الفصل الرابع والعشرون

٧ أرانب وذئب

كان قد حقق هدفه و عرف حقيقته و لكن لم يعرف كيف يتراجع فيعود للجحيم المتمثل "بقصر الخلافة"، و لذلك اختار البقاء، و كان لبقائه سبب أوضحه له خاله محمد في محادثة عابرة

"إن ورث والدتك يشمل أراضٍ زراعية ورعوية تُدار هنا في آسترا، ويُشرف عليها السيد رؤوف، رجل موثوق ستقابله قريبًا. كما أن لها أوقافًا مسجلة باسمها: ثمانية آبار موزّعة بين آسترا والخلافة الزُهَيْرية، وأخيرًا… قصر إيبيا."

فهم من خاله أن أمر تسليم الورث سيأخذ بعض الوقت،

لذلك قرر أن يمشي حيث تلقي به الرياح و يرتاح قليلاُ من توتره و ان كانت مهمته صعبة، لم يكن منفتحاً بسهولة لمن حوله و لكن استطاع و بعجزة متمثلة في "الطائر الحر" كما ابن خاله محمد "أسامة" و الذي لم يسمح له بالجلوس في زواياه كما اعتاد، و حتى أحمد و الذي كان هادئ بطبعه كان يفتح معه الأحاديث المختلفة لكي لا يجلس صامتاً، علم أن أهالي آسترا كرهوا الصمت و هو سيده! مع استثناء خاله عيسى لذي كان يتصرف بطبيعة مختلفة عن البقية! . اخيراً مع الوقت كان قد وجد روحه مستعدة لهذا الإستقرار مع أنه لم يستسهل عملية التعود و الإنفتاح على البشر لطبعه وخوفه وعدم ثقته بالآخرين بشكل عام، مع هذا لا ينكر أنه عاش اياماً كانت بالنسبة له نعيماً بالمقارنة بما في قصر والده الا أنه كان يشعر بالتخبط! مشاعره كانت كموج يلاطم سفينة لا مستقر لها!

فهو علم أن ليلى ووالدها بخير لم يكن هناك خطر إعدام و لكن شعر أنه السبب في كل هذا و حتى لو أرا مقابلتها سيعرضها و نفسه للخطر! فبحثه خلفها كان خطراً في حد ذاته فاستلم حتى يجد حلاً!

يذكر عتبة أنه بدأ دروسه في دار العلم الموجودة في آسترا هناك قابل الكثير من الشباب في عمره و بدأ دروسه بشكل جماعي و كان بطبيعته يحب التعلم بشكل مستمر فالركد لم يكن طبعه، فهو كان في حركة مستمرة و يحب الإنجاز بشكل عام. ويذكر حماس أقرباؤه و هم يخبرونه عن رحلات الصيد الأسبوعية حيث كانوا كل سبت يخرجون للصيد، و وعدوه ان يأخذوه لقبر سيرسيوس و الذي دفن في المقابر الموجودة في الأحراش و ذلك نزولاُ لطلبه. يومها رافقهم ابن خاله عيسى ذا ال11 عام مروان، حيث بدأت رحلتهم و هم يعلمونه أكثر مما يصطادون و حتى اقتربوا من مكان المقابر توقفوا وهناك وقف على القبر المعني حيث اشاروا يدعو كما وعده أن يكونا معاً في الجنة، سمعوا فجأة صوت ذئب بعيد

"انتبه من اصطياد الذئاب انه فأل شر" قالها أسامة

"و لكن لماذا؟" قال متعجباً و لم يكن يخطط اساساً لذلك و لكن الحديث شده

"لا أعلم الجدات يتداولون الأمر و لم أفهمه حتى هذا اليوم" رد أسامة بلا مبالاة

"قالت لي جدتي أنني لو اصطدت غزالاً أبيضاً سأنال حظاً لبقية عمري" قالها مروان و الذي كان يستمتع بالصيد بشكل خاص ويبرع فيه

"لا تستمع لهم يا ابن العمة انهم يملأون عقلك بخرافات بائدة" قال أحمد وهو الأكبر بين الجميع و أكمل و هو يرمق البقية و قال:"اساساً لن تقابل الغزلان البيضاء لم تعد تتواجد و لكن الذئاب وإن ندر ظهورها احذر منها تصبح شرسة خصوصاً في هذا الوقت من العام "

"إهو إيّا" قال عتبة في محاولة منه أن ينخرط معهم

"انظروا اليه لقد تعلم الآسترية بسرعة" قال أسامة بحماس

"لدي معلمين ماهرين كل يوم يعلموني ما يكفيني من الكلمات و طريقتها الصحيحة بالنطق" قال عتبة بمرح

" يبدو ان ياسين ونوح لديهما وقت فراغ كبير" قال أحمد

"انهم يقضون بعض الوقت مع زالونو لقد اتفقت معهم، ان يعلموني مقابل الوقت معه، فبعد ان كشفت سرهم أبرمت معهم اتفاقية اخرى"

يذكر عتبة أنه وجد الأدهم يقفز في غضب، فقال ضاحكاً:" أنا آسف يا صاحبي عليك أن تعتاد على الإسم"

و في هذه الرحلة عرف أهمية الصيد عندهم كونها عادة مهمة و مصدر لطعامهم فهم لم يزرعوا الكثير سوى من الحبوب ولكن اللحوم كانت مهمة، خصوصاُ الأرانب والغزلان.

من وقتها ذهب مع أقربائه للكثير من رحلات الصيد فهو كان يعرف كيف يستخدم السهم بشكل بسيط و لكنه طور قدراته تلك معهم و كان سريع التعلم نهماً يبحث كل يوم عن شئ جديد لتعلمه، فهو استطاع بسهولة ان يتخطى اقربائه في الدروس ويسبق حتى أحمد الذي كان يكبره بعامين.

كان شهراً و بضع أيام قد مرت كانوا في فصل الصيف و لكن الصيف هنا كان كالشتاء في بهرمان، نعم استمتع الجميع بارتداء ملابس أخف و بالشمس التي منحتهم القليل من الدفئ. و لكن كان الصيد في الأحراش و عند تخوم الجبال صعباً عليه ولم يعتده جسده فالجو كان بارد،حيث انه اضطر للتخلف عن الركب و البقاء في الخلف بسبب ذلك! و لكن تلك الأحراش سرقته بجمالها كانت و كأنها تحكي له الحكايات القديمة، و رائحة العشب بعد ندى الصباح كانت تنعش جسده بالرغم من البرودة! و لكن كل رحلات الصيد ذهب لها لم يتمكن سوى من صيد بعض الأرانب الصغيرة ولكنه لم ينجح بصيد الغزلان كما فعل أقرانه، و هذا جعله يشعر أنه أقل منهم جميعاً و هو تعلم المنافسة الشريفة منهم، فهم تنافسوا على ما اصطادوا، و لذلك أراد ينعم بصيد الغرال!

و في احدى رحلات الصيد هذه يذكر أنه استعد بهدف اصطياد"الغزال" و لم يخفي نيته تلك عن بقية من كانوا معه، إذ كان سينافسهم هذه المرة بشراسة وشرف،

"هذه المرة ستكون الغزالة من نصيبي"

يذكر أنه قالها معلناً لمحمد و أحمد ومروان و لم تفته نظرات السخرية التي أطلقها خاله عيسى! و هذا زاد اصراره و عزيمته كان يشعر أن الضغط أكبر عليه و لكن هذا الضغط والحماس جعلا جسده كله أكثر دفئاً يومها!

يذكر أنهم انقسموا و هو قد وقعت القرعة عليه ليرافق أصغر القوم المولع بالصيد مروان، شعر أنه محظوظ لأن الفتى كان مهتماً جداً بالصيد و لديه مهارة خاصة في الوصول للغزلان. و كانا محظوظين لأنهما اصطادا عدد لا بأس به من الأرانب و لكن بقي"غزاله الهارب"والذي اعتقد يومها أنه فشل في صيده، لأنهم عقدوا نية العودة مع الغروب إذ وقفوا على بعض الجبال القريبة من الأحراش.

يومها أصابه الفضول بالأطلال القديمة و التي اعتقد أنها منسية مضاءة أنوارها فسأل مروان

"ما بال الأطلال في أعلى الجبل يا مروان كل ليلة تضاء اعتقدت في البداية أنها غير مأهولة"

"ذاك انهم…. عائلة ليمانور؟"

"لم أفهم؟"

"هذا معبد قديم يعود للديانة القديمة " قال مروان شارحاً و أكمل:" اعتنق قومنا في الماضي ملة إيلور، كما ترى جميع قومنا اعتنقوا الإسلام اليوم إلا قلة قليلة و منهم عائلة ليمانور و هم ينحدرون من عائلة كهنة لذلك لا يزالون متمسكين بملتهم "

" إنه لأمر غريب" قال عتبة بإستغراب

"هل تعلم أن لهم طريقاً في الجبل محرماً الا على الكاهنات و لم يعد هناك كاهنات في هذا الزمن الا العجوز راسيلا ليمانور و هذا الطريق اشتروه و لذلك هو ملكية خاصة بهم" قال مروان و أكمل:" و لكني لا أفهم اي شئ من طقوسهم "

"عموماً دعنا نعود….." كان سيقولها عتبة و لكن الفتى هجم عليه وهو يخرسه "صه"

"ماذا؟" قالها عتبة بهمس غاضب و لكنه سرعان ما انتبه على ملامح الفتى المركزة

"هناك…. انه غزال" قال الفتى وهو يشير عليه بحماس

وسط هذا الحماس لم ينتبه مروان للمخلوق الآخر الذي اختبأ طامعاً بنفس الفريسة، فهجم الفتى هو والمخلوق في ذات الوقت حتى وجد الصغير نفسه وجهاً لوجه مع أنياب ضخمة كان ذئب ضخم له فراء رمادية، بمنظره البشع المثير للرعب والهلع، كل هذا كان يجري على مسمع و مرأى من عتبة و الذي وقف و قد تخدرت أوصاله من الخوف، و لكنه سرعان ما استوعب أن بين الوحش ومروان خطوتين ، تنبهت كل حواسه اخيراُ و عادت للعمل بصورتها الطبيعية، فهدأ نفسه و بتركيز شديد وهدوء قاتل صوب سهمه، فأصمى ما أصمى إذ أصاب عين الذئب، و لكن تلك لم تكن ضربة قاتلة فالقاتلة كانت في بطنه، و سرعان ما خر الوحش بجسده الهائل واقعاً بين دماؤه، فخرج الصغير مرتجفاً من تحت الذئب و الدموع تجمعت في عينيه و لكنه قاومها بعناد ذكر عتبة أن مروان هو ابن خاله عيسىى و هو يقول بخوف صبياني مكابر

"كدت أموت"

اخيراً تنفس عتبة كان منذ دقائق قد نسي كيف يطلق أنفاسه ، في داخله شئ و كأنه استيقظ تلك الرغبة للحماية، هو لم يعرفها حتى مع غياب زوجة أبيه و لكن هذا اليوم علم أن فكرة فقد أحد هو يهتم لأمره مؤلمة و و وقوفه صامتاً هو عار!

يومها عادا حاملين فرائسهما مرتجفين

"٧ أرانب و ذئب!"

حملا الذئب و بقي هاجس استيقاظه فجأة يرافقهم طول الطريق مع أن عتبة عاد لطعنه ليتأكد أنه قضى عليه.

وقفا على أعقاب الغابة حيث اجتمعت حملة الصيد الصغيرة، و أمامهم الجمع متعجبين من الخلوق الذي سمعوه و لم يروه منذ زمن بعيد و أما المراهق و الصبي فوقفا و الصدمة لم تفارق جسديهما الذي بقيت رعشته الخفيفة خفية، و تمكنا من إخفاء دقات قلبهم المرتعبة! هنا فقط انتبه عتبة لخاله عيسى الذي علت وجهه نظرة غريبة لم يعرف في البداية كيف يفسرها و لكنه عرف انها نظرة قلق وخوف! علم ان حتى أعند الرجال لديه نقطة ضعف و عند خاله تمثلت تلك في عائلته! و لكنه لم يظهر ذلك الضعف فسأل بنبرة متماسكة

" ما الذي حدث؟"

"لقد اصطاده… عتبة" قال مروان وهو لا يزال يستوعب ما حصل له

هنا فقط امتلأ الخال غضباً و صرخ في وجه عتبة :" هل جننت؟… هل تحاول أن تموت؟"

"لا…." صاح مروان و أكمل و كأن وعيه قد عاد له اخيراً:" لقد باغتنا وكاد يفترسني و لولا ستر الله و رمية عتبة لكنت اليوم ميتاً"

وكان عتبة أمام المشهد قد احتار بدل اندفاعه فتوبيخ الخال لم يكن بداعي الغضب إنما القلق! و هو إهتمام لم يره كثيراً في حياته و لم يتوقعه من خاله عيسى عدوه الوحيد في آسترا و لكنه سمع استهجان البقية!

"فأل شؤم!"

"ستلاحقه الذئاب"

"اصمتوا" صاح فيهم الخال عيسى و أكمل:" ان هذه معتقدات فاسدة لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله ستحمدون الله على سلامتكم و تطلبون رحمته و حمايته!"

تراجع الجمع و كأنهم أدركوا خطأهم و سمع البعض يستغفر و كأنه عاد له رشده، هو لم يسأل و لكن السؤال الذي ملأ عينيه وقتها جعل أحمد يشرح له:" اعذرهم فهم لم يروا ذئباً ميتاً منذ أكثر من خمسين عام، انها معتقدات وثنية لا تقم لها بالاً، في الماضي كان الصيادين يقتلون الذئاب في الجبال ليستفزوا إلهة الجبل وحامية الذئاب أرونا زوجة الإله إيلور، في اعتقادهم أنها ستذيب الثلوج و سيستطعون ان ينعموا بجو معتدل للصيد، و اعتقدوا أنها كانت تطلق ذئابها لتنتقم منهم، لم نعد نؤمن بهذه الأشياء و الحمدلله… إذ من الله علينا بالإسلام و الهداية"

"اساسًا نحن لم نعد تصطاد الذئاب لأنها بكل بساطة لم تعد تظهر كثيراً في الجبال" أكمل أسامة

لم ينل في ذلك اليوم "غزاله الهارب" و لكنه بعدما عاد للدار و استقر فيها في محاولة لفهم يومه, حضى بزيارة خاصة من خاله عيسى زيارة شكلت شكلاً جديداً لذاته و أجابت على الكثير من اسألته!

2025/05/31 · 3 مشاهدة · 1705 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025