الفصل السادس

الرحيل الذي يشبه الحنين

تتذكر كيف لم يُحرّك سكون القرية النائمة تلك الليلة سوى هبّات الريح الناعمة التي راحت تغني بنعومتها، تُغازل حبات الرمل وأشواك الشجيرات.

من تحت شمعتها، وضعت النقطة الأخيرة على القرطاسية القديمة، تنهدت، لم تُطل النظر طويلًا لما خطّت أناملها على عجل، فقد شعرت أنها لو عادت ستتراجع عن كل شيء. ألقت نظرة أخيرة على الدار، ودّعت أهله في قلبها، أطلقت تنهيدة مكتومة، خافت أن يستيقظ أحدهم فيذوب قلبها وتتراجع. حملت حقيبتها، أمسكت بالخنجر ذا النصل الفضي، أسّ الشر، شعرت أنها يجب أن تُبقيه معها لكي لا يتورط بشروره أحد من أهل هذا البيت، خبأته في ثيابها بعناية، وخرجت.

كانت الرؤية ضبابية، لا تدري إن كانت ذرات الرمل أم دموعها، لم تُلقِ الوداع على شجرة الرمان، ولم تنظر خلفها, خافت ان تكون من الغابرين، و لكن بقي قلبها متعلقاً هناك،نائماً بين ثنايا الرمان. تتذكر الكلمات التي تركتها خلفها بوجع، وعنوان كل الحروف بخط مبعثر يقرأ فيه التردد:

"بسم الله الرحمن الرحيم إلى من كانت دومًا سكني ومسرتي، السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، أما بعد: إني أكتب هذه الكلمات، وفي حلقي غصّة لم أعرف بأي مجرى من جسدي أطلقها. حتى دموعي... خلتُ أنها ضاعت بين أهدابي. لوميني على ما فعلته، وما سأفعله، ولكن لا تُغالي في عتابي! فإن نظرة الغضب التي رأيتها في عيني صهيب، جعلتني أفزع، وسرقت من ليلي كل ما فيه من سكينة! لماذا؟ لماذا يجب أن يعيش طفل صغير مثل هذه المشاعر؟ خفت من غضبه ذاك، خلت أن إحباطه سيكون وقود شر وابتلاء، فقد رأيت كل إحباطي فيه، فهمته، ولم أرد له أن يتحوّل إلى أداة انتقام. ولذلك كتبت على روحي هذا الموت، وحملتها في كفي باحثة عن الحقيقة الكاملة، علني أعود بالبشريات، لا أدري إن كنتُ أسلك الطريق الصحيح... ولكني سأبقى أشعر بالعجز إن لم أتحرك! وصدقيني... سأعود إليكم بالأخبار الجيدة إن كتب لي الله. لا تغضبي مني يا زهرة قلب قتيبة، واذكريني في دعائك. كتبتها بمداد المحبة والرجاء رفيدة بنت غياث الهَيْساني"

حملت نفسها وهي تُرقق خطواتها، تمنت لو تستطيع التحليق فلا تترك خلفها أي أثر، فتذهب وتعود بخفة كالريح، ولكن البرد والرمال التي غطست أقدامها فيها منعتها. هل كانت تعرف الطريق؟ مبدئيًّا نعم، كانت تدل خان التجار الأقرب لقريتهم وجهتها الأولى، فقد كان الخان قزيباً و زارته من قبل معق تيبة و سارة> حيث كان يقام فيه سوق متنقل احياناً ليغطي كل القرى المجاورة، في عقلها رسمت الخطة: سترافق أي قافلة ذاهبة للعاصمة بهْرَمان، وبعدها ستبحث عن مكان للسكن والعمل، لأن المال الذي معها خمّنت أنه قد يكفيها لأسبوع فقط إذا كانت محظوظة.

كانت تريد أن تصل لخيط لتعرف ما جرى، فهي كانت قد التقت بالشيخ أبان قبيل رحيلها، كانت تبحث عن أجوبة تشفي ظنونها، كانت مستعدة للمضي بعزم سارة و لكن بقي في داخلها شيء، و نبرة الشيخ التحذيرية القلقة كانت جواباً لشكوك قلبها: "لا تنبشي كثيرًا، ففيه خطر على الجميع يا ابنتي، وأولهم عائلتك، أَلستم راحِلين من هنا إلى سَهْوَان؟"

نعم، كانت سترحل مع سارة التي كانت تحمل كل شيء بثقل من الدار استعدادًا للرحيل وترك الواحة التي رمتهم بلا رحمة، ولكن في اللحظة الأخيرة، ومع كل هواجسها، أخذها قلبها قبل عقلها إلى بهرمان. وهاجسها علق مع الحقيقة التي لم يسألوا عنها، وتجاهلتها سارة عمدًا لأنها لم تُصدّق حرفًا وهذا كان يكفيها، و كان سيكفي رفيدة و لكن بقيت صهيب هو الذي أشعل داخلها هذا الفتيل، لذلك اختارت ما وجدت فيه عدل للجميع، وأولهم صهيب الذي سيستطيع أن يرفع عينيه في عين كل من يسخر من والده ما أن تجد الحقيقة وسط سيل الاتهامات الذي لم بشبه قتيبة.

فالخيانة ليست من طباع قتيبة، ولا سيما ضد الخلافة، كل عائلتها كانت وفية للخلافة، كانت تعلم ان هناك شيء خاطئ مستتر خلف كل هذه الإدعاءات الكثيرة، فالحقيقة الوحيدة كانت الإعدام و ام البقية كانت افتراء وهذا كما كانت رفيدة متأكدة منه مثلما هي متأكدة أنها إنسان من لحم ودم.

أمضت سبيلها في الصحراء، وفي عقلها أن رحلتها لن تطول، ستة شهور لا أكثر، ستذهب و تعود سريعاً، ولكنها في داخلها علمت أنها عليها أن تجتهد وتستخدم كل ما في يدها من حيل، فالجهد وحده لن ينفعها عليها ان تستخدم كل ما في يدها من دهاء. فهي استخدمت الطرق المشروعة فغُلقت في وجهها الأبواب، والخطر مصيرها، لذلك كان عليها أن تحسب الخطوات، وهذا ما كانت تنوي فعله في الأرض التي تبعد عنها مسيرة يومين بالحصان، ولكنها كانت تسير على الأقدام.

وصولها لخان التجار كان يسيرًا، ولكن التعب النفسي كان أشد وطأة عليها، فهي وصلت للخان، وأول شعور أصابها هو الخوف وتلاه الغربة، و كل تلك الذكريات التي حملتها للبكاء و لكنها قاومت هذه الرغبة الملحة. كانت ترى الوجوه والضحكات والألوان، خان صغير ولكنه يؤدي غرضه المطلوب. دخلت تبحث في الوجوه، تبحث عن الألفة، ولكن لم تقابلها إلا الغربة، لم تميز في المكان لونًا يشبهها، ولكنها تذكر أنها لم تُضِع وقتًا، بل راحت تراقب في صمت عن جسر وصولها للعاصمة.

فبعد وقت من الاعتياد قليلًا على المكان، وجدت ضالتها متمثلة في رجل خمسيني، استرقت السمع فسمعته يقول إنه تاجر وراح يشتكي من زوجته التي التصقت بحلقه. ظنّت أن السفر مع عائلة هو الأمان لوصولها، فبجرأة توجهت له وسألت: "سيدي، أحاول الوصول للعاصمة، فهل تساعدني؟"

"وهل ترينني سبيلًا للمحتاجين؟" قال الرجل ضاحكًا، ليضحك رفاقه بسماجته، و الذين ضحكوا لماله لا لثقل دمه.

"ليس مجانًا يا سيدي." قالت كاتمةً غيظها، و نظرة السخرية التي كانت ستعلو وجهها من هذه السخافة. وأكملت: " فكما ترى، أنا فتاة أسافر وحدي وأبحث عن الأمان، وسمعت أنكم تسافرون مع زوجكم."

"وهل ينتظرك أحد في بهرمان؟" سألها وهو يرمقها بتفحص، يحاول أن يفهم ما خلف هذه الفتاة.

فقالت وهي تحاول أن تُبعد الشكوك عنها، نادبة الفرصة التي كان عليها أن تُضيعها: "أزور عمة لي أعياها المرض المفاجئ."

"حسنًا، يمكنك أن ترافقينا ولا تحتاجين لدفع شيء، ولكن على شرط: أريدك أن تشغلي العجوز المزعجة عني." قال بسخرية.

نظرت له بانزعاج، ودعت لزوجته المسكينة التي كان عليها أن تتحمل مثل هذه السخافة للأبد هذا ان لن تطلب الطلاق. أرشدها لمكان الزوجة، والتي ولدهشتها، كانت تصغره على الأقل بعشر سنوات، لم تكن عجوز ابداً, ذات حسن وجمال وظرف جلي، عرفت أن اسمها مَسَرّة . ورافقتها، وكانت نعم الرفيقة، فهي حنت عليها وأكرمتها بلا مقابل، حتى عندما سألت عن مكان لتسكنه في ليلتها الأولى في العاصمة، أخبرتها أنها ستعلمها بمكان محترم وسعره بمتناول اليد، بالطبع كان مقترحًا من إحدى الخادمات.

مع أولى بشريات الفجر، حركت الراحلة في نعاس خطواتها نحو العاصمة، وفي ذات الهودج، رافقت رفيدة السيدة مَسَرّة، والتي أخجلتها بلطفها الذي أغدقت به، والذي ساقها بحنينه لسارة، فكلتاهن حملن اسمًا في طياته السرور. كان الهدوء النعس يغلب على الطريق، والنسيم البارد الرقيق ترك في روحها سكونًا حنونًا لم تحظَ به منذ شهور، سكون يشبه الماضي.

"أفهم يا رفيدة أن هذه زيارتكِ الأولى لبهرمان؟" قالتها السيدة مَسَرّة بلطف.

"أجل، فأنا جئت من الجنوب، أقصد عمتي المريضة في الشمال." قالت رفيدة بكذب جعلها تنكمش في داخلها من لطف السيدة.

"حقًا! نحن أيضًا من الجنوب!" صاحت السيدة بحماس وأكملت: "لا أرافق زوجي دومًا، ولكنني أحب بهرمان، هواؤها يناسب روحي... بارد، لطيف."

تورطت رفيدة، ودعت أن لا تسأل السيدة عن موطنها، فهي كانت ستكذب في كل الحالات "كذبة صدق"، وستقول إنها من سَهْوَان ، فتلك مدينة كبيرة لن يُسأل عن أصلها وفصلها، و هي فعلاً كانت ستمون لها سكناً لولا الظروف.

"هذا جيد، إذن ستُعجبني بهرمان." قالت بكذبة أخرى، فهي تكره الهواء البارد، ولطالما عشقت دفء الشمس في واحة الغانمة. وأكملت تُغيّر الموضوع: "كم لكِ من الأولاد؟"

"ثلاثة." قالت السيدة ببعض الاستياء، وأكملت: "أخبريني إن كنتِ تبحثين عن زوج غني ولكن يُعِل القلب، فثلاثتهم شبهوني بالشكل، وشابهوا والدهم في الأخلاق."

امتلأ وجه رفيدة بالرعب، تخيلت أن تمضي الحياة مع رجل كالحوت الجالس في الهودج المرافق لهم. ضحكت السيدة من ردة فعل رفيدة الصادقة، ضحكة السيدة خففت من توتر رفيدة، فعاد لها استرخاؤها. أكملوا الطريق بلا توقف إلا للصلاة، ومع المساء نادى المنادي بالوصول بسلام.

أطلت من خلف الهودج، باحثة عن السلام الذي تكلم عنه المنادي. فمهما سمعت عن جمال بهرمان، بقي في خيالها، في تلك اللحظة بهرمان التي سرقت أخاها، بهرمان التي حبسته في جوف الأرض، والتي جعلت منه رمادًا ضائعًا، رمادًا منسيًّا لن يسأل عنه أحد.

2025/05/31 · 4 مشاهدة · 1281 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025