▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

كان تأثّر المسكينة بالغًا، حتى إنها لم تقوَ على الكلام. أسندت رأسها على كتفي، ثم على صدري، وانفجرت بالبكاء. حاولتُ مواساتها، أن أهدّئها، لكنها لم تملك كفَّ دموعها، كانت تضغط على يدي وتقول بصوتٍ متقطّع بين شهقاتها:

"انتظر… انتظر… سيهدأ كل شيء بعد لحظة… لا تظن أن هذه الدموع تعني شيئًا… لا، إنها لا شيء… إنها فقط… ضعف… فقط انتظر…"

وبعد حين، جفّفت عينيها، وسرنا معًا صامتَين. حاولت أن أقول شيئًا، لكنها ألحت عليّ أن أنتظر، وبقينا على حالنا، صمتٌ عميق، وقلبٌ مضطرب.

ثم تشجعتْ أخيرًا، وقالت بصوت ضعيف مرتجف، كان رغم ذلك يحمل نغمةً اخترقت قلبي كأنها لحنُ فرحٍ مؤلم:

"الأمر… أنني لا أريدك أن تظن أنني خفيفة القلب، أو متقلّبة الهوى… لا تظن أنني أُغيّر مشاعري بهذه السرعة. لقد أحببته عامًا كاملًا، وأُقسم بالله… لم أكن يومًا، حتى في خاطري، غير وفية له… لكنه احتقرني… سخر مني… غفر الله له! لكنه جرح قلبي بعمق… لا… لم أعد أحبه، لأني لا أستطيع أن أحب سوى من هو كريم النفس، من يفهمني، من يعرف كيف يُقدّر امرأةً مثلي… وهو ليس أهلًا لي… كفى عنه الآن، لقد أحسن حين كشف لي حقيقته الآن، بدل أن يخدعني لاحقًا ويخذلني حين لا أملك النجاة… انتهى الأمر!"

ثم تابعت وهي تشد على يدي:

"لكن من يدري، يا صديقي؟ ربما كان حبي له مجرد وهم… شعور كاذب وُلِد من الملل أو التمرّد… ربما كان سببه أنني كنت محبوسةً خلف حواجز جدّتي، فلم أعرف شيئًا من الحياة. ربما… ربما كان قلبي يستحق حبًّا آخر، من رجلٍ آخر، رجلٍ… يرأف بي، ويحبني حقًا… لكن… دعنا لا نُكمل، لا أُريد أن أقول أكثر من هذا."

ثم توقفت عن الكلام، تلتقط أنفاسها، وتابعت بصوت متردّد:

"كل ما أردت قوله هو… إن كنت، رغم كل ما سمعت، رغم أنني ما زلت أحبه… لا، كنتُ أحبه… إن كنت، رغم ذلك، ما زلت تحبني… وإن كنت تشعر أن حبّك سيُخرج من قلبي ذاك الشعور القديم… إن كنت ترأف بي، ولا تُريد لي أن أُترَك وحيدة، من دون أمل، من دون عزاء… إن كنتَ على استعداد أن تُحبّني كما أنت الآن… فأقسم لك، أن امتناني… أن حبي لك… سيصير يومًا جديرًا بحبك… فهل تمدّ يدك إليّ؟"

صرختُ وأنا أجهش بالبكاء:

"ناستينكا!… ناستينكا، يا ناستينكا!"

فقالت وهي تجهد في كبح مشاعرها:

"كفى، كفى! لقد قيل كل شيء… أليس كذلك؟ أنت سعيد؟ وأنا… أنا سعيدة أيضًا. لا مزيد من هذا الحديث، بالله عليك! لنُغيّر الموضوع."

"نعم، ناستينكا، نعم! كفانا كلامًا عن هذا… أنا سعيد الآن، يا ناستينكا… فلنتحدث عن أشياء أخرى! هيا… أنا مستعد!"

لكننا لم نكن نعرف ماذا نقول… ضحكنا، ثم بكينا، وقلنا آلاف الكلمات المبعثرة التي لا معنى لها… مرةً كنا نسير على الرصيف، ثم نرجع فجأة ونعبر الطريق، ثم نعود إلى الضفة حيث مقعدنا… كنا كالأطفال.

قلتُ لها:

"أنا أعيش وحيدًا الآن، ناستينكا… لكن غدًا… لا بد أنكِ تعرفين… أنا فقير، لا أملك إلا ألف ومئتي روبل، لكن لا بأس…"

فقالت:

"لا بأس، وجدّتي تتقاضى معاشًا، ولن تُشكّل عبئًا… لا بد أن نأخذها معنا."

"طبعًا، لا نترك الجدة! لكن ماذا عن ماترونا؟"

"نعم، وفيوكلا أيضًا!"

"ماترونا امرأة طيبة، لكنها تفتقر إلى الخيال، ناستينكا… لا تملك أيّ خيال، لكن لا بأس."

"هذا حسن… يمكنها العيش مع فيوكلا، لكن عليك أن تنتقل إلينا غدًا."

"إليكم؟ كيف؟ حسنًا، أنا موافق!"

"نعم، استأجر الغرفة عندنا. في الطابق العلوي غرفة شاغرة، كانت تُقيم فيها سيدة عجوز، لكنها رحلت. وأظن أن الجدة ستُسرّ بشابٍ لطيفٍ يسكن عندنا. قلتُ لها: ولماذا شاب؟ فقالت: لأنني عجوز… لكن لا تظن، ناستينكا، أنني أريده زوجًا لك! ففهمتُ قصدها..."

"آه، ناستينكا!"

وانفجرنا ضاحكين.

"كفى، كفى! أين كنت تسكن؟ نسيت."

"هناك… قرب جسرX في بناية بارانيكوف."

"البناية الكبيرة؟"

"نعم، الكبيرة."

"أعرفها… جميلة… لكن الأفضل أن تتركها وتأتي إلينا."

"غدًا، ناستينكا، غدًا! أنا مديون بشيء بسيط للإيجار، لكن لا بأس، سأحصل على راتبي قريبًا."

"وأنا سأبدأ بإعطاء دروس، سأتعلّم شيئًا أولًا، ثم أُدرّس!"

"رائع! وسأحصل أنا على مكافأة قريبًا!"

"إذًا، غدًا ستكون نزيلنا!"

"وسنذهب إلى أوبرا (حلاق إشبيلية)، سيُعرض قريبًا!"

"نعم، نذهب!… لا، بل نرى شيئًا آخر، لا أُحب حلاق إشبيلية."

"حسنًا، نُشاهد غيره… معكِ حق، لم أفكر."

وكنا نمشي كأننا سكارى، مُنتشين، لا نعي ما يجري حولنا… مرةً نتوقّف لنتحادث طويلًا، ثم نتابع الطريق، ثم نجهل إلى أين نمضي… من جديد، دموع وضحكات… ثم فجأة تُصرّ ناستينكا على العودة، فأُوافق، لكننا نجد أنفسنا بعد ربع ساعة قرب المقعد ذاته. تتنهّد، تغرورق عيناها، وأرتجف أنا فزعًا… لكنها تُمسك بيدي وتُجبرني أن أتابع الحديث، أن أُسلّيها، أن أنسى.

قالت أخيرًا:

"يجب أن أعود الآن، تأخر الوقت… علينا أن نكفّ عن تصرّفنا كالأطفال."

"نعم، ناستينكا… لكنني لن أنام هذه الليلة، لن أعود إلى بيتي."

"ولا أنا… فقط، أوصلني."

"طبعًا!"

"لكن هذه المرة، نصل فعلاً إلى البيت!"

"نصل، نصل!"

"كلمة شرف؟ لأن الإنسان لا بد أن يعود يومًا إلى بيته!"

"كلمة شرف!" قلتُ ضاحكًا.

"هيا إذًا!"

"هيا! انظري إلى السماء، ناستينكا… انظري! غدًا سيكون يومًا جميلاً… ما أروع السماء، ما أبهى القمر! انظري! تلك الغيمة الصفراء تغطيه… انظري، انظري… لا، لقد مرّت… انظري، انظري!"

لكن ناستينكا لم تنظر… كانت واقفةً كأنها تمثال… وبعد دقيقة، اقتربت منّي خائفة، ارتجفت يدها في يدي، فنظرت إليها، فازداد التصاقها بي.

وفي تلك اللحظة، مرّ شابٌ بقربنا، ثم توقّف فجأة، حدّق فينا، ثم تابع خطواته. ارتجف قلبي.

"من هذا، ناستينكا؟" همستُ.

قالت بصوتٍ مبحوح مرتجف، والتصقت بي أكثر:

"إنه… هو."

لم أقوَ على الوقوف.

"ناستينكا، ناستينكا! أنتِ!" سمعنا صوتًا خلفنا… وفي اللحظة نفسها، اقترب منّا بخطواتٍ سريعة.

يا إلهي! كيف صرخت! كيف اندفعت من بين ذراعي! كيف ألقت بنفسها في أحضانه!

وقفتُ أحدّق فيهما، كمن صُعق. لكنها ما لبثت أن استدارت إليّ، وعادت إليّ في ومضة، واحتضنتني… وطَبعت على وجنتيّ قبلةً دافئةً حنونة، ثم من

دون أن تنبس بكلمة، عادت إليه، وأمسكت بيده، ومضت به.

وقفتُ طويلًا، أنظر إليهما… حتى غابا عن ناظري.

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/16 · 2 مشاهدة · 941 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025