▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ

ترجمة: Arisu san

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

قالت، وقد خفضت صوتها وهمست بهمسٍ يختلط بالرجاء والاضطراب:

"وماذا عساي أن أفعل؟ فكّرت، ثم حزنت، ثم فكّرت، ثم احترق صدري غمًّا. وأخيرًا عزمتُ أمري. كان موعد سفره في اليوم التالي، فعاهدت نفسي أن أُنهي الأمر تلك الليلة، إذا ما نامت جدّتي. وذاك ما حدث."

"ضممتُ ثيابي في صُرّة صغيرة، بما أحتاجه من كتانٍ ومئزر، وحملتها بيدٍ مرتجفة، وأنا كالميتة، وصعدتُ إلى علّيّتنا حيث يسكن المؤجّر. لا أكاد أذكر كم من الوقت لبثتُ واقفةً على الدرج، أظنها ساعةً بأكملها. وعندما فتحتُ الباب، صرخ حين رآني، وظنّ أنني شبح، ثم أسرع يأتيني بماءٍ لما رأى أنني بالكاد أستطيع الوقوف. كان قلبي يخفق خفقةً مروّعة، حتى أصاب رأسي الدوار، ولم أعد أعلم ماذا أفعل."

"ولما استعدتُ بعضًا من نفسي، وضعتُ الصرّة فوق سريره، وجلستُ بجوارها، ودفنتُ وجهي في كفّي، ثم انفجرتُ باكية، دموعًا متدفقة لا قرار لها. أظنّه فهم كلّ شيء من اللحظة الأولى، فقد نظر إليّ بحزنٍ يمزّق القلب."

ثم قال لي بصوتٍ ملؤه الرفق:

"اسمعيني يا ناستينكا، اسمعيني يا طيّبة القلب: لا أملك لكِ شيئًا، فأنا رجلٌ فقيرٌ، لا مكانة لي، ولا منصب يليق، ولا مال يكفينا. كيف يمكن أن نحيا لو تزوّجتكِ؟"

"طال بيننا الحديث، لكنني في النهاية ما عدتُ أملك نفسي، وصرخت: لا أطيق الحياة مع جدّتي بعد الآن! سأهرب منها، لا أريد أن أُعلّق بثوبها إلى الأبد! سأذهب إلى موسكو، إن أردتَ، فلستُ قادرةً على العيش من دونك. كان في قلبي مزيج من العار والكبرياء والحب، حتى سقطتُ على الفراش شبه مغمًى عليّ، أرتجف خوفًا من الرفض، كأن روحي ستزهق من رعب الانتظار."

"لبث صامتًا دقائق، ثم نهض، واقترب، وأخذ بيدي، وقال لي بلطفٍ لا يُنسى:

'يا ناستينكا، يا طيّبة، أقسم لكِ: إن قدّر الله لي أن أستقيم، وأن أبلغ من أمري مبلغًا يتيح لي الزواج، فلن تكوني إلا سعادتي. صدّقيني، ما من إنسانة سواكِ تستطيع أن تمنحني الفرح. سأسافر إلى موسكو، وسأمكث عامًا واحدًا هناك، فإن عدتُ، وكنتِ لا تزالين على حبكِ لي، أقسم أننا سنكون سعيدين. أمّا الآن، فلا أستطيع، ولا يجوز لي أن أعدك بشيء. وإن لم يكن بعد عام، فسيكون بعدها، إلا إذا اخترتِ غيري، فلستُ أملك أن أقيّدك بوعد.'"

"قال كلماته هذه، وفي الغد رحل. واتّفقنا معًا على ألا نُخبر جدّتي بشيء، وقد كان ذلك برغبته. وهكذا أوشكت قصّتي أن تبلغ نهايتها... قد مضى عامٌ كامل. وقد عاد، نعم، لقد عاد، وها هو هنا منذ ثلاثة أيام... و— و—"

"و—؟!" صرختُ أنا، ولهفتي على السماع لا تُحتمل.

فقالت، كأنّها تستجمع شجاعتها بصعوبة:

"لم يأتِ! لم يُظهر نفسه! لا خبر، ولا صوت، ولا ظل!"

ثم سكتت لحظة، ثم انحنت فجأة، وغطّت وجهها بيديها، وانفجرت في بكاءٍ مرير، شهقاتها تتردد كطعنةٍ في قلبي، فما كنتُ أتوقّع خاتمةً كهذه، قط!

فهمستُ لها، متلطّفًا بصوتٍ رقيق:

"ناستينكا، ناستينكا! بالله عليكِ لا تبكي! ومن يدري؟ لعلّه لم يصل بعد..."

قالت بصوتٍ مُصِرّ:

"بل وصل، بل وصل! أعلم ذلك... أتذكر حين حدّثتك عن تلك الليلة، يوم خرجنا معًا إلى الضفة، بعد أن اتفقنا على كلّ شيء؟ كانت الساعة العاشرة، وجلسنا على هذا المقعد بالذات. كنتُ آنذاك سعيدة، لم أبكِ، فقد كان في حديثه ما يُنعش الروح... لقد قال لي إنه ما إن يصل، سيأتي إلينا فورًا، وإن قبلتُه، نُطلع جدّتي على كل شيء. وها هو قد عاد، أعلم هذا، لكنه لا يأتي!"

ثم عاودت البكاء، بكاءً صادقًا يعصر القلب.

فوثبتُ من مكاني، أصرخ كالمجنون:

"يا إلهي! أليس في وسعي أن أفعل شيئًا لأُخفّف عنكِ؟ ناستينكا، قولي لي، أما من سبيل أن أذهب إليه؟"

رفعت رأسها فجأة وقالت:

"أيمكن ذلك؟"

"لا، بالطبع لا!" قلت، وقد أدركني التهوّر، "لكن فكّرت، لِم لا تكتبين له رسالة؟"

قالت في حزم، دون أن تنظر إليّ:

"لا، هذا مستحيل. لا أقدر."

"ولِم مستحيل؟" قلت بإصرار. "الأمر يعتمد على نوع الرسالة... ناستينكا، صدقيني، أنا لا أقدّم لكِ نصيحةً خائبة. لقد اتخذتِ الخطوة الأولى، فلِم لا تتابعين؟"

قالت وقد احمرّ خدّاها خجلًا:

"لا أستطيع... أشعر أنني سأبدو كأنني أفرض نفسي عليه."

فقلت لها مبتسمًا، لا أكاد أُخفي نشوتي:

"ناستينكا الطيّبة، لا، بل لكِ الحقّ كله! لقد أعطاك وعدًا، ولم يُسيء التصرف. بل أظنّه رجلًا كريمًا، ذو شعور مرهف. ألم يقل: إن تزوّجتُ، فلن أتزوج سواكِ؟ وقد أعطاكِ الحرية، لم يُقيّدكِ! في مثل هذه الحالة، لكِ أن تكتبي، حتى لو كان لتُخلي سبيله من الوعد، إن أردتِ."

فقالت فجأة:

"وكيف تكتب أنت؟"

قلت:

"أكتب هكذا: 'سيدي العزيز'..."

فقالت في تردد:

"'سيدي العزيز'؟ أحقًا أبدأ هكذا؟"

"لا بدّ من ذلك. أو على الأقل، هذا ما أظنه..."

قالت:

"وماذا بعد ذلك؟"

فأجبت:

"'سيدي العزيز، أكتب إليك، فاعذرني على عجزي عن الصبر. لقد عشت عامًا بأسره في سعادة الأمل، فهل يُلام القلب إن ضاق بيومٍ من الشك؟ إن كنتَ قد عدتَ، فربما تغيّر قلبك. وإن كان الأمر كذلك، فهذه السطور لا تحمل لوماً، بل تسامحًا. لن ألومك، لأنني أعلم أنني لا أملك قلبك، وهذا قدري.'

'أعلم أنك رجل شريف، لن تبتسم سخرية، ولن تغضب من هذه الكلمات المشتاقة. تذكّر أنها من فتاة مسكينة، لا سند لها، لا من يرشدها، ولا من يُسدي لها النصح، وقلبها ليس بيدها. فاغفر لي لحظةَ شكّ تسلّلت إلى قلبي دون استئذان، رغم يقيني بأنك لا يمكن أن تهين، ولو بالفكر، من أحبّتك بصدق.'"

وما إن أنهيتُ، حتى هتفت ناستينكا، ووجهها يشعّ من البهجة:

"نعم! نعم! هذا ما كنتُ أفكّر فيه! لقد حللتَ معضلتي! إنك هدية الله إليّ! أشكرك، أشكرك!"

قلت، وأنا أنظر إلى بهجتها وقد سُحر بها قلبي:

"وعلى ماذا تشكرين؟ على أنّي أتيت؟"

قالت مبتسمة:

"نعم، على ذلك أيضًا."

فهمستُ بشوق:

"آه، ناستينكا! إن الناس يشكرون الله على أن يُولدوا في زمنٍ واحد مع أناسٍ مثلهم... وأنا أحمد الله أن التقيتكِ، لأذكركِ ما حييت."

قالت:

"كفى، كفى! والآن، اسمع: كنّا قد اتفقنا أن يُرسل إليّ رسالةً، يضعها عند أناسٍ طيبين لا يعرفون شيئًا عن قصّتنا، أو إن لم يستطع، أن يأتي إلى هنا، في الساعة العاشرة، في اليوم الذي يصل فيه. أعلم أنه قد عاد، وها قد مرّت ثلاثة أيام، لا رسالة، ولا ظلّ له. ولا أستطيع التخلّص من جدّتي صباحًا... خذ هذه الرسالة غدًا، وناولها أولئك الطيبين، وهم سيوصلونها إليه. وإن وصلك الرد، فاحضره إليّ غدًا في تمام العاشرة."

فقلت متعجّبًا:

"لكن، والرسالة؟ لا بد أن تُكتب أولًا! لعلنا نضطرّ لتأجيل الأمر إلى ما بعد غد..."

قالت، وقد بدت عليها الحيرة:

"الرسالة... نعم، لكن..."

ثم صمتت فجأة. وأدارت وجهها الصغير عني، وقد احمرّ كورد الربيع، ثم أحسست فجأة بورقةٍ دُسّت في كفّي، مختومة مُعدّة منذ زمن بعيد. فابتسمت، وطفا على قلبي ذكرى حلوة.

فقلت، وشفتيّ تنطقان كمن يُهجّي كلمة من الحب:

"ر... رو... س...ي...نا..."

فنطقنا معًا:

"روزينا!"

كأنما غنّيناها، لا لفظناها. ضحكت ناستينكا بين دموعها، ووجنتاها تورّدت كأنّهما شفق المساء، وبكيتُ معها من الفرح.

قالت بسرعةٍ ولهفة، والفرح يكاد يقفز من صوتها:

"هيا، كفى، كفى الآن! وداعًا، إلى اللقاء!"

ثم دفعت إليّ بالرسالة قائلةً:

"هاك الرسالة، وهاك العنوان الذي ينبغي أن تُسلِّمها إليه. وداعًا، نلتقي غدًا! إلى الغد، إلى الغد!"

ثم قبضت على يديّ بكلتا يديها بحرارةٍ وصدق، وأومأت برأسها، وانطلقت كالسهم في الزقاق الجانبي، تتلاشى خطواتها سريعًا.

أما أنا، فلبثتُ واقفًا مكاني، أتابعها بنظري زمنًا، وكأن عيني لا تقوى على فراقها.

وكان صدى كلماتها لا يزال يرنّ في أذنيّ كأنها نشيدٌ عذب:

"إلى الغد! إلى الغد!"

حتى اختفت عن ناظري، وظلّت عبارتها تتردّد في أعماقي، كأنّ قلبي نفسه يردّدها معها.

▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬

2025/07/13 · 2 مشاهدة · 1169 كلمة
Arisu san
نادي الروايات - 2025