▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
الليلة الرابعة
إلهي، كيف آل الأمر إلى هذا! وكيف انتهى كل شيء على هذا النحو!
وصلتُ عند التاسعة، فإذا بها هناك، قد سبقتني إلى المكان، واقفة كما رأيتُها أول مرة، مائلةً على الدرابزين، تُسند مرفقيها إليه، ولم تشعر بمقدمي.
ناديتُها بصوتٍ حاولت أن أُكتم فيه اضطرابي:
"ناستينكا!"
التفتت إليّ مسرعة، وقالت بلهفةٍ متوترة:
"هاه؟… هيا، أسرع!"
نظرتُ إليها بدهشةٍ وقلق، فأعادت قولها، وهي تمسك الدرابزين كمن يستند على رمقٍ أخير:
"أين الرسالة؟ أما أحضرتها؟"
أجبتها بصوتٍ خفيض:
"لا… لا رسالة."
ارتسم الذهول على وجهها، وشحب لونها حتى خُلتها ستميل، وأخذت تحدّق فيّ طويلاً، دون أن تنبس بحرف، كأنما سقطت عليها صاعقة، إذ كنت قد بدّدتُ آخرَ ما في قلبها من رجاء.
ثم قالت أخيرًا بصوتٍ مُتكسّر:
"فليكن… ليكن الله في عونه… إن أراد أن يهجرني هكذا، فالله يتولّاه."
خفضت عينيها، وحاولت أن تنظر إليّ، فلم تستطع. بدت وكأنها تُصارع شيئًا يعتصر قلبها. ثم استدارت فجأة، وأسندت مرفقيها إلى الدرابزين، وانفجرت باكية.
هممت أن أُواسيها، فقلت:
"لا… لا تبكي، ناستينكا…"
لكنني رأيت دموعها، فلم أقوَ على إتمام الحديث. وماذا عساني أقول؟
قالت وهي تخنق شهقتها:
"لا تواسني… لا تذكره أمامي، لا تقل إنه سيعود، لا تزرع فيّ وهماً جديدًا… لا! لا يمكن أن يكون بهذا القدر من القسوة والغلظة. أليس في قلبه مثقال ذرة من رحمة؟ ثلاث ليالٍ مرت، لا كلمة، لا سطر، لا رد! أي قلب هذا؟! لو أنه كرهني، ألم يكن يكفيه أن يكتب؟ أن يقول: لا أريدك؟! لكن أن يختفي هكذا، أن يصمت؟ آهٍ، كم آلمني هذا الصمت أكثر من ألف كلمة!"
كانت تبكي بحرقةٍ تمزق القلب.
ثم استطردت وهي تصرخ في غمرة دموعها:
"أيعقل هذا؟ أحقًا فعلها؟ أحقًا نسيني؟! لا… لا بد أنّ ثمة خطأ! ربما لم تصله الرسالة… ربما لم يعلم بشيء! قل لي أنت، بالله عليك، أهذا ممكن؟ كيف لإنسانٍ أن يقسو هكذا؟"
ثم التفتت إليّ، والرجاء يطفح في عينيها السوداوين، كأنها تستغيث بي من الغرق.
قلت لها:
"اسمعي، ناستينكا… دعيني أذهب إليه غدًا، باسْمِكِ، أحدثه، أُبلغه كل شيء…"
فأجابت بصوتٍ مخنوق:
"حقًا؟"
قلتُ:
"نعم… اكتبي له مرة أخرى. لا تقولي لا… دعيني أُريه أنكِ لستِ هينة، وأنكِ أصدق منه وفاءً. وإن—"
قاطعتني، قائلة بحدة:
"لا، لا يا صديقي… لا مزيد. لا سطر آخر، لا حرف مني بعد الآن! لا أعرفه… لم أعد أحبه… سأحاول أن… أن أنسا..."
ولم تستطع أن تُكمل.
قلتُ بلطف وأنا أُجلسها على المقعد:
"اهدئي، ناستينكا… اجلسي."
قالت وهي تمسح دموعها المرتجفة:
"لا تقلق… لا بأس! إنها دموع، وستجف. أتظن أنني سأُغرق نفسي؟ أنني سأرتمي في النهر؟"
كان قلبي يمور، وكلماتي تُعاندني. وفجأة، أمسكت بيدي وقالت:
"قل لي، أنت ما كنت لتفعل بي هذا، أليس كذلك؟ لو أن فتاة جاءت إليك، وأظهرت لك حبها، ما كنت لتسخر منها أو تُذلها، أليس كذلك؟ كنت ستتفهمها، تحتضن ضعفها، تدرك أنها وحيدة… أنها لم تختر أن تُحبك، لكنها سقطت في ذلك دون إرادتها… أليس كذلك؟"
ثم انفجرت باكية مرة أخرى وهي تردد:
"ليتني ما أحببته… يا رب، ليتني ما أحببته!"
"ناستينكا!" صرختُ أخيرًا وقد جرفني الوجدانُ جرفًا. "ناستينكا، إنكِ تُعذّبينني! تُمزّقين قلبي، تقتلينني، ناستينكا! لا أستطيع الصمت بعد الآن! لا بدّ لي أن أُفصح، أن أبوح بما يغلي في صدري!"
وقفتُ من مكاني مضطربًا، أما هي فأمسكت بيدي، وحدّقت في وجهي بدهشةٍ خالطها القلق.
"ما بك؟!" قالت أخيرًا.
قلتُ بصوتٍ حاسم:
"ناستينكا، ما سأقوله لكِ الآن هراء، وهمٌ، مستحيل… أعرفُ أن ما سأقترفه جنون، لكنه أقوى مني. فبحق ما تعانينه الآن، بحق دموعك، أرجوكِ أن تسامحيني سلفًا!"
"ما الذي تنوي قوله؟!" قالت وهي تجفف دموعها وتنظر إليّ بعينين مضطربتين يشعّ فيهما فضولٌ غريب.
"إنه أمرٌ مستحيل، لكني… أحبكِ، ناستينكا! ها قد قلتها… الآن صار كل شيءٍ بيّنًا!" قلت ذلك وأنا ألوّح بيدي كأنني أقذف قلبي أمامها. "والآن، لنرى إن كنتِ قادرة على أن تواصلي حديثكِ إليّ كما كنتِ تفعلين قبل لحظة، بعد أن عرفتِ ما في قلبي."
فقالت على الفور، مقاطعةً:
"ثم ماذا؟! أعني… وماذا بعد؟! كنتُ أعلم ذلك منذ زمن… لطالما شعرت أنك تُحبني، لكنني كنت أظن أنك فقط تُعجب بي… أو تُحبّني قليلاً… آه، يا إلهي!"
قلتُ بحرقة:
"نعم، ربما كان إعجابًا في البداية… أما الآن، فقد صرتُ كمن سار على دربك، تمامًا كما سِرتِ إلى مَن تُحبين، بحقيبتك الصغيرة في يدك… بل أنا أتعس، لأنكِ أحببتِ، أما هو فلم يُحبكِ قط…"
"ما الذي تقوله؟!" همستْ، وقد اربكتها كلماتي. "لا أفهم… ما الذي دعاك إلى كل هذا الآن؟ ولماذا… فجأة؟! آه، أنا لا أُحسن التعبير، لكنك…"
وانقطعت كلماتها، وقد احمرّ وجهها، وأسفرت عيناها عن خجلٍ مُربك.
فقلت:
"ماذا أفعل، ناستينكا؟! ألُمتُ نفسي؟! هل ارتكبتُ خطيئة؟! لا، لا أظن… قلبي يخبرني أنني لم أُخطئ، لأني لا أريد إيذاءكِ… كنتُ صديقكِ، وما زلت… نعم، ها هي دموعي تسيل… فدعيها، لا بأس بها… لن تضرّ أحدًا، ستجفّ، ناستينكا…"
قالت وهي تُجلسني على المقعد:
"اجلس، اجلس… يا إلهي…"
قلتُ:
"لا، لا أستطيع البقاء، يجب أن أرحل الآن، لكن قبل ذلك، سأُفصح لكِ عن كل ما في قلبي. اعلمي أنني ما كنتُ لأكشف سرّي أبدًا، ما كنتُ لأُزعجكِ بحبي في هذه اللحظة، لولا أنكِ أنتِ فتحتِ الباب، فأنا… لا أستطيع أن أُكبت أكثر، يا ناستينكا… لا أستطيع!"
قالت بانفعالٍ صادق:
"تحدث… قُل كل شيء! قد يبدو لك حديثي غريبًا، لكن… لكنني سأُخبرك بكل شيء لاحقًا… فقط تحدّث الآن!"
قلتُ:
"أنتِ تشفقين عليّ، يا ناستينكا، لا أكثر… أليس كذلك؟ لا بأس، ما قيل قد قيل. لكن، دعي أُخبركِ بما دار في نفسي عندما رأيتك تبكين، متألمة، مكسورة القلب… تمنيت، يا ناستينكا، تمنّيت لو أن حبّي يقدر أن يُبدّد حزنك، أن يبعث فيكِ دفئًا، أن يُعيد إليكِ الثقة. نعم، قلت لنفسي: ربما، ربما لو لم تكوني ما زلتِ تُحبينه، لو كان هذا قد انتهى، لكنتِ أحببتِني أنتِ أيضًا… قلتِ بنفسك مرة أنكِ "كِدتِ" أن تُحبيني…"
"صحيح!" قالت فجأة، ثم وقفتْ. "لا تبكِ… أرجوك لا تبكِ. تعالَ، تعالَ معي… لعلني أقول لك شيئًا… إن كان قد هجَرني، إن كان قد نسيني… وأنا… ما زلت أحبه، لن أخدعك… ولكن، أجبني: لو أحببتُك، مثلًا… لو أحببتُك يومًا…"
ثم غطّت وجهها بكفّها، وقالت:
"آه، صديقي! ما أبشع ما فعلتُه بك! كيف ضحكتُ على حبك! كيف مجّدتُ فيك برودك، وقلت إنك لم تقع في غرامي! يا لي من حمقاء! كيف لم أرَ؟ كيف لم أشعر؟!… لكن، حسنًا، لقد اتخذتُ قراري، وسأقول لك ما عندي."
فقلتُ أنا بمرارة:
"كلا، ناستينكا… سأذهب. لا أريد أن أزيدكِ حزنًا، يكفي ما بك. أنا المُذنب… لذا وداعًا!"
قالت وهي تُمسك بيدي بقوة:
"انتظر! أجبني… أيمكنك الانتظار؟"
"انتظار ماذا؟ كيف؟"
قالت وقد أخذ صوتها يرتجف:
"أنا… ما زلتُ أحبه… لكنني… أتعافى… سأُشفى منه، لا بد أنني سأُشفى! أشعر بذلك… ومن يدري؟ قد ينتهي كل شيء اليوم… فها أنا أكرهه… نعم، لقد ضحك عليّ، أما أنت… فقد بكيت معي… لم تنفر من حزني كما فعل هو… بل… بل أنت تُحبني، وهو… لم يُحبني قط! وأنا… نعم، نعم… أنا أيضًا أ
حبك! أحبك كما تُحبني… قلتها لك من قبل، وها أنا أُعيدها: أحبك لأنك خيرٌ منه، لأنك أنبل، لأنك… لأنك لست مثله!"
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬