▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
الليلة الأولى
يا لها من ليلةٍ عجيبةٍ آسرة، من تلك الليالي التي لا تشرق إلا في ربيع العمر، حين يكون القلب غضًّا، والعين نقيّة، والروح معلّقة بين الأرض والنجوم، أيها القارئ النبيل. لقد كانت السماء كأنها عرشٌ من أزرق البلور، مرصّعة بنجومٍ تتلألأ كأنها أنفاس الطبيعة، وقد نُثِر عليها نورٌ لا يشبه إلا الحلم إذا تجسّد. ومن فرط صفائها، ما تلبث أن ترفع بصرك حتى يتسلّل إلى وجدانك سؤالٌ رقيق كهمس النسيم: كيف لأرواحٍ عبوسة، أو نفوسٍ متمردة، أن تحيا تحت هذا السقف الموشّى بالعظمة؟ إنه سؤال الشباب، أجل… لكنه سؤالٌ ينبغي للعاقل أن يحتفظ به في قلبه كما يحتفظ المتعبد بدعائه، يستحضره كلّما ضاقت عليه الدنيا أو اغبرّت له الأيام.
وإذ ذكرتُ أصحاب المزاج المعكّر، لا بد لي أن أرجع إلى نفسي، فأحدثك عنها في ذلك الصباح البعيد… إذ استيقظت على كآبةٍ ناعسةٍ تسللت إليّ دون استئذان، كغمامةٍ داكنةٍ تهبط على وادٍ نائم. شعرت فجأة بأنني دخيل، طارئ، وحيدٌ في مدينة تضجّ بالحياة. كأنّ العالم بأسره قد أدار لي ظهره، وانكمش بعيدًا عني، حتى اختفى من مرآي ومسمعي. وقد يسأل سائل: "وأيّ عالمٍ هذا الذي هجرك؟" فلا أصحاب لي ولا خلّان، وقد قضيت في بطرسبورغ ثمانية أعوامٍ كاملة، أنسج وحدتي كما ينسج العنكبوت خيوطه في ركنٍ مهجور.
ومع ذلك، كنت أعرف المدينة كما يُعرف الحبيب البعيد، الذي لا تطاله يدٌ، ولكن لا يفارق الخيال. ولهذا، حين هجرت المدينةُ أهلها، ويمّموا شطر المصايف والضواحي، شعرتُ وكأنّها هي نفسها قد هجرتني، وتركتني بين جدرانها الباردة. خشيت الوحدة… بل رهبتها، كأنها وحشٌ كامن في الأزقّة، ينتظر لحظة الانقضاض. وظللتُ ثلاثة أيامٍ أذرع الشوارع بخطى تائهة، كأنني أبحث عن شبحٍ من ذاتي، أو عن ظلٍّ لنفسي في أرضٍ لم تعد تعرفني.
كنت أتمشّى في شارع نيفسكي، أو أجوب الحدائق الغافية، أو أتسكّع على ضفاف النهر، دون أن أعثر على وجهٍ واحدٍ من الوجوه التي ألفتها طوال العام. إنهم لا يعرفونني، نعم… ولكنّي أعرفهم. وجوههم منقوشة في ذاكرة روحي، محفورة كما يُحفر الحنين على ألواح القلب. أفرح إذا رأيت البسمة على شفاههم، وأحزن إذا لاحت في أعينهم غلالة الكآبة، كأنني واحدٌ منهم، رغم أنني لست في عيونهم سوى عابرٍ شاحب.
لقد كدت أن أنسج صداقة صامتة مع شيخٍ وقور، ألقاه كلّ يومٍ على ضفاف فونتانكا، في الساعة نفسها، وكأنّ بيننا موعدًا سرّيًا لا يُكتب ولا يُقال. طلعتُه سامقة، وعيناه مغمورتان بتأمّلٍ سحيق، يتمتم بكلماتٍ مبهمة، ويحرّك يده في الهواء كمن يرسم خريطةً لِما لا يُرى، بينما يده الأخرى تستند إلى عصا طويلة ملتوية الرأس، يزينها مقبضٌ من ذهبٍ قديم. كنت أشعر أنّه يراني… بل يفتقدني إن غِبت، كما أفتقده. بلغ بنا الأنس أن كدنا نتبادل التحية دون أن نتفوه بكلمة. وفي يومٍ غاب فيه عني يومين، ثم التقينا في الثالث، هممنا برفع قبعاتنا، ثم تراجعنا في اللحظة الأخيرة، واكتفينا بنظرةٍ دافئةٍ فيها مزيجٌ من الألفة والاعتراف.
وأما البيوت، فقد غدت لي كأنّها مخلوقاتٌ لها أرواحٌ وهمسات، تمشي معي في الطريق، تطلّ عليّ من نوافذها القديمة، وتُلقي عليّ تحية الصباح كأنها تقول: "صباح الخير، أيها العابر العتيق! ما زلت هنا، وما زلتُ أنا كما أنا. أحمد الله، فسيضاف إليّ طابقٌ جديد في مايو"، أو "أترى جدراني؟ غدًا سألبس ثوبًا جديدًا من الطلاء!"... كأنّ الحجر نفسه قد آنس وحدتي، وقرر أن يكلّمني.
بل لقد خُيّل إليّ أن بعض الأبنية كانت تئنّ أنينًا خافتًا، أنينًا يشبه شكوى الجريح أو تنهيدة عاشقٍ خذلته الليالي، تقول بصوتٍ كالحسرات: «كادوا أن يحرقوني! لقد أرعبوني رعبًا لا يُحتمل!» وهكذا كانت تُحدّثني، كلٌّ على طريقته، وكلٌّ بلغته المضمَرة التي لا يفقهها إلا من عاشر الحجارة كما يعاشر الصديقُ الصديق.
وإنّ لي من تلك الأبنية أصدقاءَ مقرّبين، أبادِلهم مودّةً صامتة، وبعضهم أعزّ عليّ من بعض. أحدها، كما سمعت من لسان حجارتِه، قرّر هذا الصيف أن يستعين بمهندس معماريّ ليُعيد بهاءه الغابر، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أزوره كلّ صباح، لأُشرف بعينيّ على ترميمه، وأحرس جماله من عبث أيّ ذوقٍ مبتذل أو يدٍ لا تُحسن الجمال، لا قدّر الله.
لكنّ الذكرى التي لن تُمحى من وجداني حتى آخر رمقٍ في حياتي، هي ما جرى بيني وبين بيتٍ صغيرٍ فاتنٍ، أشبه بدميةٍ ورديّة من الطوب، كان كلّما مررت به يبتسم لي من بين جيرانه القساة القُبحاء، فيزهو كزهرةٍ وسط الحصى. كنتُ أُحبّه حبًّا خالصًا، أُكِنُّ له من العاطفة ما يُكنّه العاشق لخفيّ محبوبه. حتى إذا ما مررتُ به في الأسبوع المنصرم، فإذا بي أسمع أنينًا مكتومًا ينبعث منه كصرخة خنقتها طبقات الطلاء: «لقد طَلَوني بالأصفر!» آهٍ، يا للكارثة! يا لليد التي لا تعرف أين تضع ألوانها! لقد جعلوه أصفر فاقعًا كأنّه أفندي في بذلةٍ تضحك منها الأذواق، أو عصفورٌ ملوَّنٌ أُطلق في سوقٍ شعبي! لم يتركوا شيئًا على حاله: لا الأعمدة، ولا الزخارف، ولا الحواشي الدقيقة التي كانت كالوشيحة في جيد حسناء. شعرت وكأنّ الصفار قد انسكب في كبدي، فصَفِر دمي، وتكدّرت روحي، ولم تطاوعني نفسي على رؤيته منذ ذلك اليوم، فقد دنّسوا وجهه الجميل بلونٍ لا يليق إلا بأسوار قصور الصين في رسوم الأطفال.
والآن، أيها القارئ الكريم، لعلك تُدرك أن معرفتي ببطرسبورغ ليست سطحًا يُلامَس، بل عُمقًا يُعاش، وأن عشرتي لها ليست مجرد إقامة، بل صداقة قديمة، قد خفيت عن أهلها أنفسهم.
وقد أسلفتُ أنّني كنت، طوال ثلاثة أيام، أضطرب اضطرابَ من فَقَد شيئًا لا يعرف اسمه، حائرًا في أمر ذلك الضيق الذي اجتاحني، دون أن أهتدي إلى علّته. في الشوارع، كنت أفتّش عن الوجوه، فلا أرى من اعتدت رؤيتهم؛ كأنّهم تبخّروا، أو تآمروا على الغياب دفعةً واحدة. وفي بيتي، كنتُ كالغريب في مِضيافِه، لا ألفة، ولا دفء، ولا طمأنينة.
قضيتُ ليلتين كاملتين أتفقّد غرفتي الضيقة كمن يفتّش في عينيه عن نورٍ أضاعه. ما الذي تغيّر؟ لمَ صار هواؤها خانقًا؟ لمَ لا أستريح كما كنت؟ نظرتُ إلى الجدران، وقد علاها غبارٌ خفيف كضبابٍ عجوز، وتسلّقها بيتُ عنكبوتٍ غزلته الأيام بتؤدةٍ وصبر، وتركتْه "ماترونا" — خادمتي — ينمو كما تنمو النبتة في زاويةٍ منسية. قلّبت أثاثي القديم بعينيّ كما يُقلّب القلب ذكرياته، وقلت في نفسي: أأخطأتُ في ترتيب الكراسي؟ فأنا رجلٌ لا يهنأ له بال إن حادت الكُرسيّات عن مواضعها قيد شبرٍ مما كانت عليه بالأمس.
نظرتُ إلى النافذة، فلم تُشِح إليّ بلمحة عزاء، ولا أرسلت نسمةً تُسرّي. قلّبتُ كلّ شيء، سألت نفسي، أنَّبتها، لم أترك زاوية إلا نقّبتُ فيها، ولكن… لا شيء، لا طائل من ذلك كلّه! لا راحة، ولا سكينة، ولا سبب يُقنعني بالحزن، لكنه ينهشني مع ذلك.
أخيرًا، ضاق صدري، فاستدعيتُ "ماترونا"، وأخذتُ أوبّخها كما يوبّخ الأب ابنته المُدلّلة، على إهمالها ونسيانها، وعلى بيت العنكبوت بالذات، كأنه جرحٌ في جبين بيتنا. لكنها لم تُجِب، بل نظرت إليّ بدهشةٍ خامدة، ثم أدارت ظهرها، وانصرفت في صمتٍ لا يخلو من احتجاج، وتركت بيت العنكبوت معلّقًا كما كان، لا يزال يتدلّى كغمامةٍ صغيرة حتى هذه اللحظة.
غير أنّني، هذا الصباح فقط، أبصرتُ الحقيقة كمن أزاح عن عينيه الضباب: آهٍ، يا للهول… لقد هربوا جميعًا! فرّوا إلى المصايف، وخلّفوني وحدي في مدينةٍ باتت أجوف من الحياة، كقلبٍ فقد نبضه. سامحني إن بدا تعبيري بسيطًا، فإن حزني اليوم أضيق من أن يتّسع للزينة البلاغية. لقد تهيّأت المدينة كلها للرحيل، كلّ من فيها إما مضى، أو يشدّ رحاله للذهاب.
كلّ وجهٍ أراه في الشارع، كأنما يهمس: «لسنا هنا إلا عابرين، وبعد ساعتين نمضي إلى ضيعاتنا». وإذا ما فُتح شبّاكٌ من خلف زجاجه الأبيض النقيّ، وطلّ منه وجهُ فتاةٍ كأنها القمر، تنادي بائع الزهور في الأسفل، أيقنت دون تردّد أنّ تلك الزهور ليست لحجرةٍ حارّة، بل لحديقةٍ نديّة، حيث النسيم يعزف على أوراق الأشجار.
لقد بلغتُ من التخيّل حدًّا صرتُ فيه أفرّق، بنظرةٍ واحدة، بين أهل «كامنّي» و«آيلتكارسكي»، وبين سكان طريق بيترهوف؛ أولئك تُميّزهم أناقتهم، وسيّاراتهم الفاخرة، وخُطاهم الرصينة. أما من توجّه إلى «بارغولوفو» أو غيرها من النواحي البعيدة، فله هيئةٌ وقورة، توحي بالحكمة والحساب. وأما الذاهبون إلى «كريستوفكسي»، فعلى وجوههم بريقٌ من فرحٍ لا يقدرون على كتمانه.
وحينما أرى مواكب العربات تمضي الهوينى، محمّلةً بالأثاث، والكراسي، والأرائك، ومستلزمات المطبخ، بل وربما بامرأةٍ طاعنةٍ في السن جالسةٍ فوق المتاع كمن يحرس كنزًا لا يُثمَّن؛ أو حين أعبر جسرًا فأبصر زوارقَ مثقلةً بما حملوا، تنزلق على نهر نيفا أو فونتانكا في طريقها نحو الجزر أو البحر—كنت أشعر كأنني أمام هجرةٍ كبرى، أمام مدينةٍ تتقوّض من الداخل وتُسلّم نفسها للفراغ.
وفي نهاية المطاف، لم يبقَ لي سوى الحزن. شعرتُ أنني منسيّ، مهجور، بلا دعوة، بلا مَنفى، بلا صديقٍ يقول لي: "هلمّ بنا إلى الريف!" كنتُ على استعدادٍ أن أرحل مع أيّ مركبةٍ تمضي، أو أمتطي قاربًا مع أيّ غريبٍ، فقط… لأغادر. لكنّ أحدًا لم يطلبني. كأنهم جميعًا أغلقوا أبوابهم عليّ، وكأنني، في مدينتي، لستُ سوى عابرٍ لا يُرى.
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬