او للخلافة و نحن وإن كنا مستقلين ندفع الأتاوة لوالدك" رد خاله
"و لا تتخيل أننا يا بني، سوف نضع يدينا بيد مملكة كافرة مقابل الخلافة" قال خاله محمد و أكمل:" و هددنا والدك بأننا سنفتح الحدود لشولانا و هذا ما تسبب بالمناوشات و قد كلفت شعبنا ولكننا لاحقاً وصلنا لاتفاق… بالأحرى وعد لم يفي به والدك بالتحقيق في الأمر" و أكمل و كأنه ينهي الحديث العتيق والذي فتح جراحاً:" و لكنك مرحب بك هنا بالتأكيد و كما أنني بحاجة لتسليم ورث أمك لك قريباً"
"ورث أمي؟" سأل بحيرة
"لم أثق بأن اسلمه لحاشية والدك بصراحة، كنا سنفعل عن طريق عمك سهيل فهو ساعدنا كثيراً في الماضي " قال خاله
فما هو قرار عتبة بعد معرفة الحقيقة؟ هو لم يعرف الحقيقة بل بقيت بداخله الكثير من الأسئلة و لكن بقي سؤال آخر سافر لأجله و لكنه أجله حتى يستجمع نفسه من هذه الصدمات و البقاء هنا كان يبدو أكثر راحة ولكن ربما كان سيستطيع ان يصل لخيط يدل على زوجة أبيه
"سأبقى" قالها باحراج مقاوماً كل عزة نفس فيه
"هذا جيد" قال الملك و الذي ابتسم له بحنين كبير
"لا أعتقد أنها فكرة سديدة" قال خاله عيسى الذي خرج من صمته فجأة معارضاً كلام ملكه
"عيسى ما الذي تقوله؟" قال خاله موسى و الذي أمسك أخيه ليفهم منه
"لن أجامله يا أخي و لن أجمالكم و أنت تعرف أساليبي" قال منفعلاً وكأنه اكتفى من الصمت و أكمل :" انه جاسوس"
" هل جننت؟" هنا صاح موسى منفعلاً
"توقف" قال الملك
"هل تثق بأحد من ذلك المكان؟" قال عيسى
"انه ابنها… ابن لونا" قال موسىى و كل مشاعره فاضت فذابت في تلك الجملة بكل حزنها و حنينها و حنانها
هنا فقط وقف عتبة بكل كبريائه و اندفاعات مراهقته فصاح:"أنا لست جاسوس" و أكمل و كأنه تذكر أمر مهم:" ولست أنا من ارسل جاسوساً"
"ما الذي تفهمه و أنت لا زلت بالكاد تخطي" قال خاله عيسى ساخراً
"أفهم الكثير"صرخ بغضب و كأن خاله أفرج عن كل ما كان يعتقد انه كامن فيه
"انك لا تعلم ما الذي ضحينا فيه!" قال خاله عيسى صارخاً و أكمل:" بسببك رحلت"
هنا وقف عتبة و شعور بالذنب جديد ولد فيه بذلك اليوم و كان قد بدأ يأكل داخله ذنب لم يكن في يده و لكن في اللحظة كانت منفعلاً فصاح:" انتم من ضحيتم فيها! لماذا زوجتموها له ؟"
"هذا يكفي يا عتبة" هنا تدخل خاله محمد اخيراً وأكمل:" انسى ما حدث و أنت كما وضحت مرحب بك"
كانت لحظة صمت قد انتهت بجملة من خاله عيسى :" أدخلنا ذئب الخلافة لدهاليزنا وسنندم جميعاً على هذا "
" أكثر من ما نندم عليه اساساً" نطقها موسى اخيراً
خرج عتبة من تلك الغرفة و بداخله ألف سؤال و بقيت ترن في اذنه كل الكلمات و اللقب الجديد الذي أضيف لقائمة ألقابه الكثيرة كان قد ابقى في حلقه طعماً مراً فهو شعر أن حتى في هذا المكان لن يرحموه من الافتراضات و القوالب المرسومة مسبقاً! و بقي في قلبه حزن فراق الرجل الطيب والذي لم يعرف كيف يبكيه وهو وحيد في تلك الدار فشعر أنه وحيد في هذه الأرض.