الفصل الثالث
رمان الجنة
كانت السماء لا تزال تسبح في خجل سرمدي، وانطلق صوت المؤذن يهز الآفاق الهادئة ليواسي كل القلوب المصابة، مناديًا لصلاة الفجر. تذكّرت أنها لم تكن نائمة، بل لم تكن تفعل شيئًا، كل ما تتذكّره هو تحشرج حنجرتها المجروحة بفعل البكاء. هل كانت تنوح؟ لا تتذكر. لكنها حينما أدركت فعلتها، جذعت، لأن قتيبة كان دائمًا يذكرها بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "الميِّتُ يُعذَّبُ في قَبرِه بما نِيحَ عليه." وكان يوصيها دومًا: "كلما تذكّرتِ والدي، ادعي لهما."
تلك الوصية أخذتها في ذلك اليوم، وحملتها لتتقوى بها. فقامت من فورها تتجدّد، وغسلت همومها مع الوضوء واستعدّت للصلاة. تتذكّر أنها كانت تصلي وتناجي وتدعو حتى انزاح ثقل كبير من قلبها.
في الصباح، الذي كانت دائمًا تعوّل عليه وتؤجل له، قابلت صهيب وسليم.
دخلت سارة حاملة أطباق الطعام، تساعد خادمتها التي انشغلت بتجهيزات العزاء. "هيا، تناولوا الطعام." قالتها بابتسامة.
رفعت رفيدة رأسها بتعجب. ما بال هذه النبرة المرِحة؟ هل هي سعيدة بموت زوجها؟ لكنها لاحظت انكماش ملامح صهيب، وانشغال سليم باللعب في زاوية غرفة الطعام.
"رفيدة، ساعديني والبسي سليم ملابسه، فهو سيذهب لاحقًا مع صهيب لعزاء الرجال." قالتها سارة، لكنها سرعان ما اختفت في المطبخ وكأنه يبتلعها دفعة واحدة وغيبها عن الوجود.
تتذكّر رفيدة أنها وقفت في حضرة الصمت الذي غيّب الجميع، تحاول أن تلملم نفسها، فجأة شعرت باليد الصغيرة الباردة التي أخرجتها من أفكارها التي كادت أن تغرق فيها.
"عمّة... الملابس؟"
كان ذلك سليم الصغير، الذي وقف باستسلام لا يشبه مشاكساته المعتادة. كان يجرّها لكي تقوم بالمهمة التي طلبتها منها سارة. قامت بكل شيء بصورة آلية، وعقلها من كثرة ازدحامه اعتقدت أنه فارغ.
"هل الجنة جميلة؟"
كانت تلك الجملة التي طبعت في ذاكرتها. جملة واضحة قالها سليم، الذي بالكاد يرتب جملة. كانت ثابتة، كأنها خرجت من شخص ناضج... أو هكذا شعرت وهي تنظر إليه. ولدهشتها، وجدت في وجهه هدوءًا. كانت تتوقع هذا من صهيب، لكن ليس من سليم! ترك ذلك في حلقها مرارة. لماذا فعلت سارة هذا؟ لماذا حمّلت الصغير مثل هذه الهموم؟ لم يكن من الحكمة أن يعلم بهذه الطريقة.
"ما هو أكثر شيء تحبه يا سليم؟" سألته بابتسامة خفيفة، وهي تقاوم حشرجتها.
"أحب الرمان."
لا تدري كيف، ولكنها وجدت نفسها تبتسم هذه المرة بصدق، وكأن قلبها هو من ابتسم بالنيابة عنها. كانت تدرك أن سليم لم يكن يحب الرمان، بل إن والدته كانت تعاني في إقناعه بهذه الفاكهة التي تشتهر بها واحتهم ويزرعونها بكثرة. لكنها كانت تعلم أن قتيبة كان يحب الرمان بشكل خاص، ويحمل معه منه ما يستطيع في كل مرة يعود فيها من العاصمة. كانت أمنيته أن يكون الشيء الذي يحبّه والده معه في حياته الآخرة.
احتضنته لا لتواسيه، بل لتواسي نفسها أيضًا. أدركت أن هذا الصغير كان أقوى منها.
"قال تعالى في سورة الرحمن: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾"
وجدت الصغير يبتسم بخفّة، ثم رحل بالتأكيد ليرافق أخاه الأكبر، وتركها جالسة هناك في الذكريات. خطّت دمعة على خدّها، وسرعان ما مسحتها بخفة كأنها كانت نسياً منسيا.
خرجت من الدار إلى ساحة العزاء. ما الذي كانت تتوقّعه؟ ازدحامًا شديدًا لدرجة أنها لن تجد موضعًا لتجلس فيه؟ أن لا تكون وحدها؟ أن يواسيها الجميع؟
فالجميع في واحة الغانمة أحبّ قتيبة، وخيره قد طال الجميع. لم يبخل يومًا بماله أو نفسه لأي كان. ولكن، ولسبب ما، كان الجو أحرّ من المعتاد، والرياح لم تسعفها لتخفف من هذا الحر أو تكسر هذا الصمت. والساحة... فارغة.
وقفت في وسطها سارة، وحيدة كشجرة رمان. لم تجلس، بل وقفت كأنها تنتظر. وخلفها كانت رفيدة بحيرتها. كانت هذه الحيرة ستقتلها. أرادت أن تصرخ، لكنها تماسكت، وتمسّكت بالصبر.
ومن حيث لا تحتسب، دخلت جنان، وكانت كالمشكاة في غسق الظلام، إذ انتشلت المسكينة من حزنها وحيرتها. ما إن رأت جنان، التي دخلت وهي تجرّ خلفها والدتها وأختها الصغرى، حتى شعرت بأنها لا تقوى على الوقوف. فسقطت أرضًا تبكي. فما كان من صاحبة عمرها إلا أن تهرع لها، تمسكها بحنان، وتواسيها. تربّت عليها، وترقيها، وتسقيها بعذب الكلام مما يصبّرها:
"اصبري واحتسبي الأجر."
"لا حول ولا قوة إلا بالله." قالتها رفيدة من قلبها، فاستشعرت كل حرف، وعلمت أن الله معهم في محنتهم. فكلما اعتقدت أنها لن تتحمّل، تجد ما يسعفها.
في المساء، كان كل الحضور من أهل جنان وأهل خطيبها، وأهل الشيخ أبان. حتى إن رفيدة خرجت عن صمت استنكارها أخيرًا وسألت:
"لماذا لم تأتِ المعلمة والبنات؟"
كانت تتكلّم عن معلمة الخياطة. وجدت تعبيرًا على وجه جنان يجمع بين خيبة الأمل والاشمئزاز، وكان هو الجواب لما لم تكن رفيدة قد حسبت له حسابًا. فقد اكتفت جنان بقول:
"كل شخص يمثّل تربيته."
كانت ثلاث ليالٍ ثقال، كأنها ثلاثون عامًا. كل ليلة تعود فيها إلى دارها، تشعر بنفسها ثقيلة كأنها تحمل الجبال على كاهلها. فقد سمعت صهيب ذات ليلة يشتكي لوالدته:
"لماذا لم يحضر أحد عزاء أبي يا أمي؟ ولا أحد من أصحابي في الكتّاب فكّر بالحضور؟"
لم تكلّف رفيدة نفسها في ذلك اليوم بالاستماع إلى ردّ سارة، لأن عقلها انشغل في تصرفاتها الأخيرة، التي وجدتها مستهجنة بكل ما فيها. لم تذرف دمعة، لكنها استمرّت في التصرف كأن شيئًا لم يحدث، وكأن ظلمًا لم يقع. والمشكلة أنها كانت متقبّلة لفكرة رحيل قتيبة، وعملت على تأكيد الأمر للأولاد.
فنمى في داخلها شك زرعه الشيطان، وبات ذلك الهاجس يحاوطها. لكنها التزمت الصمت. بل إنها قطعت نفسها عن أهل هذه القرية، كأنها لم تكن ابنتهم يومًا. وأخبرت جنان أن تبلغ المعلمة أنها لن تحضر دروس الخياطة بعد الآن.
وكانت جنان قد اقترحت أن تؤجّل زفافها حتى تمرّ مرارة الفقد من حلوقهم، لكن كانت سارة هي من رفضت، قبل أن ترفض رفيدة، التي أكدت حضورها في نفس الموعد، ولكن بمرارة.
في تلك الفترة، وصلت إليهم رسالة من خلال خادمتهم التي عملت عندهم لسنوات. وذات صباح، وعلى وجهها كل إمارات الإحراج، قالت:
"أنا آسفة يا سيدتي، ولكن عليّ أن أتوقف عن العمل لديكم."
"هل أصابك منا ما يؤذيكِ؟" سألتها سارة، وهذه المرة بحيرة.
كانت المرأة تقلب عينيها يمنة ويسرة، لكنها سرعان ما قالت:
"والدي، يا سيدتي، يرفض عملي لديكم."
"ما الذي بدر منا؟" سألت سارة بوجه بدا لرفيدة أنه منفعل جدًا، لكنها كانت متماسكة مع ذلك.
"ليس منكم، يا سيدتي، ولكن الناس تتكلم..." قالتها بحذر.
"عن ماذا؟" تذكر رفيدة أنها قالتها بحدّة.
"عن موت سيدي و..."
"وماذا يا سُمية؟" هنا تدخلت سارة.
"خيانته، يا سيدتي." قالتها سمية بسرعة وقلق، وكأنها رمتها رميًا.
كانت رفيدة تشك، لكنها التزمت الصمت منذ وفاة أخيها. مرت عشرة أيام، ولا تستطيع تذكر إلا بضع أشخاص زاروهم خلالها. وحتى المعزين عند الرجال كانوا قليلين.
هذا أغضبها، بل إن حنقها قد ازداد، لا فقط على الظلم الواقع عليهم، بل على ما يعايشونه من حزن الفقد ، وعلى الافتراء الذي قرر كل أهل هذا البيت، بشكل غير معلن، تجاهله واعتباره وهمًا.
لكن سماعها للإفتراء بأذنها، يتفوه به من كانت تعتبرهم أعزاء، جعلها تفور. العصبية والاندفاع، الذي كان يكرهه قتيبة في أخته، كله تجلّى في تلك اللحظة. فهي لم تعِ ما كانت تفعله، وكأن شيئًا بدأ يدفع جسدها، فقفزت في وجه الخادمة، منفعلة مستعدةً للضرب، وهي تصرخ:
"وهل تصدّقين مثل ذلك الكلام البغيض؟"
هنا، وجدت سارة تبعدها، وفي وجهها غضب واضح، غضب لم ترَه في عينيها من قبل. لم تدرِ إن كان موجّهًا لها، لكنها قالت بنبرة حادة:
"سيطري على نفسك يا رفيدة."
"ولكن، يا سارة، سأضع التراب في فم من يتكلم بسوء عن أخي، حتى لو كنتِ أنتِ!"
رمتها رفيدة، تاركة خلفها هذه الكارثة.
أدركت اليوم أنها لم تتغير. فها هي الدار التي كانت تبدو جميلة قبل ساعة، غدت خراباً و هذا الخراب كان قد بدر منها, فقط لأن هناك من تجرأ وتكلم عن من تحب بسوء.