▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
الصباح
انتهت ليلتي مع انبلاج الصباح. كان يومًا رتيبًا، رماديًّا كالحزن، والمطر يهطل كأنّما يبكي على زجاج نافذتي، يضربه بإصرار كئيب. الغرفة مظلمة، والعالم خارجها قاتم. رأسي يضجّ بالألم، ودوارٌ غريب يتسلّل إلى أطرافي كأنما الحمى تزحف في الجسد.
قالت ماترونا وهي تنحني نحوي:
"هناك رسالة لك، يا سيدي، ساعي البريد أحضرها."
"رسالة؟ ممّن؟!" صحتُ وأنا أنهض مذعورًا من مقعدي.
قالت:
"لا أدري يا سيدي، الأفضل أن تنظر بنفسك… لعلّ اسم المرسل مكتوبٌ عليها."
مزّقت الختم… كانت منها! من ناستينكا!
"آه! سامحني… سامحني! أستحلفك أن تغفر لي! لقد خدعتك… وخدعتُ نفسي. ما حدث لم يكن سوى حلم… سراب…
قلبي يعتصر لأجلك هذا الصباح… سامحني… لا تؤاخذني… لم أتغيّر عليك… لم أتبدل أبدًا.
قلت لك إنني سأُحبك… وأنا أحبك الآن… بل أكثر من الحب!
يا إلهي! لو أني استطعت أن أحبكما معًا! لو أنك كنت هو!"
(وأعادت كلمتها الأخيرة الصدى في رأسي: "لو أنه كان أنت!"… تذكّرتك يا ناستينكا… تذكّرت كلماتك!)
"والله وحده يعلم ما كنت لأفعله من أجلك الآن!
أعلم أنك حزين… مُثقلٌ بالوحدة… وأنني جرحتك، لكنك تعرف، حين يحب الإنسان، تُنسى الجراح سريعًا. وأنت تحبني.
شكرًا… نعم، شكرًا على هذا الحب!
سيبقى حيًّا في ذاكرتي كحُلمٍ حلوٍ لا يزول حتى بعد الاستيقاظ… سأذكر دومًا تلك اللحظة التي فتحت فيها قلبك لي كما يفتح الأخ قلبه لأخته… وقبلت عطية قلبي المُهشم، لترعاه، وتُضمده، وتُعيد له الحياة…
وإن غفرت لي، فإن ذكراك ستظل في نفسي شامخة، موشّاةً بالشكر الأبدي… لن تمّحي أبدًا من روحي…
سأحفظ تلك الذكرى، وسأبقى وفيّة لها… لن أخونها، لن أخون قلبي، فهو قلبٌ وفيّ… وقد عاد سريعًا أمس… إلى من لطالما كان له.
سنلتقي… ستزورنا… لن تتركني… ستظلّ صديقي… وأخي… وعندما تراني، ستُصافحني… أليس كذلك؟
ستُعطيني يدك… لقد غفرتَ لي… أليس كذلك؟
أنت لا تزال تحبني؟
آه، أحببني! لا تتركني!
لأنني الآن أحبك حبًا صادقًا… لأنني جديرةٌ بحبك… لأنني سأثبت لك أنني أستحقه!
صديقي العزيز… في الأسبوع القادم… سأتزوّج به.
لقد عاد مُحبًّا… لم ينسني قط.
لن تغضب لأنني كتبت لك عنه، أليس كذلك؟
لكنني أودّ أن أراك معه… ستحبّه، أليس كذلك؟
اغفر لي… تذكّرني… وأحببني دومًا.
ناستينكا."
قرأت الرسالة مرارًا… ودموعي تنهمر غزيرةً على وجهي… حتى سقطت الرسالة من يدي… وأخفيتُ وجهي بكفّي.
قالت ماترونا:
"يا عزيزي… أقول يا عزيزي..."
"ما الأمر، ماترونا؟"
"لقد أزلتُ كلّ خيوط العنكبوت عن السقف… يمكنك أن تُقيم حفلة… أو عرسًا إن شئت!"
نظرتُ إلى ماترونا… لا تزال امرأة ممتلئة، فيها شيء من الحيوية… لكن لا أعلم لِمَ تراءت لي فجأة بعينٍ خامدة، ووجهٍ مُتغضّن، وجسدٍ منحني مُتهالك… لا أدري لِمَ بدا لي فجأة أن غرفتي نفسها قد شاخت، مثلها.
الجدران، الأرض، كل شيء شحب لونه… خيوط العناكب صارت أكثر كثافة، الهواء ثقيل… وحين نظرت من نافذتي، خُيّل إليّ أن البناية المقابلة قد هرِمَت بدورها، وأن جصّ أعمدتها يتقشّر، وأطرافها تتشقق، وطلاؤها الأصفر الغامق صار ملطّخًا ببقعٍ باهتة.
ربما كانت أشعة الشمس، التي أطلّت للحظة، قد اختبأت ثانيةً خلف حجاب المطر، فعاد كلّ شيء كئيبًا أمام ناظري…
وربما… كانت رؤيا كاملة لمستقبلي قد انكشفت أمامي فجأة…
مستقبلٌ كئيب، كأنني رأيت نفسي بعد خمسة عشر عامًا… في هذه الغرفة نفسها… على هذه الحال نفسها… أكثر وحدةً… أكثر بؤسًا… وماترونا لم تزد ذرةً من الحكمة خلال تلك السنين.
لكن، كيف أتخيّل – يا ناستينكا – أنني سأحمل لك ضغينة؟
أن أُظلِّل سماءك الصافية بسحابةٍ من حزن؟
أن أُكدّر سعادتك بكلمةِ لومٍ أو نبرةِ عتاب؟
أن أُثقِل قلبك بالندم في لحظة الفرح؟
أن أُذبل زهرةً واحدةً من الزهرات التي ستُزيّنين بها ضفائرك حين تذهبين معه إلى الزفاف؟
أبدًا… أبدًا!
فلتكن سماؤكِ نقيّة، ضحكتك مشرقة لا تُعكّرها شائبة، ولتُبارَكي من أجل تلك اللحظة الواحدة من السعادة،
التي منحتِها لقلبٍ وحيدٍ… ممتن.
يا إلهي…
أكاملةٌ هي لحظة من السعادة؟
أهي قليلة على عمرٍ بأسره؟
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
النهاية...