الفصل الخامس
الاحتراق
تذكّرت كيف جلست أمام الكارثة التي خلفها صهيب. لا تدري لماذا ذكرتها بشيء من الماضي، وكان نتيجتها تأنيب و أديب من قتيبة الذي لم يتردد يومها من تأكيد شناعة فعلتها و حرمانها من الخنجر الأثير الذي وجدته نائمًا ببرود بجانب الصبي، الذي حمل وجهه جرحًا سخيفًا بالكاد تراه الأعين.
“ابن الخائن فعلها!”
سمعت أحدهم يصيح بعلو الصوت، يعلن عن وصولها، وهذا كان الترحيب الأول بها منذ زمن، ترحيب غدر من أناس كانوا بالأمس أحبة وجيران.
“من هو الخائن؟” قالت بحدة وكل ما داخلها كان يذوب خوفاً و لكن ثوب الشدة الذي ارتدته كان متقناً.
هنا فقط صمت الجمع في خجل، وتواروا خلف بعضهم البعض، كل واحد يقدم الآخر للمحاكمة التي كانوا يقيمونها.
تقدم رجل أربعيني، فعرفت ابن من يكون الصبي؛ فهذا القابع أمامها كان أسوأ ما عرفت القرية من رجال. يقامر بماله، وأهل بيته يعانون من إجرامه. جاء كوحش كاسر يصيح في فتاة عمرها بالكاد جاوز العشرين.
“ابنكم المجرم، لقد آذى ولدي!” قال بعنف، هل لو كان قتيبة هنا سيتجرأ هذا الحثالة عليهم هكذا؟ تذكر أن هذا كل ما جال في خاطرها وقد سرت في رعشة غضب.
“كيف فعل ذلك؟” سألت رفيدة، وهي تتكلم بثبات وبرود، وفي داخلها بدأت عواصف الغضب تتشكل.
“لقد جرحه، انظري إلى خده. يجب أن تعوضينا!” صاح الرجل.
“لقد سمعتم من الولد، ولم تسمعوا من صهيب. أين صهيب؟” قالت متجاهلة عويل الأب المنافق، الذي راح يبحث عن تعويض مادي. وكل أصابع الإتهام الجبانة التي وصمت بها.
“لقد هرب الجبان!” صاح الولد.
“سالم!” نادت، وأشارت لأحد زملاء صهيب، تعرفه ولد جيد لم يترك صهيب حتى بعد وفاة قتيبة من القلة السليمة, فسألته بحدة تستجدي صدقه: “لا تخف، وكن رجلًا، وتكلم.”
كان الصغير ينظر للجميع بخوف، يحاول أن يقول شيئًا، قرأت التردد فيه من كل الأعين التي توجهت له و لكنه قال بجرأة تحسب لطفل في عمره فقد قال بالرغم من نبرة التردد:
“لقد نعت… نعت الخال قتيبة… نعته بالمجرم المحروق، وقال إنه حُرِق كالذبيحة ويستحق ما جرى له.”
هنا فقط التفتت رفيدة للولد المجرم، تمنت لو تستطيع ضربه من فورها، لكنها أخفت أمنياتها. كان عليها ان تكون قاسية ان تكون شيئاً لا يشبه ما تربت عليه. لكن كان عليها أن تأخذ على عاتقها الرد لتُربي الابن والأب معًا. كانت تعلم أن صهيب أخطأ، وخطأه كبير وهذا درس آخر ستعود له وسينال ما يستحقه.
“المحروق الذي تتكلم عنه أفضل من أبيك المقامر، الذي يضربكم كل مساء.”
قالتها باردة، خارجة من جوف مكسور، ثم أكملت وهي تنظر للأب:
“اذهب، وتعلم بعض التربية، وعلّمها لأولادك قبل أن تبتلينا بما في بيتك.”
“يا أخت الخائن!” صاح بجنون كان يستفزها و هي أدركت ذلك، و كل توصيات سارة السابقة بتمالك نفسها قد قرأتها في نفسها وقد حفظتها عن ظهر غيب، و لكن بقيت النار في داخلها تحرق جوفها فما كان منها الا ان تستلم لبعض هذا الغضب .
“اصمت، أيها المقامر المجرم.” قالتها، ثم عادت إليه وهي تجمع خنجرها، قائلة ببرود وعيون ميتة لم تجد املاً أو شرفاً في هؤلاء القوم:
“ولا تبحث عن تعويض من دارنا. إن حاولت، ستجد الخنجر مغروسًا في عينك بدل خد ابنك الفاشل.”
كان الاستنكار سيد الموقف، و كان موجهاً لها و ليس للعربيد المجرم و ابنه!
عادت أدراجها حاملة على كتفها كل أشكال الخذلان والغضب، تبحث عن صهيب. كيف سيصبح عندما يكبر؟ كبلتها كل تلك التساؤلات والاحتمالات.
“ماذا لو؟” بقيت “لو” هاجسًا أقلقها حتى النخاع.فما كان منها إلا أن تبحث عنه، إذ هرب. وكونه هرب، هذا يعني أنه لا يزال يعي أن فعله خطأ. لا يزال هناك مجال للعودة.ربما هي تستبق الأحداث، لا يزال طفلًا حديث السن، يخطئ ويصيب، هذا ما تذكر أنه دار في خلدها. لكن… بقيت “لكن” حادة، تجرح حلقها لتصل سكاكينها لقلبها.
كانت تمشي وهي تعرف مقصدها، ولا تدري كيف أخذتها الأقدام المتخبطة، والقلب المضطرب.لكنها وصلت… إلى الشجرة التي باتت تواسي وتطبطب عليهم جميعًا.
“اخرج من خلف الشجرة، يا صهيب.”
قالتها بحدة وتوبيخ.
هنا وجدت الصغير المغطى بالوحل يخرج، وفي عينيه ألف حكاية. نعم، كان هناك ندم، لكن هذه النظرة كانت… نار. نار قد تحرقهم جميعًا. ميزتها لأنها ذات النار التي كانت تحرق جوفها.
“لم أقصد أن أؤذيه، ولكنني…”
قالها هلعًا، كأن كل ما فيه ذاب في كل حزن الأيام الماضية، وفي كل الصمت الذي أجبره عليه الفقد.
ومع ذلك، لم تنزل من عينيه دمعة. لكن الندم غلّفه.
“إذًا ما الذي كنت تنوي فعله؟”
سألته بحدة وبحذر، باحثة عن جواب يشفي شكوكها.
“لقد… غضبت.”
غضب
غضب؟
غضب!
و… هل يؤذي الإنسان كل من غضب منه؟
لقد وجه غضبه في المكان الخاطئ.
ربما كانت معركته فعلًا مع هذا الولد اللئيم، ولكن الخنجر لم يكن السلاح المناسب، بالتأكيد ليس في يد طفل في الثامنة.
“صهيب…”
قالتها بنبرة لا تزال فيها غضب، لكنها أشبه بالمناجاة.
وجدته يشيح بنظره، وعلمت أنه سيعود لحكايته المعتادة. لذلك لم تكن تنوي أن تفتح له الباب لهذا العناد الطفولي، ليس اليوم و ليس أمام هذا الفعل الشنيع!
“صهيب…” قالت بنبرة أرق، كانت الدموع قد هدّدت، لكنها قاومتها. وجدته يرضخ، وهو يقول بنبرة حاول أن تبدو متماسكة، لكنها سرعان ما ذابت في كل المعاناة:
“أنا لم أفعلها عمدًا، أنا فقط أردت أن أخيفه قليلًا، ليتركني.”
“لقد أخبرني سالم بما قاله لك.” قالت رفيدة.
“إنها ليست المرة الأولى. كل يوم يرميني هو وزملاؤه بالوحل، يا عمّة، يخبرونني أنني ابن خائن، وهذا مقامي الذي أستحق…”
قال، وقد بدأت دموعه بالنزول.
“واليوم… علمت فقط…” قال بغصة.
“أنهم أعدموه حرقاً يا عمّة، حرقاً، لماذا فعلوا ذلك؟”
قال الطفل بحيرة، وتلك النار في عينيه اشتعلت. وعلمت أن هذه النار قد تحرقهم جميعًا إن لم يُداروها. والأهم… ستنهي هذا الصغير. علمت أن مخاوفها تحققت. وقفت أمامه، والخوف قد بلغ مداه، لكنها صمدت وقالت:
“لماذا لم تخبرنا من قبل؟”
“لأنني وعدت أبي أن أعتني بكم.” قال بحزن واضح، في شوق كسر قلبها.
“لا تحتاج لأن تفعل ذلك.” قالت رفيدة.
“ولكنني رجل.” قال بحزم.
“فعلك اليوم لا يمتّ للرجولة بصلة.”
قالتها بحدة، لكي لا يكون له حجة، ثم أكملت:
“إن كنت تريد أن تسعد أباك و تكرم مثواه وتعتني بنا فعلًا، أكمل تعليمك، ولا تلتفت لأحد. ضع نجاحك وسط أعينهم… هل تفهم؟”
“ولكن يا عمّة…” صاح بعناد.
“انظر… لقد كنت لطيفة معك، لأنه سيكون عليك أن تواجه والدتك.”
قالت رفيدة بتهديد واضح. هنا فقط وجدت ما يردعه؛ فهو لا يخاف من والدته، إنما يخاف من حزنها عليه.
“والآن، هيا. عليك أن تكون رجلًا، وتواجه نتيجة أفعالك.”
قالتها لتجعله يفهم ما تعنيه الرجولة. وهذا الدرس لم يكن درسها لتلقنه.
فهم، وما إن وصلوا للدار، بقي صهيب مترددًا من الدخول، وهو يرمق عمته كل دقيقة، يبحث عن حماية. لكن هي لن تكون مصدر حماية له اليوم.
يجب أن ينال درسه.
هي تعلم أنه لم يكن مخطئًا بشكل كلي، لكن… لن تسمح له بأن يصبح منتقمًا يصبّ غضبه في المكان الخطأ.
فتح صهيب الباب. وما إن فتحه، حتى استقبلتهم سارة بوجه صامت مكفهر. كانت تنظر بغضب واضح.
للوهلة الأولى، ظنّت رفيدة أن هذه النظرة كافية لتأديب صهيب اليوم. لكنها وجدت سارة تهرع ناحيتهم، وهي تصيح في ولدها، ممسكة إيّاه من ياقته، وقالت:
“هل ستدنّس اسم أبيك الآن؟”
“أنا آ…”
كان سيقولها، لكنها لم تمهله؛ إذ هوت عليه بضربة جعلته يسقط أرضًا. وجلست بعدها أرضًا، تنظر لفعلتها التي لم تشبهها و كل مافيها يرجف. فهي لم تكن يومًا مجرمة بحق أبنائها.
وحتى اليوم، ولكن الدور الذي كان من الممكن أن يلعبه الأب في التأديب كان عليها أن تأخذه. لكن ما فعلته جعل قلبها يتقطع. لم تتدخل رفيدة، لأنها نفسها بقيت محتارة أمام الصغير. اليوم كانت ضربة خنجر بغرض التخويف، وفي لحظة غضب. لكن… ماذا عساه أن يفعل غدًا، بحجة الغضب؟
“اذهب لغرفتك، ولا ترِني وجهك!”
قالتها سارة بضعف.
وجدت رفيدة صهيب يجرّ نفسه جرًّا. لم تكن الضربة مؤلمة لتلك الدرجة، لكنها كانت درسًا. ومع ذلك، لمحت تلك النظرة مجددًا. شعرت أن ذلك لن يكون درسًا دائمًا، بل مؤقتًا.
“اهدئي يا سارة…”
قالت رفيدة، وهي تربّت على سارة، التي ضعف جسدها نتيجة مرضها الأخير.
“لقد جاؤوني النسوة يعاتبنني… قالوا إنه سيسلك طريق المجرمين كأبيه.” قالت سارة بهدوء يشبه القبور.
هنا وقفت رفيدة. كانت مجددًا تعود لها فورات الغضب. لن تهدأ روح هذا البيت مهما حاولوا، وهؤلاء من سموهم جيرانًا كانوا كأنهم أعداء، يبثّون سمومهم عليهم، كأنهم وجدوا متعتهم في إيذاء الضعفاء!
“رفيدة، لقد وبخت الصغير قبل قليل… هل ستتصرفين مثله؟” قالت سارة بتعب واستسلام.
“ولكن يا سارة، لم تريهم قبل قليل! لقد كان القذر يبحث عن تعويض مادي، والمتخاذلون لم يحركوا ساكنًا!” قالت رفيدة بانفعال، وأكملت: “لو تسمعين ما سمّوا به بدن الصغير… هل تعلمين كيف عَلِم بطريقة موت قتيبة؟”
“كان عليه أن يعلم بطريقة ما!” قالت سارة ببرود، لكنه لم يكن استسلامًا هذه المرة.
“أعلم، ولكن المسكين يعاني، ولا أفهم كيف ينقلب القوم في ليلة وضحاها؟” قالت رفيدة.
“لم تعد هذه الواحة تحتملنا يا رفيدة. ولن يكفّوا ألسنتهم المسنّنة عنّا.” قالت سارة، وهي تقف مجددًا، ثم أكملت وسط حيرة رفيدة: “أرسلتُ لأخي همّام، وقال إنه سيستقبلنا.”
نظرت لها رفيدة باستنكار واستغراب. فلم تفهم لماذا تهرب سارة؟ ومن ماذا تحديدًا؟ لقد تواصلت مع أخيها، الذي قاطعهم منذ زمن بعيد بعدما تشاجر مع والد سارة وأهانه! رجل كل ما فيها يغيب في غصة عند ذكره فكيف ستحتمي اليوم به! لن يكون أفضل من أهل هذه الواحة! هذا ما لم تتخيله رفيدة، و لم يستوعبه عقلها في ذلك اليوم.
فهي لم تفهم كيف سيحل هذا رأته من نار في عيني صهيب؟ ربما… كل واحدة اختارت حلًا رأته مناسبًا. لكن من كانت مصيبة؟ ومن كانت مخطئة؟
بينما سارة حاولت أن تحميهم من الأفعى، رفيدة كانت تحاول اقتلاع سمها. سارة تحاول أن تمضي بالأولاد ورفيدة بطريقتها، وأما رفيدة، فكانت تحاول أن تنقذ ما بين يديها بطريقتها. هناك صواب… وهنا خطأ… بالتأكيد.
عادت لواقعها.
كانت أخيرًا قد اختارت أن تترك هذه الغرفة الصغيرة! عزمت، كعادتها القديمة، لأن غضبها هذا وصيامها عن الكلام والطعام… لن يحل مشكلتها. اليوم فشلت…فغدًا لن تفشل، حتى لو كلفها هذا حياتها. وقفت تهرع للباب. في خيالها، كانت ستكسره بعزمها، مقفل بكا تأكيد.
ولكنها وضعت يدها فهوى مفتوحاً بكل بساطة بين يديها.كان دائمًا مفتوحًا. وهي لم تحاول فتحه!
لكنها تعرف، أو أن شكّها المستمر جعلها توقن: أن حريّتها هذه ليست مجانية و ليست ببساطة هذا الباب المفتوح. هو كان يعرض عليها عرضًا… وهي في هذه اللحظة، كانت مستعدة للعمل مع أيٍّ كان، لتحقّق هدفها… وتصل لانتقامها.