الفصل التاسع الحياة
الرتيبة الجديدة
حرّكت المكنسة بحركة رتيبة وهي ترى البتلات والأوراق تستسلم لحركة مكنستها، خاضعة بضعف لسعف النخيل الذي ترقّى، فيوماً كان زرعة بسيطة مثلهم، واليوم يضطهدهم ويستغل ضعفهم. حياة كانت أكثر رتابة مما تخيلت، لم تبحث فيها عن إثارة، فاليوم الأول لها في العمل كان يكفيها، فهدوء هذا اليوم لم يكن يشبه زوبعة ذلك اليوم.
فهي تذكر كيف هجم عليها التاجر وتمسك بيدها، وفي مخيلته أنه يستطيع أن يطبق عليها حد السارق دون وجه حق! لم تفهم في ذلك اليوم من أين بدأت المؤامرة، لكنها كانت متأكدة من براءتها، وما أرعبها أكثر من قبضة الاتهام هو تجمع القوم. استعدت لمحاكمة جديدة. تذكرت كيف أغلقت عينيها بضعف، وفي عقلها شعرت أن الهزيمة جاءت سريعاً، ولكن الحكاية كانت أسخف من كل ما كان يجري. مع ذلك، سمعت رجلاً يصرخ في التاجر: "اترك الفتاة، وإن كان لك حق ستجده."
فتحت عينيها تتأمل القوم. لم تصدق أن هناك من كان يدافع عنها، وعلمت من العيون القلقة والمستنكرة أن المدافعين كثر. في عالم اعتقدت أن الشر تمكّن فيه فوق الخير، وقفت أمام قومٍ غرباء لا يشبهونها ولا تشبههم، ولكن الحمية كانت محركتهم. فعل الرجال الذي كانت تريد أن يتصف به صهيب، وليس ما فعله أهل واحتها! لا تدري إن كانت تقسو على أهل الواحة، فخوفهم واتهامهم مختلف؛ فهم كانوا أمام دولة، وهؤلاء أمام تاجر. وهي في داخلها تفهمت تصرف التاجر، فهو له حق، مال يسافر لأجله، وهي لم تسأل السيدة سكينة عن المبلغ الذي كانت من المفترض أن تسلمه، وهذه كانت بشكل ما غلطتها. كان عليها أن تحذر، وأن تأخذ كل التوقعات بالحسبان، وأن تسبق الجميع بآلاف الخطوات. منذ ذلك اليوم، علمت أنها يجب أن تعمل عقلها ودهاءها أكثر لتصل لمبتغاها.
"تريدونني أن أضيع حقي؟" قال الرجل باستهجان.
هنا وجدت نفسها تقف أمام الموقف برعب. إنهم يدافعون عنها وهو يتهمها، ولكنها لن تقف خلف أحد تحتمي. ليس اليوم. فاليوم كان عليها أن تتصرف. كانت ستستعطفه، سترتدي رداء شخصيتها المزيفة: "سيدي، إن كان يرضيك خذ ما معي من مال خاص، وأنا سأعود لسيدتي وأتأكد وأعيد لك حقك، إن كان هذا يرضيك."
وجدته يتراجع عن حدته، وكأنه استوعب تصرفه، فالتي كانت تقف أمامه مجرد فتاة ضعيفة. فقامت تحاول إخراج كيسها، ولكنها سرعان ما استوعبت غلطتها الغبية! تلك كانت حماقتها التي يجب أن تلوم نفسها عليها أولاً قبل أن تلوم الآخرين. الكيس الذي في ردائها كان ممتلئًا، إن الذي بين يديه كيسها، ولكنه وترها في ذلك الوقت، ولا تدري كيف رمته بالكيس الخاطئ؟!
"انتظر يا سيدي، أعتقد أنني أخطأت،" قالت بسرعة وأخرجت الكيس الذي معها، وقالت: "هذا مالك." وأكملت: "الذي معك هو مالي الخاص."
وجدته يتراجع، وهو يفلتها، وراح يعد ماله بعناية، ولكن بقيت في عينيه نظرة شك اتهامية، حاولت أن تكبتها بقولها: "أرجوك سامحني، أنا كنت مستعجلة، احتفظ بالكيسين إن كان هذا سيعوض.."
"لا، خذي مالك، وستَر الله عليك،" قال الرجل بحدة، وبعدها قال بغضب قد خف قليلاً: "فقط انتبهي في المرة المقبلة."
هو كان محق. كان عليها أن تنتبه للكثير من الأمور. فاليوم أنقذت نفسها بتمثيلها ودهائها، ففي الوضع الطبيعي كانت ستهجم وتصرخ، ولكنها استطاعت أن تتمالك كل ما فيها من أعصاب وامتصت غضب الرجل، وهذا كان إنجازاً.
تذكر أنها عادت للسيدة سكينة دون أن تتطرق للحادث. وأدركت أن هذا العمل كان صعباً لغريبة عن هذه الأرض. ولكن الأصعب هو أنه كان عليها أن تتخلى عن الكثير من ذاتها من الآن فصاعداً لكي تحقق ما جاءت من أجله. كان عليها أن تكبت مشاعرها، ولا تجعل شيئاً فيها يحركها.
أخرجها من شرودها صوت عراك أمينة وجيهان وهنّ تتشاكسن حولها، فعادت للواقع الذي كانت تعيشه يومها.
"كوني الحكم بيننا يا رفيدة." قالت منارة الدار، كما أحبّت أن تناديها رفيدة في سرها، وهو اللقب الذي قدمته السيدة سكينة.
"لا تستمعي لها أيتها الجنوبية، إنها حمقاء، تريد أن تطعمنا سمكاً بصلاحية منتهية!" صاحت صاحبتها.
هنا ابتسمت رفيدة بدفء، ففي هذه اللحظات البسيطة كانت تستطيع أن تتنفس وتُظهر بعض ما هي عليه، رفيدة بنت غياث الهيساني، لا رفيدة بنت خالد الجنوبية البسيطة.
"دعيني أتذوق من السمك." قالت رفيدة وهي تنظر إلى السمك الذي تم طهيه حديثاً، ورائحة بهاراته ملأت أنفها وذكّرتها بجوعها بعد يوم طويل من العمل والجري بين المنازل والقصور، تأخذ حساباً وتوصل طلباً.
تاقت للقمة منه واستعدت لتضع اللقمة في فمها، فتسد رغبتها تلك، ولكن قفزت في وجهها الأخرى وهي تصيح: "ستسمك بطهيها الفاشل! علينا أن نكلم مسؤول الصحة ليقبض عليها."
"ولكنه لذيذ." قالت رفيدة وقد سرقت لقمتها أخيراً.
"انظري! قالت إنه لذيذ! لقد أخبرتك!" قالت أمينة.
وجدت الفتاتان قد هدأتا، كان هذا العراك اليومي غير المؤذي الذي اعتادته رفيدة بين شريكتَي الدار والسكن، مع أن كلتا البنتين كانتا أكبر منها في العمر، إحداهن في الثالثة والعشرين، والأخرى في الرابعة والعشرين، إلا أنهن كن يستطعن أن يمرحن كما كانت هي تمرح يوماً. كما أبت يوماً أن تتزوج لكي لا تكبر على المرح. لم تعلم أن الحياة هي من تسرق هذا الضوء أحياناً، وليس الزواج.
كانت تحب قضاء الوقت مع الفتاتين، فحديثهن ممتع، لكنها لم تكن موجودة للمتعة، فمن خلالهن كانت تجمع ما تستطيع من معلومات تنفعها في هدفها.
"اليوم سمعت من سيدتي خبراً لطيفاً." قالت جيهان بحماس.
"أنت وأخبارك أيتها الثرثارة." قالت أمينة بملل.
"من يهتم بخرافات البحارة التي تزعجينا فيها؟" صاحت جيهان.
"أنا أنقل لك أحوال مملكتنا في الداخل والخارج، معلومات مهمة تجعلنا نفهم شكل الأرض التي نقف عليها اليوم." قالت أمينة.
"بئس ما نقلتِ لنا يا هذه! كل حكاياتك عن السفن المنهارة التي نهبها قراصنة رأس الغانية، أو حتى حكايات المتمردين مثل المنتقمين، أو أيًّا يكون هؤلاء الأشرار." قالت جيهان بوجه ارتسمت عليه ملامح الخوف من قرب هذا الخطر منهم.
"لقد سمعت من السيدة سكينة عنهم، لقد حذرتني منهم." قالت رفيدة بلطف، متدخلة في الحديث.
"أوه يا رفيدة، إن الحكاية غريبة في ذاتها. من المفترض أنهم لصوص، مثل بقية القوم المشاغبين الذين ملأوا العاصمة مؤخراً، ولكن هؤلاء منظمون ويتركون خلفهم دائماً ما يعبّر عنهم." قالت أمينة.
"حقاً؟ ولكنهم مجرد مثيرين للشغب. حمانا الله من شرهم." قالت رفيدة، وهي تدعي الخوف.
"أوه لا، أعتقد أن خلفهم شيئاً أعمق، فالرجال يتكلمون عن مؤامرة أكبر." قالت أمينة بتفكير، وألحقت حديثها: "إنهم يستغلون ضعف الخلافة."
وجدت رفيدة جيهان تقفز وتمسك فمها وهمست: "صه، اصمتي، وإلا رأينا حراس الخلافة ملأوا دارنا، ونحن نساء ضعيفات، كل همّنا قوت يومنا."
اكفهر وجه رفيدة على هذا الذكر السيئ. فهي لم تكره الخلافة تحديداً، ولكن لرجالهم عليها وقع سيئ، فهي لم تتخيلهم إلا الرجال الذين نفّذوا في حق قتيبة الإعدام الظالم. ولم تعلم كيف امتقع وجهها لدرجة وجدت أمينة تقول بلطف: "أوه رفيدة، لا تقلقي، لن يحصل فأل الشر الذي تنطق به غراب الشؤم هذه."
"أوه اسمعي ما سمعته من سيدتي فحديثي ألطف من حديثها." قالت جيهان وهي تخطف رفيدة من بين يدي أمينة بحماس.
"ماذا سمعتِ؟" قالت أمينة.
"أنا أكلّم رفيدة، لا تتدخلي." قالت جيهان وأكملت: "يقولون إنه سيكون هناك احتفال قريب…"
قطع الحديث الشيق والذي كان قد يفيد مآرب رفيدة دخول ورد، والتي كانت تترنم بدلال بكحل عينيها الذي لم يتزحزح منذ الصباح.
"وأنتِ يا كروان، ما الذي أعادك مبكرة هكذا؟" سألت أمينة بفضول من حال الفتاة، والتي عادة ما تدخل وتجلب معها العواصف وتتعارك مع الجميع. فقد كان حالها كأنها تطير في السماء.
"لقد قابلته." قالت ورد بشاعرية مفرطة.
"من هو؟" سألت جيهان بفضول.
فجأة، كأنها استعادت وعيها، وعادت لها نظرتها الوقحة المتعالية، تأكدت أن تُلقي بنظرتها تلك وهي ترسم ابتسامة ساخرة قائلة: "يالكن من مجموعة بسيطة."
"تهذبي في الحديث وإلا قمتُ بضربك يا ورد." قالت أمينة.
"اليوم تصرخن في وجهي، وغداً ستمتثلن أمامي منحنيات." قالت ورد بوقاحة، وكأنها كانت تعرف شيئاً واثقة منه لم يعرفه غيرها، وأكملت: "اليوم كنتُ في عرس السيدة وفاء."
"نعلم، كنتُ سأكون هناك لولا أنني رجوت صاحبة لي أن تغطي مكاني." قالت جيهان بملل.
"أجل، ولكن ما لا تعرفينه يا حاذقة الغباء، هو أن العرس تعرّض لهجوم من بعض الحمقى." قالت ورد بوقاحة لم تشبه خطورة المشهد.
"أجل، اكذبي علينا الآن." قالت أمينة الأخرى بملل مماثل.
"أنا لا أكذب!" صاحت ورد بعصبية، وأكملت: "لقد قال البعض إنهم عصبة المنتقمين، ولكن ليس هذا همي. فقد كان رجال الخليفة لهم بالمرصاد، لقد أمسكوا بهم، وسنسمع خبرهم في الغد بالتأكيد." قالت ورد بحماس ودلال، وكأن رجال الخليفة كانوا هناك لحمايتها بشكل شخصي.
"إذن، وهل هذا ما قلب حالك؟" سألت جيهان.
"بالتأكيد لا." قالت ورد، ثم عادت لحالميتها وهي تحكي: "حينما هجم الرجال، ظننت أن أيامي باتت معدودة، وأن كل هذا الجمال لن يجد ما يستحقه، ولكني كنتُ على موعد مع تلك العينين القاتلتين."
"هل وقعتِ في غرام مجرم؟" قالت أمينة بسخرية.
"لا، لقد أنقذني منهم. فقد هرع الرجال لمساعدتنا قبل وصول رجال الخليفة، وسألني بلطف: هل أنتِ بخير؟" قالت ورد وهي تستذكر وقد احمرّت وجنتاها.
"أنتِ بالتأكيد طلبتِ يده للزواج." قالت أمينة ساخرة.
"اصمتي، أيتها السمكة المزعجة!" قالت ورد، والتي خرجت من أحلامها الطفولية الحمقاء.
"وهل هذا ما قلب حالك؟" سألت جيهان بفضول.
"هنا مربط الحكاية!" قالت ورد بحماس وهي تتجه ناحية جيهان قائلة: "قالوا إنه أمير! ولكن لم يسعفني الوقت لأستعلم، فهم انشغلوا بكل ما حدث، وهو اختفى سريعاً مع الأحداث."
"أميراً كان أو فقيراً، ما الذي جعلك تعتقدين أنه مهتم بك؟" سألت أمينة.
"إنه مهتم! لا تحملي همًّا، فأنا جميلة بما يكفي لألفت أياً كان." قالت ورد بغرور، وعادت تنظر إلى جيهان باحثة عندها عن جواب يشفي حماسها: "أخبريني يا جيهان، هل تعرف سيدتك كل أقارب الخليفة؟ قد يكون من بينهم!"
"لا تقلقي، حتى لو كان بينهم، لن تطيل عينيه النظر لطفلة يا ورد، اصحي!" قالت أمينة.
"لا أدري صراحةً. للخليفة الكثير من الأقارب، ولكن الأمراء معدودون." قالت جيهان بتفكير.
"وها أنتِ تلحقين خلف فضولك وتجارين أوهامها! لا تغذّي هذه الأوهام لكي لا تصطدم بها لاحقاً." قالت أمينة.
"لستُ واهمة أيتها الفاشلة! وابتعدي من طريقي برائحتك الزفرة!" صاحت ورد بوقاحة.
وجدت رفيدة أمينة تتنفس وكأنها تسيطر على أعصابها من تصرفات الحمقاء، تصرف كانت هي قد تقوم به، ولكنها في تلك اللحظة كانت تفكر في أمور أخرى كانت أهم. فالمعركة التي كانت ستشبّ بين الفتاتين أسكتها دخول سلامة، التي جعلت جميعهن يسيطرن على أعصابهن، فحتى وصول السيدة سكينة لم يترك في نفوس الفتيات ما تركته تلك الفتاة، حتى ورد صمتت.
مضى اليوم كبقية الأيام بالنسبة للفتيات، ولكن ليس بالنسبة لرفيدة، التي عادت إلى دارها، تنفض عنها تعب العمل اليومي والذي لم يكن بسيطاً. فهي كانت تركض في الأرجاء، لكنها كانت أيضاً تحاول حفظ ما تستطيع حفظه من طرق وبشر ومنازل، لأن بينها منزل منشود كانت قد وضعته هدفاً لها.
جلست تتأمل الورقة الأنيقة القديمة، والتي اعتبرتها تذكرة دخولها. تأملت اسمها الثلاثي، وبقي عالقاً في عقلها: كيف ستخفيه؟ فهي بحاجة لهذه الورقة، ولكن هما اسمان حملتهما بفخر طول عمرها، وحتى اليوم تفخر بوالدها وبعائلتها كل الفخر. ولكن سبب اختبائها كان لتعيد لعائلتها المجد.
وفي لحظة، خطرت لها الفكرة! فقامت من مكانها راكضة ناحية غرفة أمينة وجيهان، وفي يدها الورقة. كانت تلك مجازفة، ولكنه كان الحل. كان عليها أن تتقن كل خطواتها، وألا تترك مساحة لأي كذبة لأن تظهر.
طرقت الباب وهي تقول بهدوء: "هل لي أن أستعير من عندكن بعض الزيت؟ لقد نفد الذي عندي، وسراجي قد يموت في أي دقيقة."
وجدت على الفور جيهان تستقبلها وهي تقول: "أوه أجل، ادخلي، سأحضر البعض."
انتبهت لأمينة، التي انغمست في كتابة شيء ما. راحت تحوم حولها لتصل لمبتغاها. كان الحبر، لحظها، ينام بهدوء على الطرف. هي لاحظت ذلك. كانت عادة أمينة أن تقضي لياليها في الدراسة.
"ما الذي يجعلكِ تسهرين على أنوار السراج؟" سألت أمينة من وسط أوراقها.
"أنا؟" سألت رفيدة ببراءة مصطنعة وأكملت: "كنت أبحث بين الرسائل القديمة."
"أجل، لقد أخبرتنا عن عمّك الظالم." قالت أمينة.
"لقد جئت هنا باحثة عن حياة جديدة بعدما طردني وسرق منزل والدي، وحرمني من ورثي." قالت رفيدة بكذب، وأكملت بذات الكذب، راسمة حزناً في نبرتها: "لا أحتاج للمال، ولكن المنزل فيه حياتي، كما ترين، ولذلك كنت أبحث بين الرسائل علني أجد بينها ما يثبت حقي."
كانت تتكلم وهي تقرّب يدها للحبر حتى وجدته بقي على حافة الطاولة. كان كل ما تقوم به مجازفة، ولكنها تشجعت، وأسقطت الورقة على الأرض، وادّعت أنها نزلت لتلتقطها، وعمداً ضربت علبة الحبر، والتي سقطت على الورقة. أبعدتها بسرعة دون أن يشعر أحد.
"أوه، رفيدة، هل أنتِ بخير؟ لقد سقط الحبر عليك!" صاحت أمينة وهي تساعدها على الوقوف.
"أوه، رسالتك! أتمنى أنها لم تكن مهمة، لقد أصابها الحبر!" أكملت بقلق.
"أوه، لا تبالي. سأغير ملابسي، والرسالة ليست ذات أهمية." قالت رفيدة بهدوء.
سلمتها جيهان الزيت، وعرضتا الفتاتان مساعدتهما، لكنها خرجت، وقلبها ينبض من فعلتها. الكذب الذي اضطرت أن تمارسه بقي يأكلها من الداخل، فالفَتاتين كانتا في غاية اللطف، ولم تستحقا منها هذا الكذب.
رفعت نظرها إلى الورقة التي فعلت لأجلها كل هذا. كانت خائفة أن تكون قد دمرت ما تبقى لها من عون لتصل لهدفها. راحت تقرأ الحروف الأنيقة بعجل:
بسم الله الرحمن الرحيم أشهد أنا خديجة بنت النُميري، أن المدعوة رفيدة بنت ...... قد قرأت عليّ علم الحساب، وأتقنته إتقانًا تامًا، وقد أجزتها فيه إجازة تامة معتبرة، لما رأيته من تفوقها واجتهادها، وذلك بعد أن أكملت دراستها عندي وهي في الثامنة عشرة من عمرها، على الوجه المرضي، وكانت من المتفوقات فيه. كتبته خديجة بنت النُميري، في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وسبعين ومائة للهجرة، والله خير الشاهدين.
اختبأ اسمها خلف الحبر ببراعة، وكأنه سمع لتوسلاتها السرية. فهي كانت ستبقى رفيدة، ولكنها اليوم رفيدة ابنة خالد، وهذا ما حاولت أن تركز عليه.
تذكرت أنها ابتسمت بخفة، وقلبها ينبض. فهي كانت في طريقها نحو تحقيق هدفها، وحصولها على عمل سيكون هدفها القادم، لا لتضمن بقاءها هنا، ولكن لتصل إلى قصر الخلافة.