▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
كنتُ أطيل السير في شوارع المدينة، أذرعها بخطًى شاردةٍ كعادتي، أغوص في لجّة أفكاري حتى أنسى مكاني وزماني، فلا أفيق من غفلتي إلا وقد بلغتُ تخوم بطرسبورغ، حيث تنتهي الأرصفة وتبدأ الأرض، وحيث تتلاشى صلابة الحجر وتستقبلني الطبيعة ببسط يدها النديّة.
هناك، على عتبة الريف، شعرتُ بخفّةٍ غريبة تسري في أضلعي، كأنّ ثِقلًا جثم طويلًا على صدري قد انزاح، وتنفّست بعمقٍ كما لم أتنفّس من قبل. عبرتُ الحاجز بين المدينة والمروج كما يعبر التائب باب الغفران، وسرتُ في دروب الحقول ونسائمها، كأنّ روحي استردّت شيئًا من ذاتها، كأنني غسلتني الأرض بنداها وحرّرتني من هواء المدينة الخانق وجدرانها الكئيبة.
كلّ من مرّ بي من الناس كان يُلقي إليّ بنظراتٍ فيها ودادٌ عجيب، حتى خُيّل إليّ أنهم يحيّونني كما يُحيّى صديق قديم. بل إن البهجة كانت ترتسم على وجوههم كما ترتسم الشمس على صفحة النهر، وكلٌّ منهم يُدخّن سيجارًا كما لو كان ذلك طقسًا من طقوس السرور، وتعبيرًا صامتًا عن الطمأنينة. وكنتُ، في تلك اللحظات، سعيدًا على نحوٍ لم أعرفه قط. شعرتُ، لوهلة، وكأنني وُلدتُ في إيطاليا! نعم، هكذا كان تأثير الطبيعة فيّ، وقد سُحقت روحي طويلًا تحت عجلات المدينة وصدأها.
إنّ لطبيعة أطراف بطرسبورغ سحرًا لا يُوصف، سحرًا يفوق البيان، خاصةً حين تهبّ أنفاس الربيع الأولى، فيبدو المشهد كأنه صلاةٌ تنبع من الأرض نحو السماء. عندئذٍ تبتهج الأغصان اليابسة، وتتفتّح الأرض كما تتفتّح جفون النائم على حلمٍ جميل، وتكتسي بثوبٍ أخضر مُوشّى بالأزهار، كأنّها عروس خرجت من شتاءٍ طويل لتلتقي عريسها في عرس الضوء والمطر.
وأعجبُ ما في هذا الجمال، أنّه يذكّرني دائمًا بفتاةٍ نحيلةٍ، عليلة، اعتراها داءٌ عضال، تراها فتميل لها عاطفتك، لا تدري أتشفق عليها أم تُحبّها في صمتٍ عميق. وفي غفلةٍ من الزمان، وفي لحظةٍ تشبه المعجزة، تتفتّح تلك الفتاة الخجولة كما تتفتّح زهرةٌ نادرة… وإذا بها تشعّ بجمالٍ ساحر، نظرتها تضيء، وخدّاها يشتعلان بحمرة الحياة، وشفاهها ترتجف ببسمةٍ حيية كأنها أول ضوءٍ بعد ليلٍ طويل. تتأملها مأخوذًا، وتهمس في نفسك: من الذي أيقظ هذا الجمال؟ من الذي نفخ الروح في هذا الجسد الواهن؟ كيف صارت في لحظةٍ واحدة ملاكًا يمرّ في الحلم، ثم يتوارى دون أثر؟
لكنّك لا تكاد تسأل حتى تمضي اللحظة، ويعود الغد محمّلًا بالذبول القديم. تعود الفتاة إلى ما كانت عليه: مطأطئة الرأس، ذاهلة النظرات، تمشي بخطى خجلى، كأنها تأسف على تلك الابتسامة الخاطفة، أو تندم على لحظة البهاء التي لم تكن لها. فتشعر أنت بالأسى، بالندم، لأنّ الجمال الذي لمع أمامك لم يمنحك وقتًا لتحبه.
ومع ذلك، كانت ليلتي خيرًا من نهاري، بل كانت بدايته لما سأحكيه لك الآن…
عدتُ إلى المدينة في ساعةٍ متأخرة، وقد دقّت الساعة العاشرة، وأنا أشقّ طريقي إلى مسكني المنزوي في ناحيةٍ هادئةٍ من المدينة، على مقربةٍ من القناة، حيث يخلو الطريق في مثل هذا الوقت من المارّة، وتنعس الأرصفة تحت ضوء المصابيح الخافتة.
كنتُ أترنّم لنفسي بصوتٍ خافت، فإنّ السعادة إن لم تجد لها آذانًا تُصغي، انفجرت في الهمسات والأغنيات، وما أسعد القلب حين يُغني لنفسه! وفجأة، وقفتُ كمن أصابته صاعقة…
رأيتُ فتاةً واقفةً عند درابزين القناة، تميل بجسدها على الماء الساكن، كأنّها تُحدّق فيه بنظراتٍ مندهشة. كانت ترتدي قبعةً صفراء أنيقة، ومعطفًا أسود صغيرًا يُظهر رشاقتها في ضوء المساء، وخُيّل إليّ من بُعد أنّها فتاةٌ شابّة، سمراء القسمات. لم تلحظ وجودي، ولم تتحرك وأنا أمرّ بقربها، لكن قلبي خفق خفقةً عنيفة، وارتبكتُ كأنّني طفلٌ اقتحم عالمًا لا يعرفه.
قلتُ في نفسي: "غريب… ما الذي يشدّها إلى هذا الماء المظلم؟ أهي تحزن؟ أهي تنتظر؟"
ثم، في اللحظة التالية، سمعتُ نحيبًا مكتومًا… صوتُ بكاءٍ لا تخطئه الأذن. أجل، كانت تبكي! وبعد لحظة، دوّى نشيجها في أذنيّ، واضحًا، صادقًا، يعتصر القلب.
يا إلهي… لقد انقبض صدري. وأنا، بطبعي، شديد التهيّب من النساء، تتعقّد كلماتي أمامهنّ، وتتيه مني الشجاعة، لكنّ ما كنتُ أراه لم يكن يُحتمل! تقدّمتُ خطوة، وكدتُ أن أناديها، أقول: "آنسة!" لكنني تذكّرت كيف أُهلكت هذه الكلمة في رواياتنا الروسية، حتى فقدت وقعها، فما ناديتُ.
وبينما أبحث في رأسي عن نداءٍ أكثر رقةً، وأكثر وقارًا، التفتت الفتاة فجأة نحوي، رمقتني بنظرةٍ خاطفة، ثم خفضت بصرها، ومضت سريعًا بمحاذاة الرصيف. تبعتُها، ولم أجرؤ على الإسراع، لكن يبدو أنها أحسّت بوجودي، فعبرت الشارع فجأة إلى الجهة الأخرى. أما أنا، فقد وقفت في مكاني، إذ كان قلبي يخفق كعصفورٍ مذعورٍ في قفصٍ من صدري.
وهنا… تدخلت الصدفة.
فقد ظهر في الجانب الذي سارت فيه الفتاة رجلٌ مسنّ، بلباس المساء، يتمايل في مشيته، وقد أثقلته الخمرة. كان يسند نفسه إلى الجدار، وخطواته مخلخلة كأنّ الأرض تميد تحت قدميه. وما إن رأى الفتاة حتى تحرّكت فيه نزعةٌ خبيثة، فاندفع وراءها دون كلمة، مدفوعًا بأهواء الشراب وفُحش الغرائز.
أسرعت الفتاة هاربةً كمن يفرّ من قدر، لكنها لم تكن أسرع منه كثيرًا، وكان هو قد اقترب… واقترب، حتى كاد أن يدنو منها…
وصرخت هي! صرخةً خالدة، مرعوبة، يائسة، ترجّ صدري إلى يومي هذا.
أما أنا، فأحمد الله أنّ عصاي كانت في يدي اليمنى! تلك العصا المتينة ذات الرأس المعقود! عبرتُ الشارع كالسهم، وفي لحظة كنتُ بينهما. رأى المتطفّل العصا في يدي، ففهم مغزاها، وتراجع على الفور، خافتًا دون أن ينبس بكلمة. لم نبتعد كثيرًا حتى بدأ يصبّ لعناته من بعيد، لكن صوته تلاشى في الهواء، ولم يلامس آذاننا.
عندئذٍ، التفتُّ إلى الفتاة وقلتُ، بلهجةٍ ثابتة:
"أعطني ذراعكِ… لن يجرؤ على الاقتراب ثانيةً."
أخذت بذراعي صامتة، لم تنبس بكلمة، وكانت الارتجافة لا تزال تسري في أوصالها، كأن صدى الرعب لم يغادر جسدها بعد. آهٍ أيها المتطفّل السكير! لشدّ ما باركتك في تلك اللحظة! لم تكن لتعلم، وأنت تترنّح سُكرًا، أنك قد هيّأت لي لقاءً لا يُنسى... لقاءً من تلك التي يُقدّرها القدر، ويخفيها خلف ستار الصدفة.
رمقتُها بطرف عيني، فإذا هي كما توقّعت... بل أجمل. سمراء البشرة، ساحرة القسمات، ذات سكينةٍ آسرة كضوء القمر حين يتهادى على سطح الماء. وعلى رموشها الطويلة، كانت دمعةٌ لا تزال تبرق، لا أدري: أهي دمعة خوفٍ لم تجفّ، أم حزنٍ قديمٍ لم يغادر مقلتيها؟ لكن ابتسامةً خفيفة أخذت ترتسم على شفتيها، في طيّاتها حياءٌ فاتر، وطمأنينةٌ ترفرف كجناح حمامة. ثم لمحتني بنظرةٍ خاطفة، فاحمرّ خداها كقُبلةِ الشمس، وخفضت بصرها على الفور.
قلتُ، وأنا أمازحها بنبرةٍ خفيفةٍ فيها شيءٌ من العتاب وشيءٌ من الوداد: "أرأيتِ؟ لِمَ طردتني في البداية؟ لو كنتُ بجواركِ منذ البدء، لما استطاع أحدٌ الاقتراب منك."
همست، بصوتٍ خفيض، فيه ظلّ ندمٍ لطيف: "لكني لم أكن أعرفك... ظننتُك أيضًا..."
فقاطعتُها، أبتسم كمن ظفر بما لم يكن يتوقّع: "وأتعرفينني الآن؟"
قالت، بابتسامة خجلى: "قليلًا... لكن—لماذا أنتَ ترتجف؟"
فقلتُ، وقد بدا في صوتي نشوةٌ خفيّة لا تخلو من عفويةٍ صادقة: "آه، لقد أصبتِ الهدف من أول سهم! وكم أسعدني أنكِ ذكية، فالذكاء في عيني لا يقلّ سحرًا عن الجمال. نعم، لقد عرفتِني على الفور. إنني أضطرب أمام النساء، وأُربك، ولا أنكر. ما ارتجافي هذا إلا من رهبة الموقف... تمامًا كما كنتِ ترتجفين قبل قليل حينما باغتكِ ذلك الوغد. بل إني الآن لا أدري… أأنا في حلمٍ أم يقظة؟ لم يخطر ببالي، حتى في أوهى أحلامي، أني سأحادث امرأةً وجهًا لوجه بهذا القرب."
ضحكت ضحكةً خفيفة فيها شيءٌ من الدهشة وشيءٌ من الرقة، وقالت: "حقًا؟ أأنت جاد في كل ما تقول؟"
قلتُ بصدقٍ يرتجف في حنايا صوتي: "كل الجدّ. وإن كانت يدي ترتعش، فلأنها لم تمسك يومًا بيدٍ صغيرةٍ جميلةٍ كهذه. أنا رجلٌ غريبٌ عن هذا العالم... عالم النساء. لا أعرف كيف أُحادثهن، ولا كيف أُصغي إليهن. تائهٌ بين الكلمات. وها أنا ذا، لا أدري أكنتُ قد قلتُ شيئًا سخيفًا قبل قليل؟ قولي لي، أرجوكِ، ولا تخشي فيّ حرجًا؛ فلستُ من يغضب من الصراحة."
قالت، وعلى محياها لمعة رضاٍ دافئة: "بل العكس تمامًا... لم تقل شيئًا سخيفًا، بل قلتَ ما لم يُقال لي من قبل. وإن كنتَ تصرّ على الصراحة، فدعني أُسرّك بسرٍّ صغير: النساء يُعجبن بهذا الارتباك، بل يُسحرن به أحيانًا. وإن أردتَ المزيد… فأنا أيضًا أُعجبتُ بك. ولن أتركك حتى أبلغ بيتي."
قلتُ، وأنا ألهث فرحًا وقد تراقص قلبي بين أضلعي: "إذن ستجعلينني أفقد هذا الارتباك… وحينها—وداعًا لكلّ فرصي!"
ضحكت ضحكةً عفويّة، ثم قالت بدهشةٍ مرحة: "فرص؟ أيّ فرص
تعني؟ عن ماذا تتحدث؟! لقد بدأتَ تقول أشياء غير لطيفة..."
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬