الفصل الثامن

همسات بحرية

تذكرت كيف استقبلتها شمس اليوم الأول، حيث استيقظت وقد فاتها نداء الفجر. استيقظت هلعة، تنظر حولها للمكان الذي كانت تنام فيه. لم يكن بيتهم السعيد في الواحة الغانمة، ولكنه مكان آخر، عرفته بأنه سكن السيدة سكينة! استيقظت بعد ليلة حافلة، وفي الغرفة الصغيرة المكتومة في الطابق الثاني، غرفة حُشر فيها سرير وكرسي وصندوق لتحفظ فيه أشياءها، وشباك يطل على سوق الحرفيين. صوت مطارق ومناشير ورجال يتعاركون بشتى الألفاظ، كانت تسمع كل صوت وكل همس، وحملت إليها النسائم التي حمتها من رطوبة الغرفة. صوت آخر داعب أذنها برقة، البحر المجيد الذي لم تره يوماً. تذكرت أنها فضلت أن تكون محشورة هنا على أن تكون في الغرفة الأكبر تشارك أحدهم مساحتها، لا سيما فتاة مثل ورد.

فلقد اعتادت في منزل والدها أن تكون في غرفتها الخاصة، غرفة كبيرة مريحة وفيرة، تكاد تطوف فيها الغزلان من مساحتها، غرفة هي ملكتها ومالكتها. كانت لا تحب مشاركتها مع أحد، حتى الصغار منعتهم من الدخول لها، فلقد كانت عالمها الذي استطاعت أن تكون فيه ذاتها، واليوم انحشرت ذاتها في هذا الصندوق. مع ذلك، علمت أنها محظوظة جداً، فغيرها لم يجد حتى خيمة تأويه في العاصمة.

احتملت الدار المتوسطة سبع نساء، وهي منهم. ومساء البارحة تعرفت عليهن، حيث قدمتهن لها السيدة سكينة، وقالت وهي تشير للتي بدت أكبر سناً بين المتواجدات، ذات شعر بني وبشرة بيضاء ونمش وعيون سوداء: "جيهان."

والتي وقفت بحماس وهي تصيح، وعيناها السوداوتان تشعان فضولاً: "تمتلكين جمالاً مثيراً للاهتمام، يشبه جمال سيدات القصور. من أين أنتِ؟"

"أنا… من الجنوب." تذكرت رفيدة أنها قالتها، متقمصة شخصيتها المزيفة الخجولة المطيعة.

"أمينة." قالتها السيدة سكينة، وهي تلقبها بمنارة الدار. وفهمت رفيدة أن ذلك بسبب إقبالها على العلم،

ولكنها وجدت جيهان تقول بمزاح: "بل تقصدين بحّار الدار."

"بحّار؟" سألت رفيدة.

"لا تستمعي لقولها السخيف، إنها مجرد خادمة غيورة." قالت أمينة بمزاح، وهي تطوف حول الأخرى بمرح، بشعرها القصير الناعم الذي راح يساير تحركاتها بطوع، وعيناها الضيقتان. كان لها بشرة صفراء ووجه بخدود بارزة، ملامح استطاعت أن تميز رفيدة أنها ليست من العاصمة.

"وهل سأغير من زفارة السمك أم من زفارة البحارة؟" ردت جيهان بسخرية، وقالت متباهية: "أما أنا فمحاطة بعطور القصور."

"تقصدين سراديب القصور، تأكلين بقايا الطعام بجانب الجرذان." قالت صاحبتها ساخرة.

وهنا تدخلت ورد، ذات الجمال الغجري. عيون واسعة لها لون فريد، علمت رفيدة أنه رمادي لاحقاً، فقد انعكست فيه كل الألوان. وبشرة خمرية وشعر مجعد لم تحاول أن تهذبه، وقالت بغرور: "اصمتن، إنكن تكتمنني بهذا الحديث النتن." ثم التفتت لرفيدة وقالت بدلال، حاولت ألا تظهر فيه غروراً وإن فشلت بإخفائه: "أنا ورد، يلقبني الجميع بظل العود."

"أنتِ التي لم تسمحي لي بالدخول ظهراً." قالت رفيدة بنبرة حاولت أن تجعلها عفوية.

"أوه أجل! بصراحة لم تعجبني طريقة وقفتك على الباب. ولكي نتفق من الآن فصاعداً، لا تحاولي أن تتصرفي كأميرة في قصر، وأنت بالكاد تكوني خادمة حتى." قالتها بتعالٍ واضح، لم تُدارِ منه ذرة وقاحة.

وعلمت رفيدة أن في هذه الفتاة غروراً وغيرة، اشتمها أنفها بكل وضوح. ولكنها حديثة سن، بالكاد تبدو في السادسة عشرة من عمرها، ولم تكن تريد أن تعلق مع طفلة أخبرها الجميع أنها نجمة ستسطع قريباً.

"أوه لا، صدقيني لا أحاول فعل ذلك." قالت رفيدة بسرعة، وهي تقرأ التعابير التي أحاطتها، لتعرف كيف ستكون الحياة في هذه الدار. كانت هناك "سلامة"، لم تقابلها مساء، لأنها غابت بسبب عملها كمساعدة قابلة.

ذلك المساء أوضحوا لها الأدوار. "هل تجيدين الطهي يا رفيدة؟" سألت أمينة بعد فترة.

"القليل." قالت رفيدة بهدوء، وهي لم تكذب في ذلك، فهي لم تشارك في الطهي عندما كانت في منزل والدها إلا قليلاً، فقد تكفلت والدتها مع الخادمات، ثم سارة التي وجدت في الطهي راحة. لذلك اقتصرت مهامها على الأمور الأخرى، فهي كانت من عائلة غنية ونبيلة، ولكنهم كانوا أيضاً فلاحين، فالجلوس من غير عمل لم يكن في طباعهم ولا في عاداتهم.

"القوانين هنا واضحة، نحن نتشارك في التنظيف العام والطهي. أما غرفتك وملابسك ووجبة غدائك، فهي مسؤوليتك وحدك." قالت جيهان شارحة قوانين السكن.

"أي وردية تناسبك؟" سألت أمينة.

"وردية؟" سألت رفيدة في محاولة لتستوعب.

"لا تحاولي أن تستغبي علينا." صاحت فيها ورد بوقاحة، وأكملت: "جميعنا نشترك في التنظيف والطهي. أنا أقوم به صباحاً مع سلامة."

"إذًا أعتقد أن المساء هو ما سيناسبني." قالت رفيدة، وهي تنظر للسيدة سكينة التي هزت رأسها موافقة.

"بين المغرب والعشاء نكون تقريباً في البيت، ولكن لن نسمح لك بالاقتراب من المطبخ حتى نعرف قدراتك." قالت جيهان بمرح.

كانت تلك الليلة الماضية، بكل ما فيها من صخب البنات، مكان رغم صغره إلا أنه حمل دفئاً شابه دفء منزلها، وإن لم تعترف. كانت تتخيل أن تكون حالها أصعب، ولكنها شكرت الله في سرها على كل هذه النعم التي أحاطتها.

حمل الصباح سكوناً مختلفاً لف قلبها بين ثناياه بلطف، وبقي صوت البحر يطرب آذانها، مع أنها لم تعرفه يوماً. صلت الفجر واستعدت، مرتدية ملابسها، حاملة حقيبتها، تحت الشيء الذي حملته في ملابسها بعناية: "خنجر الشر." تنهدت بانزعاج، مع ذلك اعتقدت أنه سيحمي أي فتاة وحيدة في العاصمة. راحت تعد العشر دنانير فضة، لم تحرك منهم دينار، حملت معها خمساً وخبأت خمساً، وخرجت أخيراً.

كانت الدار مفتوحة من المنتصف على ساحة متواضعة، زُرع فيها ما زُرع من أعشاب عطرية وزهور جميلة، كل واحدة اختارت ما يهواه قلبها، والسيدة سكينة لم تمانع. نزلت، فاستقبلتها فتاة ذات شعر أسود منسدل وبشرة بيضاء، وأكثر ما يميزها طولها الفارع وأنفها المعقوف. كانت مزيجاً يوحي بالاستغراب، لها جاذبية غامضة كغموض كل ما فيها. خمّنت أن تلك سلامة، الأكبر بين الفتيات.

"السلام عليكم." قالتها على استحياء.

"وعليكم السلام." ردت بصوت رخيم ونبرة تحمل حدة عفوية، وكأن كل ما فيها حاد كالسيف، حتى صوتها.

"هذه الفتاة الجديدة." قالت ورد بغرور، والتي دخلت بطبق طعام.

"سررت بلقائك." قالت رفيدة بخجل مصطنع.

"تشرفنا." قالتها سلامة على عجل، وسرعان ما هربت تاركة الفراغ من حولها.

"أين الفتيات؟" سألت رفيدة باحثة عن الوجوه التي ألفتها.

"لقد قضيتِ يومك في النوم تحسبين نفسك أميرة في قصر. لقد غادرن، كل واحدة تجري خلف رزقها." قالت ورد بوقاحة.

"حقاً؟" قالت رفيدة، وهي تفكر أنها خيبت ظن السيدة سكينة، كان عليها أن تهرع لها لتثبت أن هذا ليس طبعها.

"سألت عنكِ السيدة سكينة." قالت ورد بخبث.

"سألحقها." قالت رفيدة، وقد بحثت عن شيء يؤكل.

"لولا أنني أريد تناول طعامي، لكنت سحبت من تحت يديكِ الأطباق أيتها الكسولة." قالت ورد ساخرة.

لم تجبها رفيدة، بل اكتفت بالجلوس وتناول الطعام بهدوء، وهي تحلل كل ما يجري، وكيف تستسمح من السيدة، فهذه فرصتها ولم تكن تريدها أن تطير من يديها.

انتهت، فالفطور بالنسبة لها كان دائماً وجبة مهمة، وهي وجبة اعتنت بها سارة كثيراً، واليوم كانت أكثر بساطة، عبارة عن خبز وحمص.

تذكرت أنها خرجت من دار السيدة سكينة، هاربة من واحة الغانمة بكل ذكرياتها، لتلحق خلف مقصدها الذي حفظته عن ظهر قلب. وصلت للمحل، دخلت على استحياء، تجر معها خجلها من تأخرها.

"هل وصلتِ أخيراً؟" قالت السيدة سكينة.

"أنا آسفة يا سيدتي…"

"لا تقلقي، فزبائني يتأخرون في النوم. أساساً، لن يستقبلكِ أي قصر أو منزل في هذا الوقت." قالت السيدة وأكملت: "ولكن أحتاج خدمتكِ للذهاب للميناء، فالبضاعة وصلت هذا الصباح، ولكنني لن أدفع حقها."

"حاضر، ولكن عن من أبحث؟" سألت رفيدة. "السيد مازن الحامي، تاجر العود. وصل مع سفينة الحوت." قالت السيدة سكينة، وهي تسلم هذا المال لرفيدة، وأكملت بتحذير: "انتبهي من قطاع الطرق لكي لا يسرقوا مالك."

"قطاع طرق؟ في وسط المدينة؟" قالت بنبرة ساخرة، وفي عقلها ظنت أنها لن تتعرض لأمر مشابه، فهي لم تتعرض لشيء كهذا في عرض الصحراء.

"مؤخراً انتشرت عصابات غريبة، أحدها يسمون أنفسهم بالمنتقمين!" قالت السيدة سكينة بقلق واضح، وأكملت برعب: "هاجموا محلات لأحد التجار قبل أسبوعين."

"لا تحملي هماً يا سيدتي، لن ينالكِ مني إلا ما يرضيكِ." قالت رفيدة بثقة.

أخذت المال من سيدتها، وخبأته بعناية في ثوبها، بجانب سكينها الأثير. خرجت قاصدة المكان المعني، لم تكن تدل شيئاً، ولا تدري كيف أعطتها السيدة هذه المهمة، وهي لا تعرف المدينة.

مع ذلك، بذلت جهداً، والوصول للميناء كان أسهل مما توقعت. فكانت كلما اقتربت، ملأ أذنها نداء البحر، ملأ أنفها الملح، ولفحت الرطوبة وجهها مختلطة بنسيم لطيف، وتلك الرائحة الغريبة التي لم تعرف كيف تسميها.

وصلت للميناء، وكان أعجب ما رأت السفن العملاقة التي دخلت في عينيها. أناس كُثر، وحكايات كانت تستحق أن تُحكى، مكان كانت ستكون فيه سعيدة بالتأكيد. ولكن أكثر ما أبهرها هو اختلاط الأزرق بالأزرق. اقتربت من الحافة، تنظر للموج، تسمع صوته، تحاول التعرف عليه. كل ذلك الملح والنسيم جعل دموعها تنزل، أو ربما كانت تلك رغبة ملحّة. لم تستطع أن تطيل الوقوف أمام هذا الجمال، فوعدت أن ترد الزيارة، فهي اليوم كانت في مهمة.

مسحت دموعها، وبدأت مهمة البحث. سألت كثيراً، ولكن الوصول لرجل لا تعرفه كان صعباً. ولكنها بعد فترة، لمحت سفينة الحوت، وكان عليها أن تبحث عن تاجر، أي أنه سيكون رجلاً مهندماً أو على الأقل ملابسه مرتبة. كان هناك الكثيرون، فبحثت في الوجوه عن وجه ظنت أنها تستطيع أن تثق به. تمثل في طفل بدا في الحادية عشرة. "أين أجد تاجر العود؟"

"أي واحد فيهم؟" سأل الطفل بملل.

"مازن الحامي." قالت رفيدة.

"أوه ذلك البغيض، إنه الكسول الجالس هناك." قال، مشيراً للتاجر الذي انسدح بكسل على كرسي في السفينة. كان في أربعينياته، بدا كطفل مدلل بالرغم من الجهد الذي يبذله في السفر والتجارة.

ذهبت له، وقالت: "سيد مازن؟" وجدته فجأة يعتدل في جلسته بحماس، ويرتب هندامه وهو يقف، وقال: "لماذا قد تسأل عني حسناء مثلكِ؟" نظرت له بانزعاج، كانت تتمنى لو تستطيع استخراج خنجرها، ولكنها أجلت تلك الرغبة، فقالت: "جئت أوصل لك مالك عند السيدة سكينة." وجدت وجهه يغيب بإحباط، وقد عاد له كسله، فقال بملل وهو يسحب منها الكيس: "هل عينت السيدة سكينة حسناوات الآن مكان الأطفال؟"

"لقد سلمت لك مالك يا سيدي كما طُلب مني." قالتها، هاربة من سخافته. فهي لم يتجرأ عليها أحدهم يوماً في الواحة الغانمة، فهم احترموها كونها ابنة كرام وأخت رجال. ولكنها اليوم كان عليها أن تعاني هذه المعاناة. ولسبب ما، وفي ذلك الموقف، استطاعت أن تتفهم موقف سارة!

فجأة وجدته يمسكها من يدها وهو يصيح: "انتظري عندكِ أيتها اللصة!"

"ماذا؟" سألت بصدمة، وهي تسحب يدها منه.

"هل تحاولين سرقتي؟ إن المبلغ ناقص!" قال الرجل بعصبية واضحة.

"٣٠ درهماً فضياً ولا أجد هنا سوى ٥ دراهم فضية!" صاح فيها.

بقيت تنظر له باستغراب، وهي تفكر كيف حصل هذا؟ هل خدعتها السيدة سكينة، أم أن هذا التاجر يتلاعب بها؟ وجدت الجمع يلتفون عليها. ذكرها هذا بيوم قام صهيب بطعن الصبي، كيف وقف أهل الواحة الغانمة ليحاكموها، وفي ذلك الصباح، وجدت نفسها أمام محاكمة مشابهة!

2025/05/31 · 5 مشاهدة · 1631 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025