الفصل الثاني
رفيقة الشمس
منذ الليلة الماضية لم تعرف عينيها العسليتين الراحة, بل بقيت مستلقية تحدق في الفراغ، حتى حينما رمت الشمس بأسهمها الناعمة لتخترق روحها لم تتحرك، كانت كالتمثال الجميل تزين تلك الغرفة الفارهة. من يراها مستلقية هكذا كان ليظن أنها أميرة سعيدة، ولكن الواقع أنها حبيسة دارها، إقامة شبه جبرية اختارت جزء منها فهي لم تحاول فتح الباب فلم تكن تدري ان كان مقفلاً، لكنها لسببٍ ما كانت تخمّن خطواته وتسبق أفكاره. إلا في الليلة الماضية خانها حدسها؛ وتركها وسط مستنقع إحباطها و فشلها, كم كانت مغرورة بقدراتها. ولا تغيب عن عقلها فكرة أن ذلك الشيطان يجوب البلاد حرٌ طليق.
اخيراً بعد فترة من الزمن حركت ساكناً والتفتت نحو الشمس، سمحت لأشعتها بملامسة وجهها، باحثة عن بادرة حنان وسط الغضب الذي راح يحاصر كل ما فيها. إن شمس بهْرَمان ناعمة، ليست كشمس واحة الغانمة التي تركت آثارها على وجهها. كم قضت أيامًا جميلة في تلك الواحة، ورافقتها تلك الأشعة القاسية مغامراتها الصغيرة.
ما الذي تغيّر إذًا؟
حاولت أن تتذكر: ما هي الشرارة التي أوصلتها إلى هذا الحد؟ ما الذي ملأ روحها البريئة بهذا الحقد؟
تعلم أنها تلك الرسالة اللعينة التي قلبت موازينهم جميعاً، ولكن مهما حاولت أن تشغل عقلها، بقيت تدور في دوّامة، لتعود عند كلمة واحدة لم تستطع أن تخرجها من عقلها!
"حرقًا" "حرقًا" "حرقًا"
تلك الصفحة في ذاكرتها كانت فارغة، إلا من تلك الأحرف الأربع, حريق يشب فيها كلما خطر الأمر لها. ولكن لسبب ما، كانت حاضرة اليوم بكل تفاصيلها لتؤكد على تحطيم ما تبقى منها. فتلك التفاصيل أعادتها إلى الشرارة:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم من ديوان القضاء الأعلى في دار الخلافة الزُهَيْرِيّة إلى ذوي الكاتب قتيبة بن غياث الهَيْسانيّ،
السلام على من اتّبع الهُدى،
بعد النظر في ما رُفع من شهادات موثَّقة، وتثبّت القضاء من عدّة قرائن وأدلّة، ثبت لدى مجلس الحكم اضطلاع المذكور أعلاه في أعمال تُفضي إلى الفتنة والسعي في الإنقلاب على الخلافة، وتعاونه مع أعداء الخلافة في الخفاء.
وعليه، وامتثالًا لما اقتضاه الشرع والنظام، صدر الحكم بحقّه بالإعدام حرقًا ، جزاءً وفاقًا، وقد نُفّذ الحكم يوم الإثنين، الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة، سنة إحدى وثمانين ومائة للهجرة.
نسأل الله أن يُجنّب الأمة الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والله وليّ الأمر والتدبير."
كل حرف وكل كلمة كانت صعبة. قرأت الرسالة مرة، واثنتين، وثلاثًا، بل و عشر مرات. ولم تتوقف إلا عندما سحبت سارة الورقة من يديها. كان على إحداهنّ أن تقف بحزم، وفي تلك اللحظة كانت سارة. تتذكر رفيدة جيدًا أنها وقفت في مكانها تنظر تحاول أن تثبت نظراتها لشئ، سيعاً لفهم ما يدور حولهم.
ما هي إلا دقائق، حتى وجدت لنفسها العذر الأحمق فراحت تصيح: "إنهم كاذبون!" ثم أكملت بانفعال و هي تمسك بيد سارة: "أحدهم يتلاعب بنا! تعالي معي، سنذهب معًا إلى الشيخ لنتأكد!"
كانت سارة قد علمت سلفًا أن الرسالة حقيقية، فختم الخلافة واضح و كل ما فيها يصرخ بالحقيقة ولكن حقيقة واحدة والبقية كله كذب. فجارت الأخت المكلومة!
كان الليل قد أسدل ستاره و ارتدى ثوبه السرمدي, و الرمال راحت تضرب وجوههن واحدة تمشي بثقة و انفعال والأخرى تحاول أن تجاريها بخطوات منكسرة مترددة, مع ان الطريق لمنزل كبير القرية الشيخ أبان كان قصير ولكن طبول الحرب التي في داخلها أعلنت عن نفسها و كل الهواء الساخن الذي لفحهم لم يكن يكفيها لتلتقط أنفاسها, كانت المرأتان محرجتان من وقوفها في ذلك الوقت من الليل أمام منزل الشيخ ولكنه كما هي عادته أحسن استقبالهم.
"حللتم أهلاُ ونزلتم سهلاً" قالها بعادته مرحباً بهم و أكمل و هو يلتفت لسارة :" كيف حال الأولاد؟"
"لقد وصلتنا رسالة يا شيخ و نريدك أن تؤكد لنا مدى صحتها" قالت رفيدة مقاطعة الشيخ و هي تتنفس بصعوبة و قد لوحت له بالرسالة المشؤومة! و كل ما فيها يصرخ "هذا كذب"
أمسك الرسالة و راح يقلبها و يقلب نظره الذي ضعف مع الزمن فيها و لكن سرعان ما وجدت ملامحه تكفهر و عينيه تلتهم الأحرف و الحيرة تمكنت منه.
"انها مزورة صحيح؟" قالت رفيدة بإنفعال مطلقةً أساريرها كأنها كانت تحاول أن تجد السبب الذي سيجعلها تتنفس الصعداء و أكملت و هي تلتفت لسارة:" انظري حتى الشيخ يظن أنها كاذبة"
"خذي نفسك يا رفيدة" قالتها سارة بحزم وهي تراقب تفاعلات الشيخ أبان بانزعاج.
وجدت الشيخ يضع الرسالة أمامه و هو يقول بحذر: "لا أستطيع أن أكذب الرسالة يا ابنتي فختم الخلافة موجود عليها لا غبار عليه "
هنا فقط تتذكر رفيدة صدمتها, كان كأن شيئاً قد إنكسر بداخلها لم يفتها الأمر منذ البداية ولكن كانت تحاول ان تواسي نفسها وتخدع ما هي موقنته في داخلها ولكن الشيخ أبان لم يجاريها.
"ولكن.." قالها الشيخ مما جعل الامرأتان تلتفتان باحثتان عن ما يريح قلبيهن
"هناك الكثير من الأمور الغريبة في الرسالة نفسها" قالها بتفكير كأنه لم يجزم بكل ما فيها، بصيص الأمل ذاك جعلها تقف مرتجفةً على أطراف أصابعها.
"يا شيخي نريد أن نتأكد من صحة الخبر ربما حصل لبس ما أو ربما إختلاط في الأسماء" قالتها سارة بنبرة تتذكرها رفيدة جيداً متحشرجة ولكن منكسرة و كان فيها تأكيد أن أخيها لم يعد معهم على هذه الأرض!
تذكر أنهما في تلك الليلة خرجا من تلك الدار مع وعد من الشيخ أبان أنه سيتأكد من كل شئ مع تأكيده من عدم تسرعهن حتى يؤكد لهن حيثيات ما يخفى عنهن! طريق العودة كان أكثر قسوة! فالصمت مع وقع أقدام سارة الهادئة الغارقة في الفتور وخطواتها المترددة كانت قد تركت في داخلها مرارة و لكن ما تركها تختنق في حزن وقلق هو تنفس سارة الثقيل! لم تعلم إن كانت في تلك اللحظة تبكي و لكن وصلها الصوت المتحشرج :" لا تخبري الأولاد بشئ دعينا لا نستبق حتى نتأكد"
"و لكنه كذب" عادت رفيدة لورقتها الخاسرة
"نعم هناك كذب كبير في تلك الرسالة و لكن …" قالتها سارة بصوت غامض وبعدها غابت في صمت، صمت جعل رفيدة تجن تلك الليلة من فرط التفكير!
تذكر أنها في الصباح التالي استيقظت ثقيلة وكأنها كانت تنام على الماء! علمت أن الأخبار لم تصل و لكنها هرعت لمكان وجود زوجة أخيها في المطبخ تشرف على الطعام
"هل وصل اي خبر؟" قالتها باستعجال
"صباح الخير" قالتها سارة بنبرة مألوفة كانت رفيدة قد بدأت تنزعج من هدوء سارة و لكنها لاحظت وجهها الذي كان غارقاً في الهم كيف يمكن لامرأة بعمر ال٣١ ان تكبر هكذا في ليلة وضحاها! و لكنها سرعان ما وجدتها تمسك بشعرها بحنان بنبرة فيها إنكسار خفي و هي تقول:" اذهبي لتستعدي ستتأخرين"
"و لكني لا أشعر أنني سأستطيع أن أجاري درس الخياطة اليوم" تذكر رفيدة انها قالتها بإحباط و شعور مزعج راح يرفرف في بطنها دون توقف.
"اذهبي وما ان يصلني خبر سأرسل سمية خلفكِ" قالت سارة بلطفها الذي لم يغيبه همها وأكملت لتقطع توسلات رفيدة التي كانت تضعف أمامها حتماً:" هل اتفقنا؟"
وجدت رفيدة نفسها محاطة بلطف سارة و لم تستطع أن تجادل فما كان منها إلا أن ترضخ و وجدت ان خروجها سيشغل تفكيرها لأنه لم تكن هناك جدوى من القلق الفارغ هذا!
أربع أيام مرت ثقال كأنها جبال حاولت فيهم رفيدة ان تجاري خوفها و في كل يوم من تلك الأيام كانت تلح على سارة أن تسأل و لكن التزمت سارة الصمت الذي أكلها. أما رفيدة فزاد همها مع تلك الكوابيس ففي كل ليلة كانت ترى حلم واحد، واحداً لا غير كانت ترى نفسها مرتدية السواد كفزاعة حقل بائسة تقف في الصحراء و في الأفق ترى ناراً تأكل محيطها حتى تكاد تأكل الجبال في كل ليلة تراها تقترب منها و هي لا تحرك ساكناً و حتى وصلت لليوم الرابع فأكلتها تلك النار في الحلم .
حتى كان صباح اليوم الرابع كانت قد استعدت فيه للخروج لدرس الخياطة كعادتها، فوجدت في وجهها الشيخ أبان كان قد جاءهم بنفسه ليسلمهم الخبر البائس و لى وجهه كل أمارات الحزن قائلاً بصوت غامض:" لقد أكد لي مصدري الخبر ، فعلاً تم الأمر و الإعدام كان سري، رحمه الله و أعانكم الله، اصبري يا ابنتي" و أكمل:" سنفتح دار العزاء في دارنا للرجال لا تقلقوا بهذا الصدد"
"إنا لله و إنا إليه راجعون" قالتها سارة بوجه لا حياة فيه ، كانت محاولة لتصبير نفسها و علمت رفيدة انها لا تريد أن تنهار الآن فينتبه الأطفال، و لكن هي كانت لا تزال تحاول أن تثبت ل=تتبين ما هو حقيقي و ما هو حلم, و تمنت لو أنه كان حلماً, و لكن كل ما وجدت نفسها تفعله هو الوقوف بصمت، حتى الوقوف كان صعباً ففي عقلها بقيت الكثير من الأسئلة عالقة على حبال مشنقة، كانت تشعر أن قدمها هلامية و جسدها خفيف و كأنه يطفو في الهواء، و راح بصرها يتأرجح و رويداً رويداً كانت تغيب، لتهرب من هذا العالم علها تجد الأمان في مكان ما؟ أو ربما تستيقظ من هذا الكابوس البشع.