▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

قصةُ ناستينكا

قالت:

"أنت تعلم نصف حكايتي، أعني أنك تعلم أن لي جدّةً عجوزًا..."

فقاطعتُها ضاحكًا:

"إن كان النصف الآخر بمثل هذا الإيجاز..."

فقالت مبتسمة في رقةٍ فيها شيء من العتاب:

"صهٍ عن مقاطعة الحديث، وأنصت لي مليًّا؛ فلربما اختلطتُ إن شُوِّشتُ عليّ. هيا، أنصت بسكون."

ثم ابتدأت حديثها:

"إن لي جدّةً طاعنة في السنّ، آلت إليَّ رعايتها وأنا بعدُ طفلةٌ صغيرة، إذ كان أبواي قد انتقلا إلى رحمة الله. ويُخيَّل إليّ أنّ جدّتي كانت من ذي قبل ذات يسار، فهي لا تزال تذكر أيام عزّها، وتتحسّر على ما انقضى. علّمتني الفرنسية، ثم استأجرت لي معلمة، فلما بلغت الخامسة عشرة، (وقد أتممت الآن السابعة عشرة) انقطعنا عن الدروس."

"وفي تلك السنّ، أوغلتُ في بعض العبث، ولا تسأل عمّا صنعتُه، فما كان أمرًا ذا خطر، ولكنّه أغضب جدّتي. ذات صباح، نادتني، وكانت قد فقدت بصرها، وقالت: (ما دمتُ لا أبصر، فلا طاقة لي بمراقبتكِ)، ثم تناولت دبوسًا، وثبّتت طرف ثوبي بطرف ثوبها، وقالت بلهجتها المهيبة: (سنجلس هكذا إلى آخر العمر، إلا إن أصلحتِ من شأنكِ!)."

"في البدء، لم يكن لي من سبيل إلى الإفلات منها؛ كنتُ أقرأ وأخيط وأكتب إلى جوارها، ملازمةً لها لا أغادر. مرّةً، حاولتُ أن أخدعها، فأقنعت فَيكْلا — خادمتنا الصمّاء — أن تجلس مكاني، إذ كانت جدّتي نائمة في مقعدها، وذهبتُ لزيارة صديقة قريبة. غير أنّ الأمر لم يَسْلم: فقد استفاقت جدّتي وسألت عني، وظنّتني لا أزال في مكاني ساكنة، لكنّ فَيكْلا، لفرط صممها، لم تفقه سؤالها، فتحيّرت، ثم نزعت الدبوس وولّت هاربة!"

وفي هذا الموضع من الحديث، انطلقت ناستينكا في ضحكة عذبة، فضحكتُ معها، لكنها ما لبثت أن كفّت وقالت:

"إياك والسخرية من جدّتي! أما أنا فأضحك لأن الموقف طريف... وأي حيلة لي وجدّتي على ما هي عليه؟! ومع ذلك، فإنني أحبّها على طريقتها. أوه، لقد كان عقابي يومها شديدًا! جلستُ في مكاني فورًا، ومنذ ذلك اليوم لم يُسمح لي بالحِراك."

"أوه، نسيت أن أقول لك إنّ بيتنا ملكٌ لنا، أعني لجدّتي، وهو بيتٌ خشبيٌّ صغير، فيه ثلاث نوافذ قديمة كقِدمها، وله علِّيّة صغيرة. وقد سكن في هذه العليّة مؤجّر جديد..."

قلت، كمن يتقصّى:

"أيعني ذلك أنكم كنتم تأوون مؤجِّرًا قديمًا؟"

فأجابت ضاحكة:

"بلى، وكان أقلّ كلامًا منك! بل لعلّه لم يتكلّم قط؛ كان شيخًا خَرِفًا، أصمّ، أعمى، أعرج، يابسَ البدن، حتى أدركه الموت، فلم نجد بدًّا من استبداله، إذ لا قوام لحياتنا بغير الإيجار؛ فما معاش جدّتي إلا يسير، ومعه نأكل ونعيش."

"ولسوء الحظّ، جاء المؤجّر الجديد فتىً شابًا، غريبًا عن أهل البلد، ولم يُساوم على الأجرة، فرضيت به جدّتي. ثم سألتني بعدئذ: (قولي لي، ناستينكا، كيف هذا المؤجّر؟ أهو فتىً أم شيخ؟) فلم أحبّ أن أكذب، فقلت لها: (لا هو فتىً تمامًا، ولا هو شيخ)."

فقالت:

"(وهل هو وسيم؟)"

فأجبتها ثانية في صدق:

"(نعم، جميل الطلعة، يا جدّتي.)"

فتنهّدت وقالت:

"(يا للمصيبة! يا للبلاء! بالله عليكِ يا حفيدتي، إيّاكِ أن تخدميه! ما هذه الأزمنة الرديئة! كان الأمر في أيّامنا غير هذا، أما الآن فحتى المؤجّر ينبغي أن يكون وسيمًا!)"

ثم تابعت ناستينكا:

"كانت جدّتي لا تكفّ عن الحنين إلى الأيام الخوالي؛ كانت ترى أنّ الشمس أدفأ آنذاك، وأنّ القشدة كانت أطْيب، وأنّ الدهر كان ألطف، كأنما الشباب لا يغادر الإنسان إلا بأيامه، لا بجسده."

"كنتُ أجلس مطرقةً، أعدّ غرز خيوطي، وأقول لنفسي: لماذا سألتني عن جماله؟ لِمَ أَثارت ذلك في نفسي؟ ثم أعاود حياكة جوربي، وأنسى الأمر برمّته."

"وذات صباح، دخل المؤجّر إلى مجلسنا، وسأل عن وعدٍ قطعته له جدّتي بأن نُجدّد له ورق جدرانه. فدار الكلام، وطال الحديث، وكانت جدّتي ثرثارة، فقالت لي: (اذهبي، ناستينكا، إلى غرفتي، وأحضري لي دفتر الحساب)."

"فوثبتُ من مكاني في حماس، وخجلت خجلًا شديدًا لا أعلم سببه، ونسيت أنني لا أزال مُثبّتة إلى ثوبها. كان ينبغي أن أفكّ الدبوس بهدوء حتى لا يلحظ المؤجّر شيئًا، لكنني في لهفتي حرّكت كرسيّ جدّتي! وحين علمتُ أنه قد عرف أمري، أحمرّ وجهي، وتجمّدت في مكاني كمن أصابته رصاصة، ثم انفجرت باكية. خجلتُ خجلًا مرًّا، كأن الأرض ضاقت بي! نادتني جدّتي: (ما بالكِ؟ لمَ لا تتحركين؟) فازددتُ اضطرابًا. وعندئذ، لما رأى المؤجّر ما حلّ بي، وكيف احمرّ وجهي من حيائه، انحنى في أدب، وانصرف فورًا."

قالت:

"منذ تلك الحادثة، صرتُ أرتجف لأهون صوتٍ في الرّواق. وكنتُ لا أفتأ أقول في نفسي: 'ذاك هو المؤجّر!' فأسرع في فكّ الدبّوس خفيةً، كأنما أتهيّأ للفرار. لكنه لم يكن هو قط... لم يأتِ، ولا مرّة. ومضت على ذلك حالٌ من الزمن، حتى أرسلت فَيَكْلا تقول إنه يملك عددًا كبيرًا من الكتب الفرنسية، وكلّها، كما قال، كتبٌ طيّبة نافعة، فلعله يحسن أن أقرأها لئلا يصيبني الملل. جدّتي قبلت شاكرة، غير أنها لم تكفّ عن السؤال: (هل هي كتب أخلاقية؟ لأنك تعلمين، إن كانت غير ذلك، فحرام قراءتها، إذ إن الشرّ فيها يتعلّم)."

"فقلت لها: (ولكن، يا جدّتي، وما الذي قد أتعلمه منها؟ وماذا كُتب فيها؟)"

"قالت: (آه، ما يُكتب فيها — في هذه الكتب — هو كيف يخدع الفتيانُ الفتياتِ العفيفات. يغرونهنّ بالزواج، ويخطفونهنّ من بيوت آبائهنّ، ثم يرمونهنّ بعد ذلك بين مخالب القدر، فيذبلن بأبشع ميتة! قرأتُ الكثير من هذه الكتب، وقد كُتب فيها الأمرُ بمهارة، حتى لا ينام القارئ من الحماسة! فاحذري يا ناستينكا، لا تقرئيها! قولي لي، أيّ كتبٍ أرسل؟)"

"قلت: (كلّها روايات لوالتر سكوت، يا جدّتي.)"

قالت في حذرٍ:

"(والتر سكوت؟ هيه، لعلّها حيلة! تفقدي الكتب جيدًا، ألا تظنين أنه دسّ فيها رسالة حب؟)"

"قلت لها: (كلا، يا جدّتي، لا رسالة فيها)."

قالت:

"(لكن تفقدي تحت التجليد! أحيانًا يخفونها هناك، أولئك الأوغاد!)"

"فقلت لها: (فتشتُ تحت الغلاف، ولم أجد شيئًا)."

قالت:

"(حسنًا، لا بأس إذن)."

"وبدأنا نقرأ روايات والتر سكوت، وفي غضون شهر كنّا قد فرغنا من نصفها تقريبًا. ثم أخذ يرسل إلينا المزيد، حتى أرسل لنا أشعار بوشكين. فأصبحتُ لا أطيق البقاء بغير كتاب، وتركت أحلامي القديمة عن الزواج من أمير صينيّ."

"وهكذا كانت الحال، إلى أن صادفتُ المؤجّر على السلّم ذات يوم. كانت جدّتي قد أرسلتني لأبتاع شيئًا، فتوقف، واحمرّ وجهي، واحمرّ وجهه، ثم ضحك وقال لي صباح الخير، وسأل عن صحّة جدّتي، ثم قال: (أفقرأتِ الكتب؟) فأجبته بأنني فعلت. فقال: (وأيّها أحببتِ أكثر؟) فقلت: (رواية إيفنهو، وأحببت بوشكين أكثر من الجميع). ثم افترقنا في تلك المرة."

"وبعد أسبوع، لقيتُه ثانيةً على السلّم. ولم تكن جدّتي قد أرسلتني هذه المرّة، بل خرجتُ لحاجةٍ لي. وكان الوقت قد تجاوز الثانية، وهو وقت عودته المعتاد. قال لي: (مساء الخير)، فرددتُ التحيّة."

"ثم قال فجأة: (ألا تملّين من الجلوس إلى جدّتكِ طَوال النهار؟)"

"فما إن قالها، حتى خجلتُ، ولا أعلم لمَ خجلت... شعرت بالمهانة، بل وربما بالضيق، فقد بدأ الناس يسألونني مثل هذا السؤال. أردت أن أبتعد دون جواب، لكنني لم أقدر."

"فقال لي: (اسمعي، أنتِ فتاة طيّبة. أعذريني على صراحتي، ولكنني أقسم أنني أرجو لك الخير، كما ترجوه لك جدّتك. ألا صديقة لكِ تذهبين إليها أحيانًا؟)"

"فأخبرتُه أنه ليست لي صديقات، وأن ماشينكا، صديقتي الوحيدة، قد رحلت إلى بسكوف."

"فقال: (هل تودّين أن تذهبي إلى المسرح معي؟)"

"فقلت: (إلى المسرح؟ وماذا عن جدّتي؟)"

قال:

"(لا بُدّ أن تذهبي دون أن تعلم.)"

"فقلت: (كلا، لا أريد أن أخدع جدّتي... وداعًا.)"

"قال: (وداعًا)، ولم يزد على ذلك شيئًا."

"لكن بعد الغداء، أقبل إلى مجلسنا، وجلس طويلاً يُحادث جدّتي، وسألها إن كانت تخرج من بيتها، وإن كان لها معارف. ثم قال فجأة: (لقد حجزتُ لنفسي مقعدًا في الأوبرا هذا المساء. تُعرض أوبرا حلاق إشبيلية. كان أصدقائي سيحضرون، لكنهم اعتذروا، فبقيت التذكرة بلا صاحب)."

"صرخت جدّتي وقالت: (حلاق إشبيلية؟ أليس هذا هو المسرح الذي كانوا يؤدّونه في أيّامنا؟)"

فقال المؤجّر، ناظرًا إليّ نظرةً لها ما بعدها:

"(نعم، هو الحلاق نفسه)."

"ولما رأيت نظرته تلك، احمرّ وجهي، وخفق قلبي بشدةٍ من الفرحة الممزوجة بالترقّب."

قالت جدّتي:

"(يا سلام! أنا أعرفه. بل لقد أديتُ دور روزينا فيه ذات مرّة، في عرض خاص!)"

فقال المؤجّر:

"(فما رأيكِ أن نحضر الليلة؟ وإلا ضاعت التذكرة سُدًى)."

فأجابت جدّتي:

"(ولِمَ لا؟ هيا بنا. ثم إن ناستينكا لم تذهب قط إلى المسرح!)"

"يا لها من فرحة! أسرعنا نتجهّز، ارتدينا أحسن ثيابنا، وانطلقنا. وجدّتي، وإن كانت عمياء، إلا أنّها أرادت أن تسمع الموسيقى، وهي نفسٌ طيّبة، أكثر ما يسعدها أن تُسعدني. ما كنّا لنذهب لولاها."

"أما ما شعرتُ به وأنا أشاهد حلاق إشبيلية، فلن أحدثك به؛ لكنني سأقول إن المؤجّر قضى تلك الليلة يُحدّثني بلطف، ويُحدّق إليّ بنظرة لم أرَ مثلها، وعرفت حينها أنه لم يكن جادًّا في عرضه الصباحي، بل أراد أن يختبرني فحسب. وكانت ليلةً سعيدة! نمتُ وأنا أرتجف من الفرح، وقلبي يخفق، وحُمّاي خفيفة، ورحتُ أهذي في نومي بأغاني الأوبرا."

"ظننتُ أنه سيكثر من زياراته بعد ذلك، لكن الأمر كان على خلاف ظني؛ فقد كاد ينقطع عنّا، ولم يعد يأتي إلا مرّة كل شهر، يكتفي بدعوتنا للمسرح. حضرنا معه عرضين بعد ذلك، لكنني ما كنتُ راضية عن هذا... أدركتُ أنه إنما يُشفق عليّ لأنني سجينة رعاية جدّتي، لا أكثر."

"شيئًا فشيئًا، ما عدت أستطيع البقاء ساكنة، ولا القراءة ولا العمل. أضحك تارةً وأزعج جدّتي، ثم أبكي بلا سبب. هزل جسدي، وشارفت على المرض. وحين انتهى موسم الأوبرا، انقطع المؤجّر تمامًا عن زيارتنا. وإذا ما التقينا — على نفس السلّم — كان يُلقي التحيّة بصمتٍ، بوجهٍ صارم، وكأنّه لا يودّ الحديث، ويهبط إلى الباب الأمامي، وأظل أنا واقفةً وسط الدرج، محمرّة الوجه كحبة كرز، إذ يشتعل الدم في وجنتيّ كلما رأيته."

"ثم دنت النهاية... قبل عامٍ من اليوم، في شهر أيّار، أتى المؤجّر إلى بيتنا، وأخبر جدّتي أن أعماله قد انتهت، وأنه لا بدّ أن يعود إلى موسكو لعامٍ كامل

. وما إن سمعتُ ذلك حتى جلستُ على الكرسيّ وكأنّني أُغشى عليّ. لم تلحظ جدّتي شيئًا، أما هو، فسلّم علينا في أدب، ثم مضى."

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/12 · 4 مشاهدة · 1522 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025