الفصل الرابع
صبر جميل
تذكّرت جيدًا طعم المرارة في فمها، وكيف ابتلعت كل شيء دفعة واحدة. مع أن مظاهر الفرح بدت بسيطة، إلا أنها علمت أن هذا كان تقديرًا لها، ولذكرى الفقيد الذي ترك أثرًا لم تنوِ أن تجعله يُنسى. حاولت أن تجاري الفرح، وترسم من زيف الابتسامات ما يليق، فهي قد وعدت سارة!
رجتها في ذلك الصباح أن تحسن التصرف مهما بدر من الجمع. لم تكن تنوي رفيدة أن تسمع، ولكن كان هذا رجاء سارة الأول منذ ان غيب الموت قتيبة:
“أرجوكِ، لأجل ذكرى أخيكِ، عديني أنكِ لن تفعلي شيئًا.”
لم تعلم ما الذي تتوقعه من الناس! فقد اعتزلتهم منذ أول خذلان. لذلك، مضت بزينة متواضعة، وضعتها لأجل تلك التي لم تتركها، لا هي ولا أهل من سيكون زوجها، كلهم عملوا بأصلهم الكبير قدرًا. لم تكن سارة تستطيع الذهاب، فهي كانت لا تزال في عدتها.
تذكرت رفيدة أنها عندما دخلت، استقبلتها الأعين والصمت الذي قرأت فيه الشك، واتهامات العار، والخيانة، والشفقة في بعضها. تجاهلت… فهي قد قطعت وعدًا. لم تُلقَ عليها أي تحية، حتى من زميلات الخياطة. تجاهلت هذه الطعنة ومضت. سمعت الهمزات واللمزات من حولها، لكنها استمسكت بكل ما لديها من تحمّل لأجل سارة، فهي قد وعدتها.
بقيت جالسة بغصّتها، حتى أقبل أهل العرس، فألقت السلام. وكانت تنتظر جنان، فسألت عنها، وقررت أن تتركهم، فتبارك لها وتغادر سريعًا لأنها لم تحتمل أكثر كل ذلك الثقل الذي وضعوه على روحها.
“كيف يمكنها أن تظهر وجهها بهذه الصورة؟”
سمعتها وهي في طريقها لمقابلة جنان. تجاهلت، فهذا لم يكن غرضها. لم تكن تريد أن تعلق في مشادة سخيفة.
“حتى بعد ما فعله أخاها، لا زالت تمشي بكبرياء.”
لكن المشادة السخيفة مست أخاها، وهذا فجّر بركانها الخامد أخيرًا. التفتت للمرأة، وعرفتها أنها إحدى الجارات، فقالت بهدوء مُبتذل:
“ما الذي فعله أخي -رحمه الله- يا سيدة جيداء؟”
“أوه يا ابنتي، رحم الله الأموات.” قالت المرأة بسرعة، هاربة من المواجهة.
“رحمه الله ساعد ابنكِ عندما تورط في قضية الاحتيال تلك… هذا ما فعله.” قالت رفيدة بانفعال، وهي تدور بنظرها على المتواجدات، فمن سمع قد وصله الجواب ليخرس.
“هل ستفضحين الأحياء؟” قالت المرأة باستنكار.
“إذاً، لا تتكلمي عن الأموات. واسألي الله السلامة.” قالتها رفيدة، ولم تترك مساحة أكبر لتصرفات طفولية بدرت من كبيرات السن قبل الصغيرات! فهي وعدت سارة، وقد أخلفت بنصف الوعد، ولم تكن تريد أن تخلف بما تبقى منه.
أكملت طريقها ناحية الغرفة التي كانت تستعد فيها جنان. طرقت الباب ودخلت بعدما سُمِح لها. كانت جنان تجلس كلوحة جميلة يكسوها الحياء. بدت كامرأة ناضجة بثوبٍ أحمر رقيق، مُطرّز بالخرز الملون، وخيوطه كانت من حرير. هذه الخيوط قدمتها لها رفيدة بنفسها هدية، يوم علمت بخبر خطبتها.
كانت أمامها امرأة ناضجة، ولم تشبه الطفلة التي عرفتها بالأمس. نزلت دمعة حنين، مسحتها، ولكن لما التفتت لها جنان، لم تستطع ردع تهديدات دموعها. كانت دموع سعادة، ولكن يكسوها من الحنين الحزين ما يكسوها. “ليتنا لم نكبر وبقينا أطفالًا”، بكى لسان حالها.
“تبدين جميلة.” قالتها وهي تحتضن جنان.
“سعيدة أنكِ حضرتِ ولم تخذليني.” قالت جنان برقة، وهي تردّ لها الحضن بمواساة.
“وهل يقدر قلبي على هذا؟” قالت رفيدة، وأكملت: “قلت لكِ بأنني سأكون شاهدة على قصة حبكما، مع أنني لم أستطع أن أكون أول الحاضرات.”
“لا بأس، سامحتكِ. وجودكِ اليوم يعني لي الكثير.” قالت جنان.
“وسارة ترسل لكِ أحرّ التحية والتبريكات.” قالت رفيدة.
“ليتها كانت معنا…” قالت جنان بحزن حقيقي.
جلست لبعض الوقت مع جنان وعائلتها. شعرت أن الوقت مضى قليلاً، ومسح عن قلبها ما يكفيها ليمضي هذا اليوم بهمّه. فهي اليوم عرفت مكانتهم، واستطاعت أن تفهم القادم.
“صبرٌ جميل، والله المستعان.” كررتها في داخلها.
خرجت مع كل توسلات صديقتها، ولكنها شرحت لها:
“إني غير مرحّب بي من الجمع. هم فقط أهلكِ وأهل زوجكِ من رحّبوا بي، حتى السلام - والذي فيه أجر - استصعبوه.” قالت رفيدة، معاتبة.
“إنهم معاتيه! ليتني لم أقم بدعوتهم.” قالت جنان بانزعاج، وكأنها عادت الطفلة التي كانت بالأمس.
“لا تفعلي ذلك، لا أخبركِ لأنغّص عليكِ فرحتكِ.” قالت رفيدة وأكملت، متسائلة: “إذن، هل تسمحين لي بالرحيل؟”
“فقط إن وعدتِ بالعودة.” ردت جنان.
“ما إن تعودي من سفرك، ستجدينني أقف في وجهك.” قالت رفيدة بحنان، وهي تودع صديقتها، وأكملت: “أدعو الله أن يُسخّر لكِ زوجك، وأن يرزقكِ من البنين والبنات ما لا تستطيعين عَدّه.”
“آمين.” قالت جنان بخجل، وأكملت ممازحة: “ولكني أريد عَدّهم!"
خرجت رفيدة بعدما ألقت الوداع على أهل الدار، وأكملت طريقها تحلم… تحلم بحكايات الماضي، تحلم بالأيام التي كان قتيبة يقف فيها إلى جانبهم. أخذتها قدمها، ولم تأخذها بكل ما فيها من حنين واشتياق إلا إلى شجرة الرمان القريبة من منزلهم.
كانت الثمار معلقة هناك، ناضجة، منتظرة، مترقبة صاحبها، ولكن لم يأتِ أحد لحصادها.
أطلقت تنهيدة حزينة كحزن الشجرة الأثيرة، وكان ذلك الخنجر لا يزال معها منذ ذلك اليوم المشؤوم. اختارته لتقطف رمانات قتيبة، فهو سيحزن لو رآها معلّقة بلا صاحب.
تذكّرت أنها دخلت للدار بوجهٍ حاولت أن تجعله مشرقًا بالقدر المستطاع، وجهٍ كان سيرسمه قتيبة.
نادت بملء الصوت:
“يا أهل الدار، إنه الرمان!”
وهنا وجدت سليم يقفز بانبهار، وخلفه تجري سارة، وظهر صهيب بملل من العدم.
“هل أصاب عقلك شيء يا عمّة؟ تصرخين لأجل الرمان؟ جميعنا نكرهه… إلا أنتِ وأبي.”
قالها صهيب، لم يلقي حساباً لكلماته العفوية، ولكن سرعان ما انقلبت موازينه، كأنه تنبّه لما نطق به، وعلى ما يبدو أنه أدرك في ذلك اليوم أن الأحرف قد تحمل سماً وعسل.
ندمت رفيدة على فعلتها، ظنّت أنها قلبت المواجع والأحزان، وهي التي كانت تحاول أن تصمد أمام رياح الحزن وكل التخوين الذي عاشته اليوم.
“أنا أحب الرمان!” قالها سليم، وقد أشرقت عيناه لأول مرة منذ زمن.
“هذا جيد. هل تريدني أن أقطع لك واحدة؟” قالت رفيدة بحماس أخفت خلفه تلك الغصة التي لازمتها.
“أنا أريد أيضًا.” قال صهيب على استحياء.
“هل نعطيه يا سليم؟” سألت رفيدة بمرح.
“إنه لا يحبه، فقط أنا!” قال سليم بعناد.
“سآكل من هذا الرمان، شئتم أم أبيتم!” قال صهيب، بتهديد وعناد طفولي.
لاحظت رفيدة اختفاء سارة، التي كانت هنا منذ دقائق.
وضعت الرمان والخنجر، وقالت:
“سأبحث عن والدتكم وأحضر الأطباق.”
بحثت رفيدة عن سارة، فوجدتها في المطبخ تغسل الأطباق.
“كنت أبحث عنكِ.” قالت رفيدة بحنان.
“لا تقلقي بشأني، وأنتم استمتعوا بالرمان.” قالت سارة وهي تشيح بنظرها، بنبرة بدت لرفيدة محطمة تمامًا.
تركتها خلفها، وفي قلبها ألف سؤال وسؤال… لكنها وجدت أنه لم يكن وقت العتاب، وربما لم يكن هناك عتاب لتستعجله.
اعتادت رفيدة في الشهرين الماضيين أن تمضي الكثير من الوقت مع الأطفال. كانت تقوم على كل ما يحتاجونه، وكانوا يتعافون نوعًا ما. أما سارة، فكانت إما في غرفتها أو في المطبخ، تطهو بصمت.
هذه الحال، التي لاحظها الجميع، لم تعجب رفيدة، لكنها كانت تسكت، تنتظر من سارة أن تأتي وتقول شيئًا يريح بالها الذي اضطرب من هذا السكون.
لكن بقي الصمت موقف سارة.
تذكرت كيف أن ذلك الصمت ولّد فيها بركانًا خامدًا، أصمتته لأطول فترة. ولم يفجّر ذلك الصمت اللاذع إلا عندما عاد صهيب مرةً، والطين يغطيه!
صاحت رفيدة يومها في هلع، وهي تركض نحوه:
“ماذا حدث؟”
“لا شيء يا عمّة.” قالها الصغير وهو يشيح بوجهه.
“تكلّم في الحال!” صاحت رفيدة بغضب.
“لا أحد له دخل بي!” صاح صهيب، وهو يدفع عمته التي سقطت أرضًا متعجبة، ولا يزال يشيح بنظره عنها.
وهنا فقط، ومن حيث لا أحد فيهم يتوقّع، ظهرت سارة وأطبقت ضربتها على ذراع ابنها الكبير، وقالت بعنف لم تعهده رفيدة:
“هل هذه التربية التي ربيناك عليها، يا صهيب؟ تقلّ أدبك هكذا مع عمتك؟!”
“سارة، لم يكن هناك داعٍ!” تذكرت رفيدة أنها قالتها بصدمة، وهي تجمع نفسها مما يحدث.
أما سارة، فمثلما ظهرت، اختفت من الأرجاء كالروح الملبوسة.
تذكرت رفيدة يومها، كيف وقفت حائرة أمام قسوة سارة غير المعهودة.
كانت تريد أن تستمر في الصمت، لكن صوت بكاء صهيب، والذي لم يعلم أنه ملأ الدار، جعل رفيدة تجري في المساء إلى غرفة سارة لتفهم!
دخلت، فاستقبلها صمت مريب، وسرت فيها رعشة.
تلك الغرفة التي طالما احتضنتهم، وكانوا يحبون السهر فيها، بدت كئيبة فارغة. غابت عنها الضحكات، وكل دفء وحنان.
“أرجوكِ يا رفيدة، لا تفتحي معي موضوع صهيب.” قالتها سارة بتعب من تحت فراشها.
“ولكن يا سارة، أنا لا أفهم ما الذي تفعلينه تحديدًا.” قالت رفيدة بانفعال.
كل ما استقبلها كان صمتًا موحشًا، جعل قلبها يشتعل بغضب كان يتصاعد بداخلها منذ زمن.
“كلنا يا سارة مفجوعين بموت أخي، ومن سيكون مفجوعًا أكثر من أبنائه؟ لكنكِ… أنتِ، لا أفهمك!”
“ما الذي لا تفهمينه يا رفيدة؟” قالتها سارة بتهديد خافت.
“أنتِ لم تبكي، لم تذرفي دمعة، لم تحاولي أن تشاركينا في أي ذكرى تخص أخي. واليوم، تصرّفكِ مع صهيب كان غير مبرر!”
قالت رفيدة في عواصف كانت قد دارت في داخلها لأطول فترة.
“وماذا أيضًا يا رفيدة؟ قوليها!” أكملت سارة ببرودها ذاته.
“أحيانًا أشعر أنكِ تصدّقين كل ما قيل في أخي.” قالت رفيدة باتهام حاد ومباشر.
هنا فقط، وجدت سارة ترتفع، وكأنها ترتفع من بين الأموات. جثة، كلّ ما فيها كان ميتًا، ذابلًا. تلك الزهرة الجميلة… زهرة القلب، كما اعتاد قتيبة أن يناديها، غدت اليوم بهذا الشكل.
“هل انتهيتِ؟” سألت سارة ببرودٍ غامض، تغلق به باب الحوار.
“سارة!” صاحتها رفيدة باستنكار.
“لا تتدخلي في ما أفعله، وهذا يكفيني. أما عن صهيب، فهو يعرف جيدًا ما فعله.” قالتها سارة، ثم عادت إلى سكونها. و اختبأت خلف صمتها.
“لا يمكنني أن أصدقك.” قالت رفيدة، في غضبٍ كتمت أغلبه، وهي تخرج من الغرفة
بعد أيام، علمت رفيدة أن سارة كانت تعاني من المرض، وشعرت أنها ربما قسَت عليها. ازدادت عليها الحمى، فحملت رفيدة على عاتقها المزيد من الهم. لم تستطع أن تجاري الأولاد كما اعتادت؛ صهيب بات يتصرف كوالدته، أما سليم، فبات يبكي ويشتكي كثيرًا على أتفه الأمور. مرة لا يعجبه الطعام، ومرة أخرى يريد رؤية البحر في الحال، وهم في وسط الصحراء!
كان أسبوعان ثقيلان، رافقت فيهما رفيدة الجميع:
تُطبّب سارة،
وتُجاري سليم،
وتُدرّس صهيب،
الذي زاد عناده.
لم تكن تتكلم كثيرًا مع سارة؛ فلا شيء تغير منذ آخر مواجهة، لكن بقي الاحترام. إلى أن جاء ذات مساء… قالت سارة، وهي في أوج حُمّاها:
“ليتني كنتُ قوية مثلك يا رفيدة. لكنه لا يغيب… أراه في الزوايا، فتبكيني ذكرياته.”
هنا التفتت رفيدة إليها بصدمة.
ربما، للمرة الأولى، فهمت قليلًا ما تعانيه هذه الزوجة المحبة. فهمت أن ما تعيشه سارة لم يكن شكًا، ولا خيانة لذكرى قتيبة، بل هو حدادٌ لم تعرف كيف تخرج منه. لم تبكِ زوجها المغدور كما يجب. كانت تظن أن عليها أن تقف، أن تبقى قوية، لكنها نسيت – في خضم ذلك – أنها أيضًا إنسان، لها قلبٌ وقدرة على التحمّل.
“تُبكينا جميعًا، يا سارة.”
قالتها رفيدة بلا وعي، وقد نزلت دموعها، وهذه المرة…سمحت لها بالهروب من مقلتيها بحرية.
“عديني أنكِ لن تتركينا… فأنا بحاجة إليكِ.”
قالتها سارة، وهي لا تزال تعاني من حمتها.
“أنا هنا. لن يُغيبني شيء عنكم.”
قالت رفيدة، وهي تُربّت على شعر سارة التي غابت في المرض.
مرّت الفصول، وأصبحت بقية الشهور ستة. وأخيرًا، أطلت عليها شجرة الرمان شامخة، تقاوم، لتكتسي ثوبًا جديدًا. كان الجو قد أصبح باردًا، يلسع الأبدان.
تذكر أنها قدّمت تحياتها الصباحية للشجرة، وأكملت طريقها إلى السوق. كان الجميع لا يزال يتحاشاها ويتجاهلها، وهي تجاهلتهم بالمثل.وإن اضطرت أن تسكتهم بلسانها… فعلت. كان عليها أن تُلقّن بعضهم الدرس، ليكفّوا ألسنتهم عنها.
لكن في ذلك اليوم…كانت معركتها من نوعٍ آخر. فبينما انشغلت بشراء المطلوب، جاء صبيّ صغير يصيح فيها:
“لقد طعن صهيب أحدهم!”
عادت رفيدة للواقع الذي ضجِرت منه. إضرابها، عنادها، لم يكن يصمد أمام جبروت صمته. كانت تكره الصمت، وهو سيده. لم تعلم كيف تُعلن رفضها لكل ما هي فيه، لكنها كانت تنظر للخنجر…الخنجر الذي لم يجلب معه إلا الخراب. هو الشعلة التي أطلقت كل شيء… بالتأكيد.