الفصل الثالث والعشرون
الإنجراف
كاد يضل الطريق و ينسى سبب وجوده هنا! علم انه كان سينجرف للمعارك الصغيرة و ينسى معركته الأكبر ان اعتبر كل معاركه شخصية! فبعض المعارك تكون شخصية من طرف واحد! فمعركته مع جرير الرياحي كانت شخصية ولكن هو علم أنه يجب ان لا ينجرف لها! علمه ذلك الأفعى الملتوية ان هناك حقيقة بين كل الكذب الذي قد يتفوه به المجرمون و الحقيقة كان قد اعترف بها عندما قال "لا يوجد لديك دليل"
من هذه النقطة و عندما هدأ عرف كيف يحكم عقله قليلاً ويفكر و لا يركض خلف المعارك التي لا تخصه و يختار توقيتها المناسب، فهو كان متأكد أن لكل معركة توقيت و ان كان هذا الإندفاع والإنجراف طبع ولد به! فهو أدرك و تأكد من براءة آسترا من دم والدته او تسميمه او حتى توريط ليلى النعمانية، كان يقيناً و إنعكاس رآه هنا في أعين الجميع و لكن بقي "الدليل" و الذي أعجز حتى خواله!
و لكنه جاء لهذا الهدف و لذلك كان سيتكلم مع خاله سهل المعشر الخال موسى. فاختار ان يكون الحديث بعيداً عن الأعين لكي لا يقاطعه سفيه كخاله عيسى و يدمر حبل أفكاره! و لكن و جود خاله موسى وحيداً كان مستحيلاً فهو كان اجتماعي محاط دائماً بالناس وهو حاول تحاشي أغلب الناس، فهو علم منذ اللحظة بعدما هدأ أنه لم يكن معتاداً على التعامل مع هذا الكم من البشر باستثناء التوأم اللذين التصقا في ظهرة باحثين عن الأدهم و التصقت فيهم جميلة الصغيرة ابنة خاله عيسى!
فقرر أن يواجه خاله اخيراً، و استغل فرصة انه كان يرافق أولاده ففي ذات مساء هادئ بينما كان يرافق الولدين والطفلة في الإسطبل وهم يلاعبون الحصان الشامخ والذي ألف الأطفال سريعاً، وأصبح يتصرف حولهم كطفل لطيف!
"ان هذا التدلل لا يليق بحصان قوي يا أدهم" يذكر أنه قالها في نفسه وهو يراقب الحصان الذي راح يقوم بحركات بهلوانية تضحك الأطفال! فوجدوا و لحظ عتبة الخال موسى يداهمهم باحثاً عن أولاده فصاح فيهم!
"هيا إلى الداخل اغسلوا أيديكم و استعدوا للعشاء"
"و لكن أبي" صاح نوح برجاء
" نريد أن نلعب مع زالونو " قال ياسين
"هيا للداخل" رد موسى بحزم فوجد أطفاله يخرجون بإحباط لأنه سرق منهم لحظة مرحهم! و لكن وقفت جميلة في مكانها فصاح فيها:" و أنتِ يا جميلة؟ ماذا تنتظرين؟"
"لست أبي" قالت بطفولية بريئة معترضة
"بنت.." صاح خالها بغضب
"آسفة" قالت و هي تهرب
و اخيراً التفت لعتبة و قال بلطف وحماس:" لقد اصطاد الصيادون الكثير من الأرانب والحمام، سنحظى بوليمة شيقة"
وقف عتبة متوتراً يستجمع نفسه و يحاول أن يرتب الكلمات قبل ان يقولها! فقد وجد خاله يهم بالمغادرة! بينما هو وقف محتاراً ولكنه لم يكن ينوي ان يسمح للحيرة أن تسرق منه هدفه
"يا… خال" قالها و في عقله لم يكن مستعداً ولكن قوى نفسه عندما وجد خاله يلتفت له بلطف بوجه مستفسر منفتح على الحوار!
"نعم"
"يا خال" هذه المرة قالها بثبات و ان بقيت بعض ثقته مقهورة تحت توتر و تفكير بأسوأ الاحتمالات، فأكمل:"هل وصلك اي خبر عن ليلى ابنة عبدالله النعماني؟…. زوجة والدي؟"
وجد ملامح خاله تتحول من اللطف إلى الجدية و كان كأنه يبحث عن الجواب !
"أعلم أنها اعتنت بك جيداً" قال خاله بحذر و أكمل بنبرة ألطف:" و لكن لماذا تبحث خلف هذا الموضوع؟"
"في الحقيقة أنا جئت لأنني…. سمعت من أحد السفهاء أن لكم يد في الموضوع" قال و قد تردد قليلاً أمام ردة الفعل!
وجد خاله يأخذ مقعداً على أحد الحاملات الخشبية في الإسطبل و هو يتنهد و يردف:" لا أعتقد أنه من اللائق ان تبحث حول هذا الموضوع يا ابن أخت"
"لماذا؟" سأل باندفاع و كأنه ذاق طعم الهزيمة مبكراً و تذكر حديثه مع أخيه عبدالعزيز
"لأنك ستعرض نفسك للخطر" قال خاله وقلق حقيقي كان بادي على ملامحه
"و لكن لماذا تعتقد أنني لست في خطر؟" قال معترضاً
"لقد طلبت منا الحماية…. أليس كذلك؟" قال خاله بشئ من الحدة و أكمل:" وهذا يعني أنك، اخترت هذا الطريق الخطر."
"و لكنك لا تفهم حياتها على المحك….." قال عتبة
"إنها بخير" قال خاله مقاطعاً و كأنه قطع كل حبل اعتراضاته
"أين هي؟" سأل بلهفة
"لا أستطيع أن أدلك على مكانها و لكن تأكد أنها بخير"
"هل نفوها؟" سألها بحذر و كأنه وصل أخيراً للجواب الشافي
"والدك لا يستطيع تطليقها أو قتلها" قال خاله و أكمل بسخرية:" يخاف من غضب النعمانيين و لكنه لا يخاف الله"
نظر له عتبه بوجه فارغ كل تلك النيران في لحظة خمدت أو كانت ستخمد و لكنها اشتعلت مجدداً
"ما هي تهمتها؟ ان الخيانة أمر مستحيل أنا أعرفها" قال بإندفاعه المعتاد
"ولد ….اهدأ" قال خاله موسى و هو يهدئه و أكمل:" وهل تهم التهمة طالما إنها باطلة"
"لقد اتهمكم ذلك اللعين" صاح عتبة
"لقد تواصلت معنا " قال خاله وكأنه يلمح للتهمة اخيراً
"لماذا؟" سأل عتبة بقلب راجف خائف من الحقيقة
"طلبت الحماية لك" قال خاله بعد لحظة صمت
"حمايتي؟ "قال عتبة و عاد قلبه لمكانه و لكن حل محله شعور آخر….
"ليس لدي الكثير من التفاصيل و لكنها عرفت ان هناك من كان يريد اغتيالك… تواصلت معنا طلباً لحمايتك وضمانك" قال خاله بتردد وهو يدرس ملامحه، استشعر عتبة ان خاله لم يكن يريده أن يعيش تحت فكرة أنه تسبب بكل هذا لأنه أكمل:" هم كانوا يريدون تصفيتها هي ووالدها فما الذي سيقنع كبار قبيلتها بالأمر غير هذا الدليل الكاذب؟"
"و لكن لماذا يخافون هذه القبيلة ؟" قال عتبة بإستغراب مع امتعاضه من جهله بالأمور السياسية التي تخص بلد والده
" لأن جيش الخلافة قائم على هذه القبيلة" قال خاله ببساطة فارضاً الأمر الواقع المفروض
"و لكنها لم تحاول ان تخون الخلافة" صاح عتبة
" الاستخبار مع دولة اجنبية و ان كانت حليفة، طلب حماية و ان كان طلبها لرجل واحد سيبدو في عين الناظر للأمر أنها تطلب جيش!"
"لم تكن حياتي في خطر لتلك الدرجة… لا أتخيل أن الأمر استحق هذه التضحية" قال عتبة مندفعاً و داخله يحترق من الغيظ
"قد لا تعلم يا ابن أخت… و لكنهم يرتجفون في مكانهم من وجودك او وجود طفل من صلبها" قال خاله مقاطعاً
"لماذا ؟ …" صاحها وهو يحاول ان يفهم و أكمل:"أنا لا ابحث عن شئ كل ما أريده منهم هو ان يتركوني أعيش بسلام"
"أخيك عبدالعزيز… ورقتهم الرابحة" قال خاله بحذر و كأنه ينتقي الكلمات:" انه مريض"
"مريض؟" قال عتبة بخوف
"الصرع"
هنا فقط تذكر عتبة قلق أخيه تلك الليلة! مع ذلك نمى فيه ذلك الشك المقيت ففي عقله شعر أن الأمر كله مسرحية متقنة حتى سؤال عبدالعزيز القلق بدى و كأنه سم خفي…. أرجف أوصاله! مع ذلك كان لا يزال تحت وطأة القل على مرض أخيه الذي اكتشفه للتو.
" ولكنه ليس مرضاً قاتل" قالها مبرراً
"مع ذلك هذا قد يفقده أهليته كولي للعهد" قال موسى
"من يهتم طالما هو لائق للحكم؟ هو بالتأكيد ليس مجنوناً"
لا يدري لماذا تحولت دفة الحديث منه إلى الدفاع عن أخيه و أهليته للخلافة
هنا تنفس خاله وهو يبتسم فقال:"أعلم أنك تراه لائقاً لأنه أخيك لو سمعت اي قذر يتهم أهلية أخي محمد في الحكم سأقطع لسانه و لكن الخلافة ليست أمر بسيط يستهان به…أعداء داخليين وخارجيين و مملكة كبيرة متوسعة و لكن منهارة و متسلقين للسلطة يريدون تناول قطعة من الحلوى الكبيرة بالتأكيد ليس امراً بسيطاً لأي رجل مهما تهيأ فما بالك برجل مريض"
استوقفه الأمر كثيراً و بقي يتأرجح في الشك و الإحتمالات!
"عبدالعزيز لا شأن له بالموضوع هو وبالرغم من الضغوط كان مستعداً لتقديم كل التضحيات و على حداثة سنه كان يستطيع تحريك الكثير من الأمور ولكن.." قالها خاله بتردد و أكمل و كأنه كان يعرف شئ جهله عتبة:"العائلة تأتي اولاً"
"هل كان يحمي أحد من عائلته؟" سأل عتبة واضعاً كل الاحتمالات، لأنه شك انه ربما كان يحمي جرير الرياحي مثلاً ابن عم والدته.
"كل ما يجب ان تعرفه هو أنه كان مجبر" قال خاله بغموض و لكنه اخيراً قطع الحوار بمرح فقال:" سنفوت وجبة لذيذة هيا لنعد لتناول العشاء" و أكمل و كأنه تذكر أمر مهم:" بالمناسبة طالما أن بقاءك سيطول لماذا لا تنظم لأقاربك في حصصهم ان أولاد محمد، أحمد و أسامة قريبان من عمرك تقريباً"
كان صامت و لم يعرف بماذا يجيب فكان رد خاله و اذ ابتسم و لم يمهله فرصة فقال:" سأخبرهم لا تقلق كن مستعداً في الغد "
لم يخرج عتبة من ذلك الحديث وهو نفسه عتبة الأمس! كان يشعر أنه كبر كثيراً! في الماضي كان يعتقد أن عدوه واضح و لكن سكنته أشباح جديدة من الشك حتى في أقرب المقربين؟ من كان يحمي عبدالعزيز و لماذا؟ هل هو معهم خائن يدعي المحبة؟ لا يتذكر أول لقاء لعبدالعزيز فهو كان صغيراً لم يكون عنه اي إنطباع، اساساً كان لا يكون الانطباعات، و لم يهتم حتى جاء أول درس للسيف، فقد كان هذا في بهرمان في إحدى ساحات الحرس! مكان لا يليق بملوك وأمراء، دخل بلابسه البسيط كانت له هيبة ملوك مظهر خشن حتى لفتى في ال١٨ و أمام عتبة ذا ال١٣ عام بدى حظوره أعمق بمراحل، فهو ما ان ابتسم ارتاح عتبة والذي حمل على عاتقه يومها كل دفاعاته التي اعتقد انه حصن نفسه بها
"اخيراً خرجت وسمحت للشمس بملامسة وجهك" يذكر أنه قالها ممازحاً وهو يحتضنه بحماس
" لا شأن لك" يذكر أنه قالها بجلافة وهو يهرب من الأحضان المفاجئة وهو يرمق كتلة اللطف التي انبثقت من الشاب خشن الملامح!
و من ذلك اليوم بدأت علاقة اخوه غريبة بدأت بحذر و شك و انتهت لتكون أكثر علاقة لم يعرف فيها عتبة تكلفاً! كان يستطيع أن يقول لأخيه كل شئ بلا تكلف مثل
"تعلم أنك يمكن أن تكون متملقاً"
"أنت محق أنا متلق و أنت نزق" كان يقولها له مازحاً
"أنا لا أمزح" يذكر عتبة كيف كان يقولها منزعجاً و يعتبرها سلبية في أخيه
" أنا بحاجة للتملق لأعيش و أنت بحاجة للنزاقة لتعيش"
هو في ذلك الوقت لم يعرف ما يعنيه اخيه ولكنه عرف بعدها أن أخيه كان يعاني بشكل آخر وهو التالي على كرسي الحكم! فكونه ابن الخلافة المدلل لم يكن أمر سهل! اختاروا له حياته، كيف يلبس كيف يتكلم ماذا يجب ان يحب او يكره، هواياته واهتماماته كلها كانت بمقدار! و في عالم مثالي كان عبدالعزيز سيكون فارساً و محارب بارع لا يشق له غبار و لكن، الواقع فرض عليه مسؤوليات أخرى أخذها على عاتقه بشغف كما اعتقد عتبة فهو في حياته لم يعرف احداً أكثر شغف من اخيه!
و على طاولة العشاء تجمع الجميع كالعادة و هو معهم غارقاً في كل شئ فسمع خاله موسى يقول من بين فمه الممتلئ بالطعام
"أحمد" قالها و راح يسعل اذ شرق بالطعام فوبخته زوجته و التي علم أن اسمها ناسيا لاحقاً بلطف و هي تربت على ظهره:" امضغ طعامك اولاً"
"أحمد… أنت وأسامة اعتنيا بابن لونا سيكون معكما في الدروس منذ الغد"
وجد الفتيان يلتفتان له، أحمد و الذي كان يكبره بعام حمل ذات الملامح الآسترية و لكنه كان يمتلك شعراً أجعداً كشعر والدته، و أما أسامة والذي كان يصغر عتبة بعام، فكان له شعر طويل و عيناه حملتا لوناً أخضر يميل للرمادي. توقف ينظر لهم فهو لم يكن سهل المعشر و لم يدخل أي أحد في حياته وبدا له كل أولاد أخواله متشابهون حتى اللحظة هو لم ميزهم من قبل فقد حمل أحمد ملامح رزينة تعبر عن شخصيته الهادئة و لكن أسامة حمل ملامح مشاكسة و علم عتبة أنه طائر حر لا يحب البقاء في مكان واحد.
"يبدو أن هواء آسترا قد ناسبك يا ابن العمة"
كانت المتحدثة هذه المرة ابنة خاله محمد
"لونا" نهرتها والدتها ، يذكر أنه نظر لها بفضول، فهي حملت اسم والدته، كانت لونا ذات ال١٤ عاماً آسترية و بجدارة، بشرة بيضاء عينان خضروان بل الناظر لها يجزم أنها الأكثر اخضراراً، و لكن نظرتها كانت فيها نوع من الحدة الغير متعمدة، كانت ترتدي الحجاب، و مع ملامحها الانثوية شعر انها حملت ملامحاً ذكرته بخاله عيسى مع أنها كانت ابنة خاله محمد،.
"لا تهتم بهذه الوقحة" قال أسامة وأكمل:" لا تقلق سأعرفك على الجميع"
"إن كان أنت من سيعرفه يا أسامة فأنت ستقدمه لكل أهالي آسترا" قالتها لونا بوقاحة
"لونا سيبرد عشائك" قالتها والدتها مجدداً
"استعد في الثامنة صباحاً" قال أحمد بحماس وأكمل:" سنتوجه لدار العلم"
"استمتع بوقتك"قالتها لونا تاركتهم خلفها وكأن في قلبها اعتراض لم تبح به!
"سبحان الخالق الناطق" يتذكر أنه سمع خاله موسى ينطقها و وجوه الجميع قد غابت في حزن وشوق.