الفصل السادس والعشرون
مناوشات و اتفاق
زحف ضباب بارد غلف المحيط على السهول البعيدة قاومته الشمس اللطيفة بقوة ، ولكن غطت وجهها الجميل غيوماً ثقال اعتصرت تسقي الأراضي و البشر بالماء، زخات رقيقة، يذكر أنه وقف هناك يتنفس بصعوبة بملابس خفيفة هو يرى البخار البارد يخرج من فمه، اخيرا لم يستطع ان يصدق ذلك الشعور، نشوة الإنتصار تلك بالرغم من التعب، طعم الإنتصار كان عشبي له رائحة الأرض، إذ أنه لم يتخيل أن يقف أمامه خاله عيسى مهزوماً بفعل سيفه و حركته! رأى ذلك الرضا المطبوع على ملامح خاله، الذي استطاع ان يبتسم له هذه المرة بصدق ودون سخرية! و راح سريعاً يقدم يد المساعدة لخاله و الذي ربت على ظهره وهو يقول
"أحسنت"
لم ينطق عتبة بكلمة اذ انه كان لا يزال يتنفس بصعوبة شديدة و لكنه لم يستطع ان يبتسم فالهواء البارد الذي لفحهم كان قد جمد كل عضلات وجههه.
وجد خاله يقول:
"سمعت أنك ستزور قصر ايبيا اخيراً"
" لقد كنت أنتظر عودة جعفر من رحلته المفاجئة " قال عتبة
" 5 شهور ليعيد الأراضي المتنازع عليها مع شولانا" قال الخال عيسى بوجه مرتاح نوعاً ما
"لقد كان الأمر مفاجئ رحل مع الخال موسى بشكل مفاجئ" قال عتبة بانزعاج
"كنت تستطيع ان تطلب من اي احد ان يأخذك" قال خاله
"صحيح و لكنني انشغلت بالتدريب" رد عتبة
"هذا جيد" قال خاله و أكمل:"رغم قسوة الأيام الماضية، إلا أن عودة جعفر وموسى بأخبارهم المطمئنة كانت كفيلة بأن تهدّئ بعض القلق"
"لم أتخيل أن أرى جيوش آسترا متأهبة بهذا القلق!… الجميع اختنق من التأهب" قال عتبة
"الحمدلله اولاً واخيراً، سخر الله سبحانه و تعالى عمك سهيل و أخيك اللذين لم يترددا عن مساعدتنا في المفاوضات… و الا كنا الآن متلوثين بطين المعركة " قال خاله
"هل تعلم أنني لم أقابل عمي سهيل من قبل و أراكم تذكرونه كثيراً" قال بفضول
"إنه أخو والدك الغير شقيق … لا زلت لا أصدق أنهما يحملان ذات الدماء" قال خاله وأكمل:" انه من أم أخرى و لكنه من حيث القدرات والمهارات كان الأكفأ و لكنه لم يجد نفسه في الحكم فقد انشغل في زهده وطلبه للعلم الشرعي و أعماله الخيرية"
و بعد فترة صمت و هما يتنفسان البرودة التي جمدت رئتهما أكمل خاله و هو ينظر لعتبة:" و أنت يا عتبة ما هي خطتك؟ هل ستعود لبهرمان؟"
"لا أعتقد" قال عتبة وقد تغيرت ملامحه للحيرة و أكمل:" ربما امدد اقامتي"
"اوه لقد اعتدت علينا أكثر من اللازم" قال خاله بسخرية وهو يدفعه أرضاً
"و هل تراني ضيفاً ثقيلاُ يا خال؟" قال عتبة و هو يعاود الوقوف
"أنت تشبه والدتك" قال خاله فجأة و غاب وجهه في ابتسامة خفيفة
نظر عتبة لخاله باستغراب
"لقد ورثت عنادها" قال خاله بسخرية فيها من الحنين وهو يوضح مقصده
"أنا لست عنيد" قال معترضاً
"هذا واضح" قال خاله ضاحكاً و كانت المرة الاولى التي يراه فيها يبتسم بهذه الطريقة! و لكن لم تغب عنه الفكرة و هو يتذكر آخر زيارة لمكتبها! لم يجد الكثير و لكنه وجد آثارها! حبرها و ريشتها، قرطاسيتها و بينها كانت قرطاسية! حملت دعاءً : "اللهم أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر بي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا، رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري."
لقد كانت تناجي و هذا أشعل في قلبه السؤال والحسرة امرأة مثلها، لماذا ظلموها و دفنوها مع رجل كوالده!
" ولكن يا خال لماذا؟….لماذا زوجتموها؟"سأل بحزن وحسرة
"اما ذاك… فكان عنادها" قال خاله والندم على ما فات قد أكل ملامحه الحادة
"كيف؟" سأل و هو يحاول ان يفهم
"كنت مستعداً لكي أهربها… و لكنها أصرت" قال خاله بإنزعاج و كأنه يرى أمامه الماضي
" ما الذي و جدته مناسباً في ذلك الرجل؟" صاح عتبة بإنفعال
"لا شئ!... و لكن بعد وفاة جدك خافت الخلافة من خيانتنا فكان علينا أن نقدم ضمانات … فجاؤوا بالاقتراح" قال خاله بغضب اخفاه بصعوبة
"كانت تستطيع أن ترفض" قال عتبة منفعلاً
" نعم وكلنا كنا سنقف في ظهرها… و لكن المملكة كانت في اسوأ أوضاعها كنا قد خرجنا للتو من حروباً ضد شولانا و لم ننعم بالاستقرار" قال خاله بتعب
هنا فقط وجد عتبة نفسه يتنفس بعصبية و لكن قاطعه خاله فقال:" حينما علمت بأنها حامل قالت لي أنها تشعر أنها تحمل سعادة العالم بداخلها"
هنا التفت بتردد و هو ينظر لخاله و هو يتفوه بكلام عاطفي لم يناسبه! فأكمل:" لقد سخرت من تعليقها ذاك… و لكن حينما حملت ابني الأول أعتقد أنني أحمل العالم فيومها تذوقت طعم السعادة المغلفة بالخوف!"
"ماذا تقصد؟" سأل عتبة بحيرة
"أنا لمتك على تضحيتها في السابق…مع الأسف نسيت ان هذا قضاء الله وقدره" قال خاله باعتذار
ربما عتبة وقتها لم يفهم الكثير من مشاعر خاله او حتى مشاعر والدته او تضحيتها كما يفهمها اليوم
يومها يذكر انه أكمل طريقه ليقابل قريبه جعفر فيناقشون رحلتهم المرتقبة و التي تحمس لها أسامة قبله و راح يعد لها ما يعد ! و في طريقه في جناح خاله محمد، صادف لونا و التي رمته بنظرة من نظراتها المستفزة المعتادة، تجاهلها لأنه كان مستعجلاً و لكنه وجدها تستوقفه و هي تقول:" ألم تسمع بالمثل الشهير يا ابن عمتي؟"
"اي مثل؟" سأل بانزعاج وهو ينظر لها بسخرية مشابهة! إذ تخللت الأيام الأخيرة المنوشات الكثيرة، فهو في البداية كان يصمت و لكنه وجد نفسه يرد بما هو مطلوب منه! “زا فاراس آسترا، زايا لونتا نيم دارفا تو” قالت و هي تضحك
"من فارق أرضه، ضاع ملكه" مثل آستري شهير، علم انها مجدداً تحاول ان تطرده من آسترا فمنذ اليوم الأول لم تكن من المرحبين به و لكن من سيستمع للطفلة ابنة ال١٤ ؟ فرد ببرود
"لا أعتقد انني تناولت من طعامك يا ابنة خالي.:.انني آكل مما أصطاد و أنفق من حر مالي"
وجد انه تشارك معها هذه اللذاعة في الحديث، فهم متشابهين بشكل فج من ناحية الشخصية !
"ان كان حديثي لا يروقك… أقترح أن تغادر بسرعة و تعود لقصر والدك" قالت لونا بانزعاج و قد ظهرت نبرة الغضب جلية وإن حاولت أن تخفيها خلف ستار السخرية
"ماذا تقصدين؟" سأل بانزعاج و كأنه قرأ مغزى خفي خلف حديثها الثقيل
"ألم تعلم؟" قالت بسخرية
"أعلم ماذا؟" سأل مجدداً وهو ينزلق لأحجياتها السخيفة
"يبدو أنك جاهل بما يدور حولك فعلاً فقد انشغلت بألعاب الصبيان مع خالي عيسى" قالت وهي تضحك
"لونا …" قال بغضب لم يخفه
"لا تحتاج لترفع صوتك" قالت بحدة و أكملت:" إن مجلس القبائل سعيد بوجودك هنا ، بل و خططوا لبقائك الطويل هنا"
"لا تتكلمي بالألغاز يا لونا" صاح فيها
"انهم يريدون تزويجنا"
كانت الجملة صادمة ما ان تفوهت بها و لكنها صادمة بسخرية، صادمة بطريقة تثير الضحك
فضحك ضحكة طويلة!
"لا تضحك يا هذا لا يوجد ما يضحك هنا" صاحت هي بدورها! علم مخاوفها و تفهمها ! فارتاح شئ بداخله، قال وهو يمسح دموع الضحك "اهدئي يا لونا…. أنت كأخت لي " و سرعان ما وجد نظراتها تتحول من الغضب والتوتر إلى الاسترخاء
"لكنهم هم…"
"صدقاً يا لونا …ما الذي جعلك تعتقدين أني سأوافق على أمر كهذا ؟" قال بثقة
"سمعتهم…." قالت بتردد اخيراً
"وان سمعتيهم! أي وصاية أو أمر يملكونه علي؟" قال بجدية و بابتسامة هادئة واثقة
"أنت محق" قالت بعد فترة صمت وتفكير و سرعان ما تحولت ملامحها للغضب و هي تقول:"إن فكرت في الأمر فقط الفكرة سأقطع رقبتك و أرمي بنفسي من أعلى الجبل"
"لا تحتاجين لفعل كل هذا" قال ببساطة و أكمل:" هل اتفقنا؟"
وجدها تنظر له بحدة و لكن سرعان ما ارتخت ملامحها و لكنها لم تبتسم و اكتفت بقول:"و لكنني سأراقبك"
"حاضر" قال وهو يضحك و أكمل ليغير الموضوع فقال:"سمعت أنك شاعرة متمكنة"
"هذا صحيح" قالت بشك
"هذا جيد قد أطلب منكِ بيتين لزوجتي المستقبلية" قال بخفة مازحاً
"لماذا سأكتب الأشعار لزوجتك بالنيابة عنك؟" قالت بفضاضة و بعدها أكملت:" سمعت أن لديك موهبة ترفض أن تنميها في الشعر"
"هل أخبركِ أحمد؟" قال بشيء من الإحراج
"نعم"
"انها قصيدة كتبتها بشكل عارض" قال بتوتر
"اشجني" قالت
أنا الفارِسُ وَكُلُّ السَّاحاتِ مِرْتَعِي
وَإنْ كُنتُ ابْنَ اليومِ، وَلَكِنِّي ابْنُ دَهْرٍ بِالعَزائِمِ
سَيْفِي خَلِيلٌ، وَخَيْلِي حَمِيمُ
لا أهابُ الكَواسِرَ، فَأَصْمِي الأَسِنَّةَ بِحَرْفٍ
وُلِدْتُ وَفِي فَمِي السُّمُّ المُرْتَشَفُ
وَعِشْتُ رَغْمًا عَنْ أَنْفِ كُلِّ غَدّارٍ لَئِيمٍ
وجدها فجأة تغيب في ضحك مرير و هي تقول:" ليست سيئة و لكن من تخال نفسك يا ابن العمة؟"
"عتبة" قال بخفة
"حسناً لا تضيع وقتي أنا مشغولة" قالت بعد فترة
ضحك لأنها كانت هي من ضيعت وقته و لكنه مع ذلك ارتاح لأنه فهمها اخيراً ولن يكون مضطراً للمضي في سخريتها و ازعاجها! أكمل طريقة ليقابل جعفر إذ أنه كان أمام مهمة ستغير حياته !