▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

"لا شك في ذلك!" أجبتها بوجه يملؤه الوقار والجدّ.

"حسنٌ، ما دام لا شك فيه، فتابع حديثك"، قالت ناستنكا، "فأنا مشتاقةٌ جدًّا لأعرف كيف سينتهي الأمر."

"أتريدين أن تعرفي، ناستنكا، ما الذي فعله بطلنا، أي أنا – إذ إن بطل هذه القصة لم يكن سوى شخصي المتواضع – في زاويته المنزوية؟ أتريدين أن تعرفي لِمَ ضعتُ وتشتتُ طوال اليوم لمجرّد زيارةٍ مفاجئة من أحد الأصدقاء؟ أتريدين أن تعرفي لماذا ارتبكتُ، ولماذا احمرّ وجهي حين فُتح باب غرفتي، ولماذا عجزتُ عن استقبال الزائر كما ينبغي، وكأنني كنت أُطحن تحت ثقل ضيافتي؟"

"نعم، نعم، هذا هو المهم! اسمع... أنت تصف الأمور بطريقة رائعة، ولكن... ألا يمكنك أن تصفها بأسلوبٍ أقل روعةً قليلاً؟ إنك تتحدث وكأنك تقرأ من كتاب."

"ناستنكا"، أجبتها بنبرة جدية فيها وقار لا يخلو من لعبٍ خفيّ، وقد أوشكت على الضحك، "ناستنكا العزيزة، أعلم أنني أصف وصفًا بديعًا، لكن، اعذريني، فإني لا أجيد غير ذلك. في هذه اللحظة، ناستنكا، أشعر كأني روح الملك سليمان وقد خرجت من جرّته بعد أن ظلّت مختومةً بأختام سبعة آلاف عام، وفُتحت الأختام جميعًا فجأة. في هذه اللحظة، حين التقينا أخيرًا بعد فُرقةٍ طويلة – لأنني، ناستنكا، أعرفك منذ زمن بعيد، إذ كنت أبحث عن شخصٍ ما منذ دهور، وهذا وحده دليل على أنكِ أنت من كنت أبحث عنها، وقد قُدّر لنا أن نلتقي الآن – في هذه اللحظة، انفتحت ألف صمّامة في رأسي، ويجب أن أفيض بالكلام وإلا اختنقت! لذا أرجوك، لا تقاطعيني، بل أنصتي في طواعيةٍ وخشوع... وإلا سأسكت."

"لا، لا! أبدًا، لن أقاطعك. تكلّم!"

"سأتابع إذًا. هناك، يا ناستنكا العزيزة، ساعةٌ واحدة في يومي أحبّها حبًّا جمًّا. إنها الساعة التي تُطوى فيها دفاتر الأعمال، وتُقفل الأبواب، ويبدأ الناس في التوافد إلى بيوتهم للعشاء، وللراحة، وللأحلام، وكلٌّ ينشغل في طريقه بأفكار عن المساء، عن الليل، عمّا سيفعل في ساعاته الحرّة. في تلك الساعة، كان بطلنا – اسمحي لي أن أروي القصة بصيغة الغائب، لأن الحديث عن النفس بصيغة المتكلم قد يُشعر المرء بخجل فظيع – في تلك الساعة، كان بطلنا الذي كان يؤدي عمله هو الآخر، يسير وسط أولئك الناس. ولكن، كانت هناك بهجة غريبة قد استولت على وجهه الشاحب قليلًا، المبعثر الملامح."

"لم يكن يتأمل الغسق المتوهّج الذي بدأ يخفت في سماء بطرسبورغ الباردة بلامبالاة. لا، إن قلت إنه كان ينظر، فأنا أكذب، لأنه لم يكن ينظر حقًّا، بل يرى دون وعي، كما لو أن روحه مشغولةٌ بشيء آخر، بشيء داخليّ أقرب إليه من مشهد السماء. كان مسرورًا، لأنه تحرّر مؤقتًا من عمله الممل، وسعيدًا كطفل خرج لتوه من الصف إلى ساحة اللعب والضجيج."

"انظري إليه، ناستنكا؛ ستدركين من النظرة الأولى أن عاطفة الفرح هذه قد أثّرت على أعصابه الضعيفة وخياله المضطرب. تظنين أنه يفكّر بالعشاء؟ أو المساء؟ هل ترينه يتأمّل ذلك الرجل الوقور الذي ينحني بأناقة نحو السيدة التي تمرّ بعربتها الفاخرة تجرّها الخيول الراقصة؟ كلا، ناستنكا! كل هذه التفاهات لا تعنيه الآن. لقد أصبح غنيًّا، غنيًّا بحياته الداخليّة؛ لقد أصبح فجأة غنيًّا بمشاعره، ولهذا لم يكن غروب الشمس المتلاشي يلمع أمامه عبثًا، بل كان يوقظ في قلبه الدافئ سربًا من الصور والانفعالات."

"الآن، بالكاد يلاحظ الطريق، ذلك الطريق الذي كانت أدقّ تفاصيله تُثيره في أوقات أخرى. الآن، ها هي عاهلة الخيال (إن كنتِ قد قرأتِ لژوكوفسكي، يا ناستنكا العزيزة)، قد بسطتْ بنسجها الذهبي خيوطًا سحرية، وراحت تنسج على هذا النول رؤى من عالمٍ آخر. ومن يدري؟ ربما قد رفعته يدها إلى السماء البلورية السابعة، بعيدًا عن رصيف الجرانيت الصلب الذي كان يسير عليه منذ لحظات."

"جربي الآن أن توقفيه، واسأليه فجأة: أين هو الآن؟ عبر أيّ الشوارع يسير؟ لن يتذكّر شيئًا، لا أين هو، ولا أين كان، وسيحمرّ وجهه من الخجل، وربما يكذب ليحفظ ماء وجهه."

"لذلك، حين تقف عجوزٌ محترمة أمامه فجأة في منتصف الرصيف، وتطلب منه أن يدلّها على الطريق، يرتجف من الرعب، ويصرخ تقريبًا، وينظر حوله في ذعر. ثم يمضي في طريقه عابسًا، بالكاد يلاحظ أن أكثر من عابر سبيل قد تبسّم وهو يلتفت إليه، وأن طفلة صغيرة، ابتعدت مذعورة عنه، ثم انفجرت ضاحكة وهي تحدّق في ابتسامته السابحة وتلويحاته في الهواء. ولكن الخيال، في طيرانه الطفولي، يخطف العجوز، والمتفرجين، والطفلة الضاحكة، وحتى الفلاحين..."

كان أولئك القوم يقضون لياليهم في قواربهم الراسية على ضفاف نهر فونتانكا، ولنُسلِّم – مجازًا – أنّ بطلنا في تلك اللحظة كان يسير الهوينى بمحاذاة القناة، حالمَ البصر، شارِدَ الخاطر، ينسج في ذهنه عالماً غريب الأطوار، حيث تتشابك الأرواح والأشياء في شبكة من الخيال، كذبابة حائرة في نسيج عنكبوت.

ثم لا يلبث هذا الغريب العجيب أن يعود إلى جحره الدافئ، محمّلاً بما اقتنصه من صور وأطياف ليغذّي بها خياله، فيجلس إلى مائدته، ويتناول عشاؤه في هدوءٍ وسكون، لا يكاد يشعر أنه أكل، حتى إذا ما فرغ، وجاءت ماترونا – خادمته المخلصة الحزينة بطبعها – فرفعت الصحون وقدّمت له غليونه، أفاق من غفوته، كأنما بعث من نوم، وتملّكته الدهشة إذ تذكّر أنه قد تناول طعامه، مع أنه لا يعي كيف تمّ ذلك، ولا متى.

وكان الليل قد أرخى سدوله على الغرفة، فاستولى عليه شعور بالحزن الخافت، والفراغ العميق. فإذا بمملكة خيالاته تنهار، كقصرٍ من دخان، تتلاشى بلا أثر، بلا صوت، تنحلّ كأنها حلمٌ عابر، لا يكاد يتذكر منه شيئاً. ومع ذلك، يخفق قلبه خفقة خفية، تنبض فيها رغبة جديدة، لذيدة، تغوي مخيلته وتثيرها، فتنبثق منها رؤى طازجة، كالسحاب المضيء بعد العاصفة.

في الغرفة الصغيرة يسود السكون، وتُروى المخيّلة بالعزلة والخمول، فتهدأ، ثم تتوهج فجأة، كما تتصاعد أبخرة الماء الذي تعدّ به ماترونا قهوتها في المطبخ المجاور، بخطى خافتة.

ثم، فجأة، تتفجر تلك المخيلة ثانية. الكتاب الذي التقطه من غير اهتمام يسقط من يده قبل أن يبلغ الصفحة الثالثة، إذ تبدأ رؤى جديدة، حياة جديدة، عالم آخر من السحر والافتتان يتفتح أمامه كأنه مرآة عجائبية.

حلم جديد، وسعادة جديدة! اندفاع جديد من ذلك السمّ اللذيذ! وما شأن الحياة الحقيقية في نظره؟ هو، بعينيه المنغمستين في الخيال، يرى أننا – أنا وأنتِ يا ناستينكا – نحيا حياة رتيبة، بطيئة، باهتة. في نظره، نحن جميعًا نعيش في سخط، ونرزح تحت أثقال الحياة الكالحة!

فلا عجب إذن إن رقّ قلبه لنا، وقال في سرّه: "يا للمساكين!"

وحقًّا له أن يقول ذلك! أنظري كيف ترتسم في ذهنه أطياف عجيبة، تتراقص حوله في لوحة حية من صنع خياله، هو بطلها الأوحد في صدرها، يتقدمها شامخًا، منتفخ الأنا.

كم من مغامرةٍ مرسومة، كم من حلم طافح بالنشوة!

تسألين: "بماذا يحلم؟"

وأنا أقول: "بكل شيء!"

يحلم...

يحلم بمصير شاعرٍ منسيّ، تتقاذفه ظلال الإهمال، ثم تكلّله الأقدار بأكاليل الغار، وتمنحه التاج الذي أبطأت عنه يد الاعتراف...

يحلم بصداقةٍ غريبة الأطوار، تنعقد بينه وبين هوفمان — ذاك الرائي الممسوس — في ليالٍ من السُكر، والموسيقى، والهذيان الحلو.

يحلم بمذبحة سان بارثولوميو، حيث يضطرب الهواء بأنفاس الهاربين، وتعلو السماء بصرخات من أُزهقت أرواحهم ظلمًا، وتتلطّخ الحجارة بدماء الأبرياء.

يحلم بديانا فيرنون — روحًا عصيّة، جامحة، لا تقبل القيد — تخرج من كتب سكوت وتعدو بين أحلامه.

يحلم بمواقف بطولية، وسط أتون معركة قازان، تحت رايات إيفان الرهيب، حيث النار والسيف والحُمّى تتعانق في هديرٍ قاتم.

يحلم بمهجته: كلارا موبرى، تلك الطلعة التي لا تُنسى، ذلك الاسم الذي يوقظ رعشة في قلبه كما توقظ الأغاني القديمة الذكريات الغافية.

بـ إيفي دينز، الطيف الذي مرّ في عينيه مرّ النسيم، ثم توارى كما يتوارى الغيم في صيفٍ جاف.

بـ يان هُس، واقفًا بشجاعة أمام مجمع الأساقفة، ناظرًا في عيونهم، متحديًا جمر الحقيقة المحرقة.

بـ قيامة الأموات في "روبرت الشيطان"... أما تذكرين الموسيقى؟ تلك التي تعبق برائحة القبور، كأنها أنين الصخور في ليل المقابر...

يحلم بـ مِنة وبريندا، رمزين للحبّ المنسيّ والحنين الصامت.

بـ معركة بيريزينا، حيث يذوب الجليد تحت أقدام الجنود، وتُدفن الأحلام في الثلج.

بأن يُلقي قصيدةً ترتجف بين شفتيه، في صالون الكونتيسة ڤي. د، تحت نظرات دامعة، وابتسامات مواربة.

يحلم بدانطون، يقف على منصته، والدم يغلي في عروقه، يُجاهر بالحقّ قبل أن تسكته المقصلة.

بكليوباترا، وعشاقها الذين ذابوا في عطرها، واحترقوا في لهب عينيها.

ببيتٍ صغير في كولومنا، ساكن، خفيض الصوت، تملأه رائحة الخبز، ورنين الخطوات فوق خشبٍ قديم.

يحلم بمنزلٍ يملكه، ليس فخمًا ولا شاهقًا، بل بيتٌ دافئ، تتردّد فيه الضحكات، وتُضاء فيه المصابيح في أمسيات الشتاء.

هناك...

تجلس حبيبتة إلى جانبه، تصغي، تصمت، تفتح فمها الصغير بدهشة، وعينيها العسليتين بانبهار، تمامًا كما تفعلين الآن...

يا ملاكي.

آه يا ناستينكا! ما الذي تبقّى له في هذه الحياة التي نتوق إليها أنا وأنتِ بكل جوارحنا؟

لا شيء!

يرى أنّها حياة شاحبة، لا تستحق أن تُعاش! لا يعلم أن ساعة الفقد قد تدق يومًا، فيُعطي – عن طيب خاطر – كلّ سنوات أحلامه في سبيل يومٍ واحدٍ من هذه الحياة الحقيرة، لا طلبًا للفرح أو السعادة، بل ليستبدل بها وجعًا صافياً، وألمًا نقيًّا، وندمًا لا رادّ له.

لكن، لم تأتِ تلك الساعة بعد. إنه لا يرغب في شيء، لأنه فوق الرغبات! لأنه يمتلك كل شيء! لأنه مكتفٍ بنفسه، لأنه فنّان حياته، يصوغها كل ساعة كما يشتهي، وفق آخر نزواته.

وهل تعلمين؟ هذا العالم الساحر الذي ينسجه من خياله يبدو في لحظاتٍ كأنه ليس وهماً، بل حقيقة ملموسة!

يؤمن في لحظاتٍ بأنّ ما يراه ليس انفعالًا، ليس سرابًا، ليس خدعة عقل، بل حقيقة حية!

فلماذا يا ناستينكا؟ لماذا في تلك اللحظات يكتم المرء أنفاسه؟

بأيّ سحرٍ، بأيّ عبثٍ، بأيّ لغزٍ، يخفق قلبه، وتترقرق الدمعة في عينه، وتحمرّ وجنتاه، ويتوهّج كيانه كله بذلك الإحساس الغامر بالعزاء العذب؟

ولماذا تمرّ ليالٍ بأكملها بلا نوم، كأنّها ومضة فرح لا تنضب، حتى إذا طلع الفجر متوردًا خلف النافذة، وانبثّ نور الصباح الحالم في الغرفة الكئيبة كضوء غامض في بطرسبرغ، يهوى حالمنا المرهق على سريره، منهكًا، وتغمره لذّة عجيبة، لذّة حلوة موجعة تسكن قلبه المتعب!

نعم يا ناستينكا، يخدع المرء نفسه، ويؤمن من غير وعي بأنّ شغفًا حقيقيًا يلهب روحه، بأنّ شيئًا حيًا يتجلّى في أحلامه المجرّدة!

وهل هي خدعة؟

انظري إليه، إلى ذلك الحبّ المختلِط في صدره بكل لذائذه العذبة وعذاباته الأليمة!

أكنتِ تصدقين، يا ناستينكا، أن من أحبّها لم يرها قطّ؟

أيمكن أن تكون كل تلك المشاعر رؤى خلابة في عالم الأحلام؟

لكن، أما عاشا سويًّا، يدًا بيد، طيلة سنين، وقد نسيا العالم، وذوّبا وجوديهما في بعضهما؟

أما كان فراقهما مشهدًا دامعًا، وهي ملقاة على صدره تنتحب تحت سماء عاصفة، لا تبالي بالريح التي تخطف دمعتها من أهدابها السوداء؟

أكان ذلك كلّه حُلُماً؟

وذلك البُستان المهجور، الكئيب، المكسوّ بالطحالب، الذي كانا يتنزهان فيه ذات يوم، يضحكان، يأملان، يحزنان، يحبان؟

وتلك الدار القديمة الغريبة التي قضت فيها حبيبته أعوامها، في وحدةٍ قاتمة، مع زوجٍ كالح، صامت، غاضب، كان يرعبهما، فيخفيان حبّهما عنه كما الأطفال؟

كم تألّما!

كم ارتجفا رُعبًا!

كم كان حبّهما نقيًّا طاهرًا!

وكم كان الناس، يا ناستينكا، لئامًا شريرين!

ثم، ألا تظنين أنه لقيها من جديد، بعيدًا عن الوطن، في بلاد الشمس، في تلك المدينة الخالدة المتلألئة، في بهاءٍ لا يُحَدّ، وسط حفلة راقصة، تحت ضوء قصرٍ غامر بالأنوار، على شرفةٍ مكسوة بالورد والغار، حيث أبصرتْه، فنزعت القناع، وهمست: "أنا حرّة!"، وألقت نفسها بين ذراعيه مرتجفة، وصرخت بنشوة، ثم انمحى كلّ شيء: الفراق، العذاب، الدار الكئيبة، الزوج العجوز، البستان الحزين، والمقعد الذي ضمّها لآخر قبلة قبل أن تنتزع نفسها من أحضانه المرتجفة باليأس...

آه يا ناستينكا! ألا تظنين أن المرء في مثل هذا الحال يرتبك، ويحمرّ كفتى صغير دسّ في جيبه تفاحة سرقها من بستان الجيران، حين يُفتح الباب فجأة، ويدخل أحد الأصحاب، طويل، فارع، مرح، يهتف بلا اكتراث:

"يا صاحبي العزيز! لقد عدت تَوًّا من باڤلوفسك!"

يا للعجب! لقد مات الكونت العجوز... والسعادة العظمى على بُعد خُطوة... ثم يجيء الناس من باڤلوفسك!

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/11 · 2 مشاهدة · 1814 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025