الفصل السابع
المدينة الناعسة
أمام طوفان من البشر، وجوه لم تستطع أن ترسم لهم عناوين، وقفت، صغيرة، وحيدة، ويتيمة، والحيرة لم تفارقها. تذكّرت أنها عانت من كل هذه المشاعر عندما نزلوا أولاً في خان التجار التابع للعاصمة، كانت مساحته شاسعة تفوق ما تعرفه، القريب من قريتها المتواضعة، ومن هناك كان عليها أن تلقي الوداع بعدما أخذت عنوان المكان من الخادمة.
"كان الله معكِ، وإن ضاقت عليكِ السبل، اقصدي داري في نُهَيْر"، قالتها السيدة مسرة بلطف وهي تودّع رفيدة.
أما رفيدة فوقفت ضائعة أمام هذا اللطف، وشعور الغربة لم يفارقها. شكرت السيدة بلطف، وتمنت لها إقامة سعيدة، منهية جملتها بـ: "وأتمنى أن لا ينقطع عنكِ نسيم بهرمان اللطيف".
وجدت السيدة مسرة تضحك وهي تقول: "كم أنتِ حلوة اللسان." لا تدري السيدة أنها بذلك فتحت الجراح القديمة والحنين اللطيف، كانت دائمًا سارة تحب حلاوة لسانها، وهذه حقيقتها، وهي لم تعرف كيف تداريها عن هذه السيدة اللطيفة.
أكملت رفيدة طريقها وحدها، وعلمت منذ اللحظة أن الوحدة ستكون رفيقتها، ولذلك، ولأنها لم تحتمل الوحدة يومًا، اختارت أن تنهي ما جاءت لأجله وتعود بعدها لأحبائها. أمضت باحثة عن حي الحرفيين بعزم، وهو القابع خلف قصور الأغنياء القريب من السوق الكبير كما وُصف لها. ظنّت رفيدة أنها ستصل ولن تنشغل بالعاصمة التي كانت لا تريد أن تُشكّل عنها أي انطباع، ولكنها في الواقع انشغلت.
فبهرمان في خيالها كانت مدينة كبيرة لا روح لها، ولكن ما استقبلها كانت مدينة بروح خفيفة، لطيفة، فيها نشاط عجيب وتوق كبير للكسل، كأنها تعمل اليوم لترتاح في الغد. كانت تمشي قاصدة السوق الكبير، واستقبلها النسيم اللطيف الذي سافرت لأجله السيدة مسرة، استطاعت أن تتعاطف رفيدة مع شعور السيدة، ولكن هذا النسيم لم يناسبها. والشمس هنا كانت باردة، لم تحمها من البرد، فهم كانوا أقرب للبحر، لذلك كانت تستطيع أن تشعر بطعم الملح، ورطوبة مفاجئة عبأت الأجواء بلا مقدمات. في ذلك اليوم، لم تعلم رفيدة أنه البحر الذي أصبح لاحقًا صديقًا ملازمًا لها. أكملت طريقها منبهرة بحجم المباني ومتانتها، ولاحظت أنها ذات خفة وألوان ناعمة لم ترَ مثلها في الواحة الغانمة، وهنا تكثر المساجد والمباني الحكومية الجميلة. كل واحدة من هذه المباني كان لها طابع مختلف وكأنه يحكي حكايته الخاصة، وهذا كان يعود للميناء الكبير الذي حمل الناس من كل البلدان ومن خلف البحار.
كانت تمشي، ومن دون قصد كادت أن تدهس ذيل قطة، والتي راحت تهس لها، كونت عدوًّا في يومها الأول. ابتسمت بخفة، فهي لاحظت أن القطط الضالة ملأت الشوارع، تطوف بحرية دون أن يمسها أحد، مؤكدةً أنها سيدة المكان، وأنها المسيطرة على قلوب الأهالي هنا. وأما البشر هنا فكانوا عكس خيالها، في وجوههم لطافة وبشاشة لم ترها في الواحة الغانمة. وأغرب شيء كان عبق التوابل، والذي باغت أنفها مناديًا حواسها، فعلمت من فورها أنها وصلت للسوق الكبير. وللوصول لسوق الحرفيين المقصود، راحت تبحث عن أحد لتسأله، وكان بائع في محل قريب. والرجل حينما فهم مبتغاها، قال من فوره: "أنتِ بالتأكيد تبحثين عن سكن العاملات، إذا أكملتِ طريقكِ شرقًا، ستقع عيناكِ عليه، مبنى متوسط ولكنه أجمل من المباني المحيطة به، لونه أبيض."
تكلّم بلكنة عربية غريبة لم تشبه لكنة رجل آخر كانت قد سألته قبل دقائق عن السوق الكبير.
"شكرًا يا أخي"، قالتها وهي تبتعد من فورها، وفي عقلها بقيت ترسم الخطط والخطط، ظنّت أن عليها أن تضمن لنفسها سقفًا يأويها وفرنًا يطعمها، وكان عليها أن تكون ذكية.
وجدت مبتغاها بعد بحث مضنٍ طال أكثر من المتوقع، فما إن وصلت سمعت المنادي يدعو عباد الله للصلاة، يدعوهم ليذروا البيع ويلبّوا النداء: "حيّ على الصلاة".
ففي الصلاة تقويم للحياة، وفيها فوز ونجاة وهدى وفوز بالآخرة. وقفت مع الأذان فرددت، وكان وكأن الوقت قد توقّف وأمهلها لتأخذ نفسها، فتردد مع الأذان، ثم تذكّر الدعاء وتسأل الله الثبات والتيسير والهداية.
عادت للدار، وعند أقرب مكان، وكان محلًا يبيع الأدوات النحاسية يعمل فيه شاب حديث السن، وقفت تسأله: "عذرًا يا أخي"، قالتها رفيدة بصوت خفيض، متقمصةً شخصية جديدة كانت ترسمها في اللحظة.
وجدت الشاب يلتفت لها بأدب وعلى استحياء، فقال: "أأمريني يا أختي." "أين أجد السيدة صاحبة السكن؟"
وجدت الشاب ينظر للسكن بانزعاج، وقال بملل: "إنها بالتأكيد إحدى ألاعيب الآنسة ورد."
نظرت له باستغراب، لكنها وجدته يكمل: "السيدة سَكينة ستكون بالتأكيد في السوق، تشرف على محلها الصغير." "ما هو اسمه؟" سألت.
"أوه، اسمه يحمل اسمها، لن تضيعيه." قال بتوضيح.
"شكرًا جزيلًا."
أكملت طريقها للسوق باحثة عن المقصود، ربما تاهت بين الوجوه غير المألوفة في السوق الكبير، الذي شهد حكاية هذه الأرض منذ أزمنة الأزمنة، لكنها حتمًا وجدته. محل صغير جالس في الزاوية، تقف على بابه مجموعة من النساء، حمل اسم السيدة بفخر: "سُكينة" بخط كبير، تلاه بخط أصغر: "عطور وأعشاب".
انتظرت من مكانها حتى شعرت أن المحل المكتظ قد هدأت أوتاره النابضة بالحياة، فتوجهت له، واستقبلتها مزيج الروائح، ولكن كانت القهوة هي سيدة محل الروائح! كان هذا النقيض عجيبًا.
محل صغير حمل دفئًا مألوفًا لكنه غريب، كأنه لوحة من بلاد أخرى يحكي الحنين والانتماء، فعلمت رفيدة حتمًا أن صاحبته كانت من مكان ما، ربما من خلف البحار، لكنها صنعت عالمًا لها في بهرمان.
أطلت عليها سمراء، لونها كلون المسك، وبعينين واسعتين، بياضهما تخاصم مع سوادها الجاذب. قالت بصوت دافئ: "تفضلي."
في ذلك اليوم علمت رفيدة أن الأربعين كان مجرد رقم أمام هذه السيدة التي امتلأت روحها بالحياة.
وقفت مترددة أمام حضور السيدة القوي، خارت قواها وتراجعت للحظة، لكنها ثبتت أقدامها في الأرض، لتثبت لبهرمان أنها قادرة على تغيير ترابها إن استلزم الأمر.
"سيدتي، اسمي رفيدة وأنا جئتكِ قاصدة داركِ"، قالت باستعطاف.
وجدت ملامح السيدة تغيب، وكأنها تقرأها، ثم تعود لذات الملامح المرحبة، كالكتاب المفتوح. الغموض الواضح كان كل ما تستطيع أن تصف به القابعة أمامها: "أي رياح ألقتكِ هنا يا رفيدة؟"
"رياح الجنوب"، قالت رفيدة.
"هذا واضح، فالشمس قبّلت وجهكِ بالشكل المناسب"، قالت السيدة بمرح، وأكملت بنبرة جادة: "وعن ماذا تبحثين؟"
"مكان للسكن وعمل"، قالتها بصراحة، لم تستعطف، لم تُمثل، كانت فقط رفيدة بهلعها وقلة حيلتها، ولم تتعلم بعد ارتداء الأقنعة.
"إذًا يا رفيدة، فالسكن موجود، والسعر ثابت"، قالت السيدة بخفة ودون لف أو دوران، وأكملت: "ولكن العمل، فهذا عليكِ."
"سأبحث عنه، ولكن ما لدي من مال لن يصمد معي، فحتى أجد عملًا آخر، اسمحي لي بتقديم خدماتي مقابل السكن"، قالت رفيدة بحماس.
"وما الذي تجيدينه؟" سألت السيدة من فورها.
"أجيد كل أعمال المنزل، وأجيد الخياطة"، قالت، وقد أخفت كل قدرات أخرى قد تفضح أصلها النبيل.
"حسنًا يا رفيدة، لدي عرض، ولكنه لا علاقة له بقدراتك، حتى تجدين عملًا يليق بكِ"، قالت السيدة بلطف حميمي.
"أنا مستعدة يا سيدتي، فكما ترين أنا..." كانت تحاول رفيدة أن تقنع السيدة، لكنها وجدتها تسكتها، وكأنها لا تبحث عن حكايتها، بل عن حقيقتها التي لم تستطع رفيدة أن تخفيها تحديدًا، فقالت: "لقد مرضت والدة الولد المسكين الذي يعاونني في إرسال الطلبيات لمنازل زبائني، ولذلك أحتاج لمن يقوم مكانه."
"هذا جيد، أنا مستعدة"، قالت رفيدة بلا تفكير.
"حسبكِ"، قالت السيدة بنبرة حادة، وهي تقمع اندفاع رفيدة. "يجب أن تجتهدي للحصول على عمل آخر خلال هذا الوقت، لأنني لن أتخلى عن خدمات المسكين"، قالت السيدة.
"كم أمامي يا سيدتي؟" قالت رفيدة بعدما هدأت أعصابها وأوصالها.
"شهران كان ما اتفقت عليه معه، ومضى عشرون يومًا تقريبًا منذ مرض والدته"، قالت السيدة سكينة وهي تشرح لرفيدة، التي ردّت بلا وعي: "حوالي أربعون يومًا." "صحيح"، قالت السيدة سكينة.
"لا أمانع يا سيدتي"، قالت رفيدة بهدوء، حاولت أن تضفي عليه الخجل.
"أعتقد أننا سنتفق يا رفيدة"، قالت السيدة بحماس.
"وسعر السكن؟" سألت رفيدة.
"يبدو أنكِ تحبين الأرقام"، قالت السيدة وهي تضحك.
رفيدة كانت تكره الحساب، لكنها كانت أكثر ما تتقنه أيضًا.
"12 درهمًا فضيًا، وسأخصم منه سبعًا للسكن، والذي يشمل الطعام، وجبتان تعدينها مع زميلات السكن"، قالت السيدة شارحة.
"5 دراهم..." قالت رفيدة بقلق، وهي تفكر بالمستقبل المجهول، لكنها عزّت نفسها: سقف فوق رأسها، وطعام يملأ معدتها، ماذا تحتاج أكثر من ذلك؟