الفصل الخامس والعشرون

الملكة

لم يكذب من قال أن هوى عتبة آستري، فآسترا كانت قد فتحت له أحضاناً بحث عنها في بهرمان و لم يجدها! ربما هو لم يحب بهرمان يوماً الا بسبب عاشقة البحر تلك والتي في المحصلة لم تكن عاشقة الا لبحر بهرمان وأما بهرمان فهي بقيت المعشوقة المهجورة! فقد خطفت بهرمان كل من أحبها و بات في جوفها ينام مظلوماً و بين ثنايا رياحها تسمع توسلاته!

ففي آسترا هو استطاع حتى مع ألد أعدائه أن يتفاهم، فقد وجد حاد الملامح في تلك الليلة يقتحم غرفته و بلا مقدمات، رامياً سيفاً آستري و من دون مقدمات صاح فيه:" هيا احمله و اتبعني"

لم يجد عتبة نفسه إلا قافزاً من لحظة استرخاء كان مستعد فيها ان ينام الى لحظة حيرة تخللها الحماس!لم يعرف كيف يجب أن تكون ردة فعله فلحق بالخال و الذي لم يمهله وقتاً للتفكير فوجد نفسه في ساحة خلفية كانت مهيأة للتدريب،

"أرني كيف تقاتل… هيا" قال خاله بجلافة

كان عتبة يرتجف من البرد إذ أنه خرج بملابس النوم الخفيفة و لم يكن فيه شئ مستعد لهذه المفاجأة و لكنه مع ذلك حمل السيف و هو يرى إصرار خاله، وهو في كل الحالات كان قد اعتبر الأمر تحدي، لم يكن ينوي أن يثير سخريته أو يهرب كالجبناء من هذه المواجهة، ففعل استجمع قواه و ركز كل حركته على يده اليسرى، اليد التي اعتاد أن يتكئ عليها في القتال، ولكنه وجد أن حركته شلت بشكل مفاجئ و كانت محدودة فالسيف كان ثقيل و مقبضه غريب! لم يعتده جسده و لذلك كاد ينجح و لكنه فشل في هجومه أمام رشاقة خاله.

"لست سيئاً ولكنك بطئ وردة فعلك متوقعة" قال الخال و هو يفكر

"إن السيف ثقيل أنا أعرف كيف أقاتل" قال عتبة معترضاً

فجأة وجد نصل السيف يمر من جانبه برشاقة و كأنه ريشة، و قد جرح وجهه بشكل خفيف، لم يتوقع الأمر، ردة فعله كانت الصدمة المطلقة، و الألم جاء متأخر، سرت فيه رجفة تركته مرتعباً

"ما الذي…." صاح وهو يستوعب ما حدث

"أنت مغرور يا ولد… لماذا تلقي فشلك على الظروف؟" قالها خاله بحدة

"أنا…" قال عتبة بتردد

"هيا تحرك" صاح فيه خاله و هو يعود لرمي السيف له

"انتظر أنا أجيد المبارزة فقط دعني أحضر سيفي" قال عتبة متوتراً

"و هل المعركة ستنتظر سيفك؟" قال خاله بشدة

"لا و لكنني تدربت" قال عتبة مبرراً

"ان تدريبك جيد … لا أنكره و لكنه سيحميك بشكل مؤقت" قال خاله و أكمل:" يبدو أن من دربك كان يحاول ان يحميك و لكن أنت بحاجة لأسلوب آخر إن كنت تريد أن تحمي نفسك"

نظر له بصدمة فهو تدرب على يد أخيه عبدالعزيز والذي تقدم عليه في دروس الفروسية والمبارزة والسباحة، تنفس محتاراً أمام مشاعر متضاربة حاول تسويتها و لكن في تلك اللحظة كل ما فيه تجمد تحت وطأة البرد! و خاله المجنون! فما كان منه إلا أن وقف و حاول مجدداً و النتيجة أسوأ من سابقتها

"هل تسخر مني يا ولد؟" قال خاله بحزم

لم يمهل نفسه فوقف و هو يتنفس بصعوبة و لكن هذه المرة استشعر حركة يده أن السيف هو ما يعيقه بالتأكيد هو لا يتماشى مع يده، جرب للمرة الثالثة و هو يغير اليد و لكن الفشل كان نصيبه، ٧ محاولات فاشلة وقف أمامها محتاراً و تحت إهانات خاله المتكررة الذي وصمه بالفشل جلس و اخيراً سأل:" لا أعتقد أن الخلل كله فيني يا خال"

وجد خاله يبتسم اخيراً ابتسامة جانبية خفيفة وتنهد و هو يقول:" كنت أظنك لن تسأل ابداً"

"سيفك الزهيري رشيق و سريع و ضرباته محدودة تعتمد إعتماد كلي على يدك" قال شارحاً وأكمل:" و لكن سيف آسترا مختلف، انه ثقيل ولكن ضربته حاسمة و تعتمد اعتماد كلي على الجسد و لذلك عليك أن تروضه و لا تدعه يروضك"

"فهمت" قال و قد راح تأمل السيف بين يديه و الذي كان منتصفه أثخن من بقيته

"و لكن لماذا قررت أن….." قال عتبة بتردد بعد فترة

"ألم تطلب الحماية؟" قال خاله و أكمل:" هل ستنتظرها من الآخرين؟"في ذلك اليوم أدرك أن خاله محق هو ان بقي ينتظر الاخرين و لا يتحرك لنفسه لن يصل لشئ سيبقى مقهوراً تحت مخاوفه، و العبد مطالب بالسعي، و لذلك تلك كانت البداية سيتعلم كل ما يستطيع تعلمه من خاله.

ليلتها عاد لداره و بعدها استمرت الدروس، كانت قاسية خارج توقعاته فهو لم يكن يعاني من قبل هكذا، فهو فشل في كل محاولته للتحطم بالسيف الآستري، بالرغم من كل الجهد الذي بذله اذ كان عليه أن يتبع جدول صارم رسمه له خاله، أسلوب حياة لا يرحم، أوقات معينة للتدريب و أنواع معينة للطعام و اخيراً امضى معظم الأيام يتحرط بأثقال علقها على أقدامه لتثبت حركته، اذ يبدأ يومه بعد الفجر يقوم بالركض و بعد الدرس مع أقربائه كان يأخذ دروسا مع خاله، ورحلات الصيد أصبحت رحلات خاصة علمه فيها خاله الفروسية و الصيد و استخدام الاسهم، ومر شهر وهو على هذه الحال، استطاع أن يتحكم بالسيف الآستري و لكن بقي يواجه صعوبة التحكم به بشكل كلي

وجد نفسه ذات صباح أمام خاله محمد مبتسماً و هو يقدم شاب في بداية عشرينياته، آستري الملامح، له ابتسامة أشرقت وجهه، علم انه "جعفر" ولي عهد آسترا و الذي كان في مهمة دبلوماسية و قد عاد للتو

"سيأخذك جعفر لتتفقد متلكات والدتك هنا و بعدها ستزورون قصر ايبيا و لذلك استعد"

" حاضر" قالها و هو ينظر لجعفر و الذي كان يبتسم له بحماس قائلاً:" ابن عمتي لونا… انه لشرف كبير "

"الشرف لي" قال بتردد

عتبة لم يستطع ان يكون اي انطباع عن جعفر في البداية إلا حينما خرج معه في صباح هادئ كان أبرد من المعتاد اذا بدأت الأحراش تتلون بألوان الغروب، والأمطار لم تتوقف، و ذلك الصباح اخيراً لوحت الشمس بلطف، وقف عتبة منتظراً قريبه و الذي وصل متأخراً بعض الشئ بحصانه و هو يقول:" هل أنت مستعد؟"

"نعم" قال عتبة

"أنا آسف لقد كان علي ان انهي بعض الأعمال العاجلة لوالدي" قالها معتذراً

"لا بأس" قال عتبة

"اذاً يا عتبة… سمعت عنك الكثير من أسامة وأحمد و…..حسناً لونا انها غريبة الأطوار لا تجعلها تضايقك" قال جعفر

"انها لا تضايقني" قالها عتبة بكذب و هو كان منزعجاً من نظراتها و في سره تمنى لو يستطيع ان يلزمها حدها و لكنه كبح أمنياته تلك

"لا تكذب علي انها أختي…و أنا أعرف كيف يمكن أن تكون مزعجة" قال جعفر بمرح وأكمل :"و لكنها تشبه العمة لونا بشكل غريب"

صمت عتبة أمام ذكرى والدته كان يحاول ان يتعرف عليها ولكن بقيت أحجية عصية فسأل اخيراً:" هل رأيتها؟"

"كنت في الخامسة عندما رحلت عنا" قال بحماس و حنين و هو ينظر له بثبات، كانت لجعفر أكثر عين صادقة طيبة رأها عتبة في حياته، ذكره بأخيه عبدالعزيز و لكن الفرق أن عبدالعزيز لم يغب عنه الخبث المطلوب منه خصوصاً في غابة ملتوية كقصر الخلافة، أما جعفر كان صافياً كالماء.

"كيف كانت؟" سأل عتبة بتردد و في داخله بقي ذلك الحماس و هو يبحث عنها في اي تفصيلة صغيرة

"كانت امرأة قوية، تربت بين اخوتها الذين مهما حاولوا تدليلها زادت عناداً وشدة، أجادت الفروسية و القتال… كان الجميع يقول انها تصلح لتكون الملكة إذ نالت من اسمها نصيب"

"لونا بالآسترية تعني الملكة" قالها عتبة وقد استوعب الأمر اذ لم يخطر على باله مع انه كان ينطق اسمها في سره كثيرا لكي لا ينساه

"كانت ملكة بكل ما فيها" قال جعفر بحماس

أكملا الطريق صامتين عتبة يحاول أن يحلم بوالدته وجعفر غائباً في تلك الذكريات القديمة

"لقد وصلنا" قال جعفر بحماس

يذكر عتبة أنه رفع نظره و على مد البصر كانت مزارع قطن، و مراعي الخراف، كأن الثلوج قد نزلت لحد الوديان و على المدخل استقبلهم رجل آستري في اربعينياته، كان له حركة متوترة و سريعة، كان متوتراً و لكن عتبة علم أن التوتر والانفعال السريع كانا طبعه، رحب بعتبة بحرارة و هو يقول:" سعدنا بوجودك بيننا مولاي الأمير"

مع أنه كبر مع هذا اللقب و لكن اليوم و للمرة الأولى سمع وقعها يرتل بإحترام وتقدير ربما ليس كله لذاته و لكن عرف أنه لوالدته التي رحلت.

أخذه الرجل في جولة بين مزارع القطن وهو يشرح

" ان قطن آسترا مع ان محصوله أقل.. و لكنه قطن فاخر و فريد و لا يطلب إلا للخاصة من النبلاء و المقربين من الخلافة…و هذا جعل بقية الممالك تتهافت عليه اذ ان كميته قليلة و لكن جودته عالية"

كان يسمع عتبة للحديث منبهراً و وجد الرجل يكمل بحنين و هو يأخذ من التربة يريها لعتبة:" لقد فكرت والدتك بذكاء عندما اقترحت القطن…ان التربة على هذه الوديان مختلفة و هذا ما سمح لها باعتناق القطن مع انه صعب في مثل هذا المناخ"

و أكمل و هو يشرح له عن مراعي الخراف و الطعام الخاص الذي كانوا يطمونهم اياه والذ كان يزرع ضمن المحاصيل و الصوف الذي يخرج منه و أكمل:" اردنا ان نستغل الأرض هذه فقد قدم جدك هدية لوالدتك عبارة عن عشرين رأس من الخراف يوم بلوغها عمها ال18 و اليوم كما ترى وصلنا ل ٣٠٠ رأس"

علم عتبة ان والدته قضت الوقت الكثير في هذه الأراضي و شعر لسبب ما أنه يراها هنا تقضي وقتاً تدير حلالها، رأى ذلك في وجه الرجل الأمين رؤوف و في وجه بقية العمال الذين ابتسموا له بعذوبة، كان هذا المكان رقيقاً و لكن صلب هذا كل ما استطاع أن يعرفه به، اعتقد في قلبه أن هذا المكان شبه والدته وهذه الفكرة بكل ما فيها واسته و جعلته يعتقد أنه اليوم أقرب لذكراها،

أكمل الرجل يشرح عن عملية الزراعة والتصدير مصانع الصوف و أكمل حتى وصوله لمبنى و الذي شرح له انه المكان الذي تتم فيه كل الأمور الادارية و راح يلقي أمام عتبة الأوراق الكثيرة:" ان صافي الإيرادات اليوم هي بمبلغ ٧٨٧٣ درهم ذهبي، هذا مع حساب أجور العمال ومصاريف العمل و جزء للخير لمساكين آسترا من الأرامل والأيتام وذوي الدخل المحدود من الأسر"

أعجب عتبة بالسيد رؤوف و الذي بدا له كرجل أمين، شغوف بهذه الأودية و بكل ما تنتجه، وكان عتبة قد لاحظ خوف الرجل و الذي كان مرعوباً من انه سيفقد مصدر دخله بعد كل هذه السنوات، وسيضطر لترك هذه الأرض التي عشقها تحديداً! و هذا حال العمال هنا!

"لقد كنت دوماً سعيد لخدمة آل دراغينوف و اليوم وسأكون دوماً سعيد بالاستمرار بخدمتكم…..أس.. أستطيع أن أريك كل الأوراق… اذ لا.. لا ..يخرج درهماً ال…الا وقد اح..صي..احصيناه" قالها الرجل متمتراً و هو يتصبب عرقاً في هذا الجو البارد

هنا وجد عتبة قريبه جعفر يتقدم و هو يضع يده على كتف رؤوف و هو يقول:" "أرجوك اطمئن يا سيد رؤوف أنت لن تفقد عملك و لا أحد سيفعل و نحن متأكدين من أمانتك و نزاهتك فعمتي كانت هي من أوصت بك في المقام الأول" قالها بلطف جعل الرجل الهلع يطمئن و معه اطمأن عتبة فقال بعد فترة:"أقدر جهدكم يا سيدي و لا أتوقع منكم المزيد…. لقد قدمتم ما يكفي وأعتقد أنني لن أجد من هو أكثر أمانة من رجل أوصت به والدتي رحمها الله"

"شكراً يا مولاي" قالها الرجل وهو يصافحه عتبة بحرارة و قد لاحظ عتبة تلك الدموع التي في عينيه! و اخيراً قال و كأنه تذكر الكنز الذي خبأه للنهاية:" هذا المفتاح لقد خبأته لهذا اليوم"

نظر عتبة للمفتاح النحاسي بإهتمام و سأله:"لأي شئ هذا المفتاح"

"مكتبها" قال الرجل ، اخيراً وجد الدموع تنزل من عينيه! لا يدري عتبة إن كانت تلك دموع رآها في عيني جعفر و لكنه لاحظه يمسح دموعه هو الآخر، أما عتبة فقد وقف و في قلبه حسرة أنه لم يقابلها في حياته و تذكر تلك الدعوة من طفولته فدعاها في سره :" جمعنا الله و إياكِ في جنة الخلد يا أماه"

تنهد وهو يلحق الرجل، وقف أمام الباب و معه الجميع متأهبين حيث تجمع الكثير من العمال و الموظفين يقفون بفضول فوجد السيد رؤوف ينهرهم:" دورغرا نالخختا!"

استخدم فيها الرجل اللكنة الاسترية الحادة و هي لغة كان يستخدمها الصيادين و الجنود و اليوم يستخدمها الرجال تحديداً ! اذ كان حرفياً يطلب منهم العودة للعمل. ابتسم عتبة وهو يفتح الباب بقلب مرتجى لو يرى خيالها، فتح الباب اخيراً و كل ما استقبله كان الصمت! صمت مهيب ولكن مريح!

"تركت المكان كما هو" قال السيد رؤوف و هو يتفحص المكتب

كان عبارة عن رفة بسيطة صغيرة نسبياً و لكن له أثاث فخم، علم أن والدته كانت امرأة نبيلة بكل المقاييس اذ أن التفاصيل لم توحي الا بالنبل، الرقة.

2025/06/01 · 4 مشاهدة · 1921 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025