▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

الليلة الثانية

قالت وهي تُطبق على يديّ بكلتا يديها، كمن وجد ضالّته بعد طول غياب:

"ها أنتَ قد نجوت!"

فأجبتها متأثرًا:

"كنتُ هنا منذ ساعتين... لا تعلمين في أيّ حالٍ كنتُ طوال النهار."

قالت بحنوٍّ تلمع فيه مسحة من الاطمئنان:

"أعلم، أعلم... لكن دعنا نلجُ إلى صلب الأمر: أتعلم لماذا جئت؟ لم آتِ لأنسج الأحاديث كما فعلتُ البارحة. اسمع، يجب من الآن فصاعدًا أن نكون أكثر رصانة. لقد أمضيتُ الليل أفكّر في هذا اللقاء."

قلت بدهشة ممزوجة بالقلق:

"رزانة؟ وفي أيّ معنى؟ أنا مستعدّ من ناحيتي، ولكن... قولي لي، هل مرّ بي في حياتي كلّها أمرٌ أصدق أو أعمق من هذه اللحظة؟"

قالت برفقٍ متهدّج:

"أولًا، أرجوك... لا تضغط على يديّ هكذا. وثانيًا، يجب أن أُقرّ لك بأنني قضيتُ اليوم أفكّر بك، ولم أخلُ من التردّد."

سألتها بشغفٍ مضطرب:

"وكيف انتهى بكِ الأمر؟"

قالت:

"إلى قرارٍ واحد: أن نبدأ من جديد. لأنني، ببساطة، لا أعرفك. لقد تصرّفتُ البارحة كفتاة ساذجة، كطفلة في أول خطواتها في العالم... ولِمَ لا؟ قلبي الطيب هو السبب، كما أحسب! ها أنا أمدح نفسي، كما يفعل المرء حين يُحاول تبرير نفسه. ولهذا، ولأكفّر عن اندفاعي، قرّرتُ أن أعرف كلّ شيء عنك... بالتفصيل، وبأمانة تامة. أخبرني، ما نوع الرجل الذي أنت عليه؟ هيا، حدّثني، اقصص عليّ حكايتك كاملة!"

صرختُ كأنما مسّني رعدُ الذكرى:

"قصتي؟! مَن قال إن لي قصة؟! ليس لي أيّ قصة..."

قاطعتني ضاحكة كأنّها وجدت في قولي عبثًا لذيذًا:

"وهل يعيش الإنسان بغير قصة؟"

قلتُ:

"عشتُ بلا قصة! وحيدًا، منزوِيًا، في عزلةٍ تامّة. وحدي تمامًا... أتدرين ما معنى أن يحيا المرء وحيدًا؟"

قالت:

"لكن كيف؟ أتعني أنك لم ترَ أحدًا قط؟"

قلت:

"بل أراهم، أراهم جميعًا... ولكن، مع ذلك، أنا وحدي."

قالت بدهشة:

"وهل لا تتحدث إلى أحد؟"

قلتُ:

"بدقّة... لا أحد."

قالت مبتسمة، كأنها تحاول أن تجد مأوًى مألوفًا لقولي:

"ومن تكون إذن؟ فسر لي! لحظة، سأخمّن: لعلّ لك جدّةً تشبه جدّتي. تلك العجوز كفيفة، لا تتركني أغادر الدار. حتى نسيتُ شكلَ الناس وحديثهم. ومنذ عامين، لما بدأتُ أُظهر شيئًا من الحماقة، استدعتني، ودبّست طرف ثوبي بطرف ثوبها، ومنذ ذلك الحين ونحن نجلس هكذا جنبًا إلى جنب، هي تَحيكُ الجوارب عمياء، وأنا بجانبها أقرأ لها أو أخيط. عادة غريبة، أليس كذلك؟ سنتان ونحن ملتصقتان كظلَّين!"

قلتُ بأسى:

"يا للمأساة! يا لها من حياة قاسية! لكنني لا أملك جدّة كهذه."

قالت مستغربة:

"إذن، إن لم يكن لك أحد، فلماذا تمكث في البيت؟..."

قلت وقد بدا على وجهي عبوسٌ صادق:

"أتريدين أن تعرفي حقيقة من أكون؟"

قالت بشغف:

"نعم، نعم!"

قلت:

"بالمعنى الحرفي؟"

قالت:

"بأشدّ المعاني حرفية!"

قلتُ باسماً:

"حسنٌ جدًّا... أنا نموذج!"

قهقهت ضاحكة، ضحكة صافية لم تُسمَع لها مثل منذ زمن، وقالت:

"نموذج؟ نموذج ماذا؟! الحديث معك متعة لا تُضاهى! انظر، هناك مقعد، فلنجلس. لا أحد هنا، ولا من يمرّ، لن يسمعنا أحد... والآن، ابدأ! لا جدوى من الإنكار، أنا متيقّنة أن لك قصة، تُخفيها خلف هذا التمنّع. فلنبدأ من البداية: ما هو هذا النموذج؟"

قلتُ، وقد سرت عدوى ضحكتها في أعماقي:

"نموذج؟ هو الإنسان الأصليّ، الغريبُ الأطوار، الحي في الهامش. شخصية لا تشبه أحدًا. هل تعرفين ما معنى أن يكون المرء حالمًا؟"

قالت وقد هدأت نغمة الدعابة في صوتها، وخيّم على نبرتها صفاء:

"حالم؟ أجل، أنا حالمـة بدوري. كثيرًا ما أجلس إلى جانب جدّتي، فتسرح بي الخيالات في البعيد... كم مرةً زُففتُ إلى أميرٍ صينيّ في أحلامي! الأحلام أحيانًا مُبهجة. لكنها أيضًا مراوغة... خاصة حين لا يجد الإنسان ما يشغله في الواقع، فيفزع إلى الحلم هربًا من خواء الحياة..."

وصمتت الفتاة، وكأن شيئًا أثقل من الذكرى قد مرّ بها، فظلّت ساكنة، تحمل بين عينيها بقايا حلمٍ لم يكتمل.

"رائع! بما أنكِ تزوّجتِ إمبراطورًا صينيًّا، فلا شكّ أنكِ ستفهمينني حقّ الفهم. هيا، أصغي إليّ... لكن، لحظة، لم يخطر لي من قبل... إنني لا أعرف اسمكِ بعد!"

ضحكت قائلة:

"أخيرًا! لم تكن في عجلة من أمرك لتسأل عنه!"

قلتُ بدهشة عذبة:

"يا إلهي! ما خطر لي قط، كنتُ سعيدًا بما نحن فيه... فما اسمكِ؟"

قالت، وفي عينيها بريق:

"ناستنكا."

"ناستنكا! ولا شيء بعدها؟"

"ولا شيء! أوليس يكفيك هذا، يا رجلًا لا يشبع؟"

"لا يكفيني؟ بل هو أكثر مما حلمتُ، ناستنكا الطيّبة، لو كنتِ ناستنكا لي منذ البداية!"

"تمامًا! هيا، تكلّم!"

فقلتُ، وقد جلست إلى جانبها، متصنعًا الجديّة كأنما أقرأ من سفرٍ قديم:

"هاكِ يا ناستنكا، هذه حكايتي الغريبة."

"ثمة زوايا عجيبة في بطرسبورغ، يا ناستنكا، زوايا لا تبلغها شمس المدينة، أو لعلّها تشرق عليها شمسٌ أخرى، خافتة، كُتب عليها ألا تنتمي إلى نهار الناس. تُسكب فيها أشعة باهتة تلوّن كل شيء بنورٍ غير مألوف. وفي تلك الزوايا، يا ناستنكا العزيزة، تُعاش حياةٌ أخرى، ليست من صخب المدينة ولا جِدّها، بل كأنها من نسج عالمٍ آخر، عالمٍ حالم، ساذج، متكسر كالمرايا القديمة، ولكنه في الوقت نفسه... باهت، سخيف، وربما فظيع بابتذاله."

قاطعَتني متعجّبةً، وقد اتّسعت عيناها:

"فوه! يا للسماء! ما هذا الاستهلال؟ ما الذي أسمعه؟!"

فقلتُ باسماً:

"أصغي، ناستنكا! (وأحسبني لن أملّ من تكرار اسمك!)... اعلمي أن في هذه الزوايا يسكن قومٌ غريبو الأطوار، يُدعون الحالمين. والحالم، يا ناستنكا، ليس إنسانًا كاملًا، بل كائن بين بينين، مخلوقٌ هجين، لا يعرف لنفسه موطئ قدمٍ في العالم. ما إن يدخل عزلته، حتى يذوب فيها كالحلزون في قوقعته، بل هو، إن شئتِ الدقة، يشبه تلك السلحفاة العجيبة التي هي بيتٌ وجسدٌ في آن."

"لكن، لمَ يعشق هذا الكائن المخبول جدرانه الأربعة كل هذا العشق؟! جدرانٌ كئيبة، مطلية بالأخضر القاتم، تفوح منها روائح التبغ والبؤس؟ ولماذا، إن زاره أحد معارفه القلائل الذين لم يفرّوا بعد، يستقبله بوجهٍ حرج، وابتسامةٍ باهتة كأنما أُخذ متلبّسًا بجريمة؟ كأنما كان يزوّر نقودًا زائفة، أو يكتب قصائد مملة ليبعث بها إلى مجلةٍ هزيلة تحت اسمٍ مستعار، زاعمًا أن الشاعر قد مات، وأنه وريثه الوحيد؟!"

"قولي لي، ناستنكا، لمَ تكون الأحاديث بينه وبين زائره ثقيلة، عسيرة؟! لمَ لا يُسمع ضحك؟ لمَ لا تنساب الكلمات كما ينبغي؟ زائره، الذي عادةً ما يكون شخصًا لطيفًا، ظريفًا، كثير النكت، يصبح أمامه متحفّظًا، متردّدًا، يتهته كأنما فُقدت منه اللغة، في حين يحاول صاحب المنزل المسكين أن يُحيي الأجواء، فيُضحك، ويروي النوادر، ويثرثر عن النساء، بكل ما أوتي من تكلّف... حتى ليبدو كمن يُنعش سمكة أُلقيت على اليابسة!"

"ولمَ، فجأة، ينهض الضيف كمن تذكّر أمرًا عاجلًا، يخطف قبعته ويغادر على عجل، يحرّر يده من مصافحة مضيفه، الذي يحاول — بلهفةٍ كسيرة — أن يُمسك بها، أن يُصلح ما أفسدته اللحظة؟ ولمَ، حين يغلق الضيف الباب خلفه، يضحك في سرّه ويقسم ألا يعود أبدًا؟ وإن اعترف في خلده بأن هذا الغريب رجلٌ طيب، فإن خياله لا يكفّ عن تشبيهه بذلك القطّ المسكين، الذي اختطفه الصبية، وعبثوا به، وألقوه مرعوبًا مهيضًا في ركنٍ مُعتم، فظلّ هناك، ينفش فراءه، وينظف وجهه المذعور بمخالبه المرتجفة، ثم ينظر إلى الحياة بعينٍ شاردة فيها كرهٌ لا يُوصف... حتى وإن قُدّم له طبق بقايا طعامٍ من يد خادمةٍ عطوف؟"

قاطعتني ناستنكا، وقد كانت طوال حديثي تحدّق بي، فاغرة الفم، متّسعة العينين، مدهوشة كمن سقط في حلمٍ لا يدري له مخرجًا، ثم قالت:

"مهلًا، مهلًا! ما هذا

الذي تقوله؟! لا أعلم لمَ تسألني كل هذه الأسئلة العجيبة، ولكن... ما أعلمه يقينًا، هو أن هذه الحكاية تبدو وكأنها قد وقعت لك، أنت، بحذافيرها!

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/11 · 3 مشاهدة · 1144 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025