▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

وما إن أنهيت مناشدتي البائسة، حتى خيّم عليّ صمتٌ بائس. كنت أشعر برغبة جامحة أن أضحك قسرًا، لأُخفي اضطرابي، إذ شعرت أن شيطانًا خبيثًا بدأ يتحرك في أعماقي، وأن غصة تختنق في حلقي، وارتجافةً تمسك بذقني، وعيناي تغرقان في رذاذ من الدمع لا يكاد يُكتم.

كنت أتوقع من ناستينكا، التي كانت تنصت إليّ بعينين متألقتين بالدهشة والذكاء، أن تنفجر ضاحكة بضحكتها الطفولية العذبة، تلك التي لا تقوى على كتمانها. وبدأت أندم — آه، كيف ندمت! — لأنني أفرغت ما طالما احتدم في قلبي، ما كنت أستطيع الحديث عنه كما لو كنت أقرأ من صحيفة قديمة، فقد كنت قد أصدرت الحكم على نفسي منذ زمن، وها أنا أتلوه من جديد، لا طمعًا في فهمٍ، بل اعترافًا لا مفر منه.

لكن، ويا للعجب، لم تضحك... بل ظلت ساكنة، ثم ضغطت على يدي برفق، وقالت، بصوتٍ خافت يتهدّج بالعطف:

"أيعقل أنك عشت حياتك كلّها على هذا النحو؟"

"طوال حياتي، يا ناستينكا، كلّها... ويبدو لي أنني سأظل كذلك حتى النهاية."

"لا... لا يجوز هذا!" قالت بقلق، "هذا لا يصح! لعلني سأقضي حياتي كلّها إلى جانب جدّتي، ولكن لا، لا ينبغي أن يعيش أحد على هذا النحو."

"أعلم، ناستينكا، أعلم!" صرخت، وقد طفحت مشاعري فلم أعد أقوى على كتمانها، "الآن فقط، أشعر بذلك بكل جوارحي! أدرك أنني قد بدّدت أجمل سنوات عمري هدرًا! واليوم، اليوم فقط، أعلم هذا بوضوح، لأن القدر قد أرسلني إليكِ، يا ملاكي الطيّب، لتقولي لي هذه الكلمات وتُظهريها لي! أن أجلس إلى جانبك، وأحدّثك، فأفكّر في المستقبل... لهو أمرٌ غريب... لأن المستقبل لا يحمل لي إلا الوحدة من جديد، والحياة العفنة العقيمة ذاتها... فبماذا أحلم بعد أن عرفت السعادة حقًا إلى جوارك؟! آه، بوركتي، أيتها الفتاة العزيزة، لأنكِ لم تنفّري مني في أول لقاء، ولأنكِ مَنحتني، ولو لليلتين فقط، طَعم الحياة!"

"لا، لا!" صاحت ناستينكا، وقد تلألأت الدموع في عينيها، "لا يمكن أن ننتهي على هذا النحو! ليلتان فقط؟ ماذا تساويان؟ هذا لا يكفي، لا!"

"آه يا ناستينكا، يا ناستينكا! هل تدرين كم جعلتني أتصالح مع نفسي؟ هل تعلمين أنني لن أحتقر نفسي كما كنت أفعل في بعض لحظات انكساري؟ هل تدرين، ربما، أنني سأتوقّف عن الأسى على هذا الجُرم، على هذه الخطيئة التي هي حياتي؟ لأن هكذا حياة، يا ناستينكا، لهي جريمة، وخطيئة، وخزي!"

"لا تظني، أرجوكِ، أنني أبالغ — لا، بحقكِ، لا تظني ذلك. فثمّة أوقات تهبّ عليّ فيها كآبة مروّعة... أوقاتٌ أشعر فيها أنني غير قادر على أن أبدأ حياةً حقيقية؛ إذ يبدو لي أنني فقدت كل اتصالٍ بالحياة الواقعية، كلّ حسّ بها. وقد بلغت بي الحال أنني لعنتُ نفسي. فبعد لياليّ المليئة بالأوهام، تصحوني لحظاتٌ من صَحو مرير، لحظات مروعة!"

"وفي الوقت نفسه، أسمع دويّ الحياة من حولي، حركتها وضجيجها. أرى الناس يعيشون في الواقع، لا تُحرم عليهم الحياة كما حرمت عليّ، لا تفلت من أيديهم كالحلم، لا تتبخّر مثل رؤيا. أراهم يُجدّدون أيامهم، شبابهم لا ينضب، لا تشبه ساعةٌ من أعمارهم الأخرى، بينما خيالي أنا... واهٍ، عقيم، مملّ حدّ الابتذال، تافه، خاضع لظلاله، لعباراته، عبد لأول سحابة تحجب الشمس، فيُظلم بها قلبي البيطرسبورغي المحبّ للنور. وقل لي، ما قيمة الخيال حين يكون كئيباً؟!"

"يخيل إليّ أن هذا الخيال العاتي قد أنهك أخيرًا، واهترأ من فرط ما أنهكته! فقد بلغتُ رجولتي، وودّعتُ أوهامي القديمة... شُظاياها تفتت إلى غبار. وإن لم تكن هناك حياة أخرى، فعليّ أن أبنيها من هذا الغبار!"

"غير أنّ الروح، يا ناستينكا، تظلّ تنشد شيئًا آخر! ويحاول الحالم عبثًا أن ينبش رماد أحلامه القديمة، يبحث عن شرارة... شرارة صغيرة يشعل بها لهيبًا من جديد، يدفئ قلبه المثلوج، يُعيد إليه ما كان يومًا حلوًا، مؤلمًا، مجيدًا... ما خدعه بجماله الكاذب."

"هل تعلمين يا ناستينكا إلى أين وصلتُ؟ لقد بتّ أحتفل بذكرى مشاعري... أُحيي ذكرى ما لم يوجد أصلًا! أُقيم طقوسًا في الذاكرة لما كان حُلمًا، لا أكثر، حُلمًا تلاشى ولم يبقَ منه شيء — حتى الأحلام يا ناستينكا، لا تأتي مجانًا!"

"أتعلمين أنني أحبّ أن أزور، في تواريخ بعينها، الأماكن التي كنت فيها سعيدًا على طريقتي؟ أحبّ أن أشيّد حاضري على أطلال ماضٍ لا رجعة له، وغالبًا ما أتنقّل كظلٍّ هائم، لا هدف له، حزينًا، من شارع إلى زقاق في بطرسبورغ."

"يا لها من ذكريات...! أن أتذكّر مثلًا أنني كنت قبل عام، في نفس هذا الوقت، على نفس الرصيف، أتسكّع وحيدًا، حزينًا، تمامًا كما أنا اليوم. وأتذكّر أن أحلامي آنذاك كانت كئيبة، وأن حياتي لم تكن أفضل، لكنها، لسبب ما، تبدو لي أطيب. أشعر أنها كانت أهدأ، خالية من تلك الأفكار السوداء التي تلتهمني الآن، ومن تأنيب الضمير القاتم، الذي لا يهدأ نهارًا ولا ليلًا."

"فأطرح على نفسي السؤال: أين ذهبت أحلامك؟ وأهز رأسي، قائلاً: ما أسرع ما تنقضي السنوات! ثم أعود لأسأل: ماذا صنعتُ بسنواتي؟ أين دفنتُ أجمل أيامي؟ هل عشتَ حقًا؟ أنظر حولي وأقول: كيف برد العالم! وستمرّ سنوات أخرى، ثم يأتي الفراغ، وتزحف الشيخوخة على عكازها، ثم الفقر، والوحدة. وسيبهت عالمك الخيالي، وتذبل أحلامك كما تذبل الأوراق الصفراء حين تسقط من الغصون... آه يا ناستينكا! ما أشدّ الحزن أن تُترك وحيدًا، بلا شيء، بلا حتى ما تندم عليه! لا شيء... لا شيء أبدًا، لأن كلّ ما خسرته كان لا شيء، هراءً محضًا، لم يكن في حياتك إلا الأحلام!"

فقالت ناستينكا، تمسح دمعة انسابت على خدّها:

"كفى، كفى، لا تُحرّك مشاعري أكثر من ذلك! الآن انتهى الأمر! من هذه اللحظة، سنكون معًا. ومهما يحدث، فلن نفترق. اسمع، أنا فتاة بسيطة، لستُ متعلّمة كثيرًا، وإن كانت جدّتي قد أحضرت لي معلمة. لكن، صدّقني، لقد فهمتك. لأنني مررتُ بكل ما وصفته، حين كانت جدّتي تشدّني بثوبها. ما كنت لأصفه بهذه البلاغة، فأنا لا أملك البيان مثلك..."، قالتها بخجل، إذ ما زالت تهاب أسلوبي المتأنّق وحزني المؤثر.

"لكنني سعيدة لأنك كنت صريحًا معي إلى هذا الحد. الآن أعرفك كلّك، من الداخل والخارج. وأتعلم ماذا؟ أريد أن أحكي لك قصتي أيضًا، من دون أن أخفي عنك شيئًا... وبعد ذلك، عليك أن تنصحني. أنت رجل ذكي... أتعدني بذلك؟"

"آه، ناستينكا!" صرخت، "مع أنني لم أنصح أحدًا في حياتي قط، بل لم أعطِ يومًا نصيحة عاقلة، إلا أنني أرى الآن، إن ظللنا نتحدّث هكذا، أننا سنكون عاقلين جدًا، وأننا سنغدق على بعضنا الكثير من النصائح الصائبة! والآن، يا ناستينكا الجميلة، ما هي النصيحة التي ترجينها مني؟ قوليها بصراحة... فأنا في هذه اللحظة، سعيد وجريء وحكيم إلى حدٍّ يجعلني أجد الكلمات بسهولة!"

"لا، لا!" قاطعتني ناستينكا ضاحكة، "لا أريد نصيحة عاقلة فحسب، بل أريد نصيحة دافئة، أخوية، كما لو كنت تحبني منذ ولدت!"

"اتفقنا، ناستينكا، اتفقنا!" قلت بفرح، "ولو كنت أحببتك منذ عشرين عامًا، ما أحببتك أكثر مما أحبك الآن."

قالت وهي تمد يدها:

"ناولني يدك."

فأجبتها وأنا أضع كفي في كفّها:

"ها هي، خذيها."

"إذًا، لنبدأ قصتي!"

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/11 · 3 مشاهدة · 1069 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025