عزفت الريح معزوفتها الأخيرة، كان الخريف يودعهم بكل ما فيه من بهاء ليفسح المجال لأخيه المرتقب و الذي عشقه أهالي بهرمان بالرغم من قسوته ألا و هو الشتاء. و في قصر الخلافة البهي "جوهرة بهرمان" انشغل القوم بموضوع آخر غير قدوم الشتاء، موضوع واحد راحوا يتحدثون به بشغف و يضعون لمساتهم و حكمهم الذاتي عليه الا و هي "معلمة الأولاد" الجديدة، كان الجميع يقول بأنها طفلة بالكاد تبلغ العشرين من عمرها، و لكن أكدت احدى الخادمات ان الفتاة كانت جارتهم و انها تحمل وجه صغير و لكنها في الحقيقة قد طافت الثلاثين تطلقت مؤخراً من زوجها! و لكن حارس الجناح الشمالي يقسم ان صاحب له تقدم لخطبتها و ان الفتاة ليست متعلمة اساساً! قالت احداهن انها ليست فتاة صغيرة انما امرأة ستينية! و لكن اتفق الأغلبية "كيف جرؤت؟" و التي انطلقت من الأعين قبل الأفواه
"هذه هي..."
سمعتها كثيراُ منذ دخولها للقصر و لكنها مشت بثقة مرتدية قناع من الخضوع والخجل! و في داخلها ضحكت كثيراً من كل السخافات التي تفوهوا بها إذ كانت تجد فيها متعتها، و ربما! ربما تكون شاركت في نشر شائعة او اثنتين لتبعد الأنظار عن حقيقتها!
فمنذ اليوم الأول لها علمت ان ما هي بصدده أقسى ألف مرة من ما مضى! فبعد مرور شهر و 6 أيام كانت قد اعتادت النظام و عجنته وفق خطتها الحقيقية!
فهي تذكر كيف دخلت للقصر من البوابة الشمالية و هناك حيث تقبع أجنحة الخاصة، أجنحة زوجات الخلفاء و أبناؤهم... كانت جوهرة بهرمان و بالرغم من وقوعها في قلب العاصمة إلا أنها من أجمل القصور ليس لفخامتها فقط بل لعمارتها البهرمانية المتينة المصنوعة من حجر جيري جميل و الذي فتح مجالاً للرسم عليه بل و الحفر عليه. أما أبواب القصر و مشربياته كانت من الخشب الجميل الذي حفرت عليه الحكايات و كان القصر يتميز بالأعمدة التي تنتهي برقة بشكل تيجان تحمل أشكال نباتية جميلة .
تذكر يوم وصولها كم كانت خائفة، لم تكن خائفة من حياتها الجديدة و لكن من الخنجر الذي خبأته بدقة في ثيابها! و عندما عبرت المدخل الأول راح قلبها يدق دقاً حتى اعتقدت ان الجميع سمع دقاته، ظنت ان الحارس سيكشف لعبتها الصغيرة التي خبأتها في ثيابها، و لكن الوضع كان أبسط من كل خيالاتها، اذ عبرت الاولى و الثانية و هناك استقبلها رجل له وجه متجهم بلباس أنيق كباقي موظفي القصر الذي لاحظت اناقتهم و نظافة ملابسهم، تذكر أنها مشت خلف الرجل بعدما حاولت ان تشرح له من تكون و لكنه تجاهل حديثها بل و قطعه وهو يقول:" اتبعيني"
مشت و هي تستجمع ثقتها و تتناسى الخنجر الذي بدأت تشعر به يجرح جلدها قليلاً! وصلت لمبنى صغير علمت لاحقاً انه مبنى خارجي يوصل لقصور الخاصة الداخلية، طلب منها الحرس التعريف بنفسها، كان الألم بفعل الخنجر والوتر قد تمكنا منها!
"رفيدة بنت خالد" قالتها بتوتر و هي تشيح بنظرها
"صفتك؟" قالها الحارس بحدة وشك
"صفتي؟ سألت بتوتر و هي ترمق الرجل الذي تركها أمام الحراس بإنزعاج تنتظره ان ينقذها و لكنه وجدته يتجاهلها كأنها شفافة
قالت و هي تحاول انقاذ نفسها "أنا...."
"إنها المعلمة الجديدة" قالها الرجل منزعجاً و كأنه يكره مهمته
"معلمة؟" سأل الحارس باستغراب
"للأمراء الصغار" قال الرجل و حملت نبرته الكثير من الاعتراض و السخرية. أما الحارس فوقف أمامها بوجه متعجب! و لكنه ابقى كل ما في قلبه لنفسه فقال بأدب:" تفضلي"
مشت قليلاً في ممرات و صعدت عدة سلالم لا تذكر تحديداً عددها لأن الخنجر كان يضايقها، اخيراً طلب منها الرجل أن تنتظر، مع أن رفيدة لم تكن يوماً صبورة و لكنها تعلمت الصبر، وصار الجلد رفيقاً لها، فجلست هناك و هي تحاول ان تعدل وضعية الخنجر الذي تأكدت انه فعلاً جرحها، و لكن شعرت ببعض الراحة ، و سرعان ما وجدت الرجل يدلف وهو يقول.
"انهم بانتظارك"
هذه النبرة تذكر كم تركنها متوترة و مع هذا تماسكت بشجاعة و تبعت الرجل حاملة كل خوفها ببطنها لكي لا تخور قواها فتضعف قدمها أمام التوتر! وقفا أمام الباب الخشبي البسيط، طرق الرجل الباب فدلف و هو يقول :"تفضلي"
دخلت و قد نسيت ان تلقي التحية من توترها! راحت بأعينها تتفحص كل التفاصيل و الوجوه الأربع التي صادفتها! رجال كبار بملامح جامدة أصغرهم شارف على الخمسين
"ادخلي يا ابنتي و لا تخافي" قالها أحد الرجال و الذي ما ان رأت وجهه اعتقدت انها ارتاحت له، رجل سبعيني له ابتسامة لطيفة، لحية طويلة بيضاء، كان يرتدي ملابس بيضاء و عمامة لبنية، وجهه كان يشع بالحكمة والمعرفة بالرغم من التجاعيد التي نحتت وجهه. ابتسمت رفيدة بامتنان للطفه. جلست على مقعد شعرت و كأنه مقعد اعتراف و اخيراً تكلم أحد الرجال
"عرفينا عن نفسكِ أكثر يا رفيدة" قالها أحد الرجال بنبرة حملت الكثير من السخرية، رجل خمسيني اعتقدت انه أصلع لأنها لم ترى شعراً من تحت العمامة، له لحية بنية خفيفة لم يستطع أن يجعلها تنمو، و عيناه كانتا صغيرتين تشعان حقداً، و هذا في طبيعتهما و ليس أمر مؤقت، أكمل:" فقد سمعنا عن براعتك الكثير"
كان سؤال صعب ! كيف تعرف عن نفسها ؟ وقفت محتارة أمام السؤال الأول و شعرت ان هذا الاختبار سيطول
"توقف يا سيد بدير... لا ترعب الفتاة" قالها الرجل الطيب و أكمل:" دعيني أعرفك بالجميع هنا اولاً "
"حاضر" قالت بتوتر لم تستطع ان تخفيه
"أنا منير ابن داوود... أنا ناظر المدارس الداخلية للقصر و المسؤول عن المعلمين" قال الرجل بلطف و أكمل و هو يشير على الرجل الساخر:" و هذا بدير ابن الأجشم و مساعد ثاني لصاحب ديوان الخاصة "
وأشار على رجل من الرجال كان صامتاُ لم يفتح فمه بكلمة بل جلس كتمثال بوجه متجهم صارم، و كأنه كان يدرسها:" وهذا السيد هو مجيد الأخرس... انه ليس أخرس و لكنه لا يفضل الحديث الكثير و هو مساعد ثاني لديوان الحجاب"و أكمل و هو يشير على أصغر القوم و الذي ابتسم اخيراً فقال :" السيد عامر الاجلي وهو من شعبة المعلمين و هو ممثل عن ديوان المعارف"
"سررت بكم" قالت بخجل خرج أغلبه حقيقي ولم تحتج بأن تصطنعه
"اذاً يا رفيدة دعيني ابدأ أنا" قالها السيد عامر ممثل ديوان المعارف:" اطلعت على وثيقة الخبرة و مقالتك التي قدمتها بصراحة كانت .... ذكية"
"أختلف معك يا سيدي" قاطعه بدير بوقاحة و أكمل:" نحن نبحث عن شخص متبحر في نظريات حسابية متقدمة و يستطيع نقدها"
"يبدو أنك لم تقرأ الورقة جيداً" قالها السيد عامر
"ان الحساب هو علم مباشر و ليس له علاقة بالمنطق...كما ان الاستاذ أيمن موجود ليعلم الأولاد الفلسفة والأخلاق والمنطق"
تذكر ورقتها السخيفة التي كتبتها كحل أخير أمام عناد السيدة زبيدة و التي لم ترحمها و هي تطلب منها كل مرة بأن تعيد، كانت حكاية صغيرة اخترعتها لتعلم القسمة لصهيب! كانت ستتراجع عنها و لكن لم تتخيل أن تكون الورقة التي ستعجب بها السيدة و تقدمها فوراً للقصر
" يُحكى أنه في قديم الزمان، وجد رجلٌ خمسة صناديق مملوءة بالذهب.
أراد أن يوزّعها بينه وبين إخوته و هم 3، فاحتار، لأنه إن أخذ ثلاثة صناديق، لم يبقَ لكل أخٍ إلا صندوقًا واحدًا. وإن أخذ صندوقين، و أعطى الثاني اثنين بقي أحدهم بصندوق واحد. فجلس طيلة الليل يفكّر، وقلبه منقسم بين رغبته وعدله. كيف يُرضيهم دون أن يظلم نفسه؟حتى رأى في منامه جنيًّا يقول له:
"افتح الصناديق، وانظر ما بداخلها، فليست كل الصناديق سواء."
فلما طلع الصباح، فتح الصناديق، فوزن الذهب ففي الصندوق الأول كان رطلين, والصندوق الثاني حمل رطل ونصف, والصندوق الثالث حمل رطل و ربع, اما الصندوق الرابع ففيه رطلين وربع، واخيراُ الصندوق الخامس كان فيه رطلين. فجمعها، وكان المجموع: 9 أرطال من الذهب.فقسّم الذهب بينهم بالتساوي، فكان لكل واحد منهم ثلاث أرطال. حينها علم أن العدل لا يُقاس بعدد الصناديق، بل بما تحويه...و فالظلم أحيانًا يُغطّى بالمساواة في بالمنظر، لكن الإنصاف يسكن في الجوهر."
" ان كان كذلك فتبدو الآنسة عارفة بما هو مطلوب منها" قالها السيد عامر بإصرار
"ان القسمة هي أسهل ما في الحساب" قال السيد بدير بسخرية
"و ما هو أصعبها؟"سأل عامر بخفة
"انه......!" قال بدير بتوتر و هو يبحث عن جواب مناسب
"و أعتقد أنني أنا والشيخ العارف المخولين بتقييم قدراتها العملية و هي فعلاً نجحت بالاختبار الذي سلمناه لها" قال السيد عامر و هو يغلق باب النقاش
"و أنا أقف في صف السيد عامر الفتاة فعلاُ أثبتت قدرتها فنحن لا نبحث عن عالمة فذة و لكن معلمة توصل المعلومة بسلاسة " قال السيد منير و الذي فهمت رفيدة أنه هو الملقب ب "الشيخ العارف"
هنا فقط نطق الرجل الصامت بينهم فسأل بهدوء:" كم عمركِ؟"
"21 سنة يا سيدي" قالت و هي تبتلع ريقها
"من أين أنتِ؟"
"أنا...أنا من الجنوب سيدي" قالتها بتوتر خدم شخصيتها
"أي مدينة في الجنوب؟"
هنا كانت القاضية و معها اعتقد ان اثر جرح الخنجر الذي لم تعالجه بعد عاد يحرقها! فالخوض في هذه التفاصيل كان يهدد هويتها المزيفة و لكنها ردت بسرعة لكي لا تثير الشك:" سهوان"
" لم أسمع بها من قبل" قال بدير بسخرية
تنفست لأن هذا الغبي كان يعطيها وقتاً بمقاطعته لتلتقط أنفاسها و تستجمع أجوبتها
"يبدو يا سيد بدير أننا يجب ان نعيد اختبارك " قال السيد عامر بسخرية
"هل لديك عائلة هنا؟" عاد يسألها
الأسئلة المعتادة التي حفظتها عن ظهر قلب و جهزت الأجوبة لها
"لدي عمة واحدة و لكنها غادرت العاصمة" قالتها بلا تردد
"و في سهوان؟" سأل
"عم و لكن علاقتي مقطوعة به" أجابت
"لماذا؟" سألها باحثاً عن خطأ فيما قد تقدمه في أجوبتها
"خلاف على الورث" قالت بنبرة حاولت ان تجعلها حزينة
"هل سيسبب لنا مشاكل؟" سألها السؤال الذي سألته منقبل
"لا لقد سويت أموري... و..و تنازلت عن كل شئ" قالت بتوتر و حزن مصطنع
كانت بقية الأسئلة أسهل مما توقعت فهي خاضت هذا الجدال من قبل مع السيدة نسمة
"هل لديكِ اي سؤال لنا يا رفيدة؟" سألها منير وقتها
"كنت أريد أن أعرف تحت اي ديوان سأكون؟" سألت بفضول
"جيد لم تدخلي على طمع لتسألي عن أجرتكِ" قال بدير بسخرية و هو يضحك
"لأنني أعرفها سلفاً يا سيدي" قالت و قد تمكن منها غضبها اخيراً من الرجل الوقح و لكنها جعلت الأمر يبدو كما لو أنها قالتها بخجل و هي تخفض بصرها.
"بما يخص سؤالك يا ابنتي فهذا سيحدد بعد مقابلة مولاتي سلمى بنت الأشيبي زوجة الخليفة" قال السيد منير بلطف
تذكر عندما خرجت من تلك الذكريات وجدت في وجهها فتاتان اعتقدت انهم متشابهات فهي لما قابلتهن أول مرة اعتقد ان بينهن دم مشترك و لكن علمت ان نعيمة كانت اكبر عمراً من زهرة، فنعيمة كانت من بلدة تابعة للخلافة من وراء البحر اسمها النهرين، و اما زهرة فهي من الشمال و لكن كلتاهما حملن بشرة بيضاء بنمش و عين بنية و شعر بني ناعم. كانتا الفتاتان بعمر ال٢٤ و عمر ٢٧ .
"ان مولاتي تبحث عنكِ" قالت زهرة بحماس
كن وصيفات زوجة الخليفة الأصغر
" لماذا تكذبين يا زهرة؟ لقد كانت السيدة مريم هي من تبحث عنكِ" أكملت الاخرى
وقفت رفيدة بهدوء اذ كانت تأخذ قسطاً من الراحة تحت نخلة وفي يدها عدة تطريز كانت تتسلى بها! او هذا ما يعتقده الجميع و لكنها في الحقيقة كانت قد بدأت لعبتها باستراق السمع، اذ وجدت خلال الشهر هذا منفذاً تستطيع ان تسمع منه ما يتفوه به موظفي ديوان الخاصة! أغلبها كانت أحاديث السيد بدير الذي كان يضايق الجميع بسخافته المعتادة، و الذي كان اختباراً للقوم اذ انه مسؤول عنهم!
ابتسمت رفيدة للفتاتان بلطف و قالت:" حاضر سأجمع عدتي و أحضر فوراً"