▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
اللَّهُم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَن أَشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
ترجمة: Arisu san
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬
الليلة الثالثة
كان هذا اليوم كئيبًا، ماطرًا، تغشاه غلالة رمادية لا شمس فيها ولا بهجة، كشيخوخةٍ تلوح من بعيد، كأنها مصيري المحتوم.
تثقلني خواطرٌ غريبة، ومشاعر مظلمة تعصف بي؛ أسئلةٌ غامضة تدهم ذهني ازدحامًا، ولا قوة لي أو إرادة لحسمها. كأنّ الأمر قد فُرض عليّ، ولا شأن لي بالفصل فيه.
اليوم لن نلتقي.
فقد افترقنا بالأمس، ولمّا هممنا بالوداع، تلبّد الأفق بالغيوم، ونهض الضباب من الأرض صاعدًا إلى السماء. قلت لها: "غدًا سيكون يومًا عابسًا."
فلم تُجب، كأنها تأبى أن تعارض قلبها، فاليوم عندها مشرقٌ، لا غيمة تعكر فرحته، ولا قطرة مطر تفسد صفوه.
قالت: "إن أمطرت، فلن نلتقي. لن آتي."
ظننت أنها لن تُبالي بمطر هذا اليوم، لكنها… لم تأتِ.
كان لقاؤنا الثالث، ليلتنا البيضاء الثالثة…
آهٍ، ما أعجب ما تصنع السعادة بالمرء!
كيف يفيض قلبه بالمحبة، كيف يتوهّج صدره رغبةً في أن يُسعد كل من حوله، أن يُضحك العالم بأسره!
كانت كلماتها بالأمس رقيقةً ندية، دافئةً بالود، مفعمةً بعاطفةٍ لا تشوبها ريبة. كانت حنونة، عطوفة، تبذل جهدًا رقيقًا لتمنحني شيئًا من الطمأنينة.
آهٍ، دلال السعادة… كم هو خادع!
أما أنا… فأيّ سذاجةٍ أصابتني؟! حسبت أن كل ما قالت، وكل ما فعلت، صادقٌ مخلص، بل خُيّل إليّ أنها… أنها تحبني.
يا إلهي، كيف خُدِعت؟ كيف أغفلني قلبي عن أن كل شيءٍ فيها قد أُعطي لغيري، أن لا شيء منها لي؟! حتى رقّتها، ومودتها، وعطفها… كانت، في حقيقتها، فرحًا بقرب لقائها به، سعادةً أرادت أن تشملني بها، لا لشيءٍ إلا لأنها كانت سعيدة.
وحين تأخر عنها، حين انتظرناه عبثًا، تغيّر وجهها. ذبل بريق عينيها، خفت صوت ضحكتها، وتهدلت كلماتها. لكنّها، ويا للعجب، ازدادت حنانًا عليّ، كأنها – بدافعٍ لا واعٍ – تمنحني ما كانت تترقبه لنفسها، فإن لم تنله هي، فلا أقل من أن تبذله لقلبي.
كانت ناستينكا منكسرة، مضطربة، وأخالها أدركت أني أحبّها… بل ورثَت لحبّي المسكين حزنًا من نوعٍ آخر.
فما أشقانا نحن التعساء! إننا نُبصر بؤس الآخرين بحدّةٍ أشد، فنشعر به كما لو كان عائدًا إلينا. الإحساس لا يفنى، بل يتركّز ويتعمق…
ذهبتُ للقائها وقلبِي ممتلئٌ شوقًا، مفعمٌ بالرجاء. لم يكن يخطر ببالي أن ينتهي بي الحال إلى هذا الوجع، إلى هذه الخيبة.
كانت مشرقة الوجه، تنتظر بشغف، تنتظر جوابًا… وكان الجواب: حضوره! أن يأتي، أن يُسرع إلى ندائها.
سبقتني إلى المكان بساعةٍ كاملة. في البداية، كانت تضحك من كل شيء، كل كلماتي بدَت لها مسلية. بدأت الحديث، لكنّني ما لبثت أن سكنتُ في صمتٍ طويل.
قالت فجأة:
"أتدري لم أنا سعيدة اليوم؟ لم أحبّ النظر إليك؟ لم أشعر أنك قريبٌ إلى نفسي؟"
قلتُ، وقلبِي يطرق طرقًا:
"قولي لي."
قالت:
"أحبك لأنك لم تقع في حبّي! أتعلم؟ بعض الرجال لو كانوا مكانك لضيّقوا عليّ، لملأوا الجو بالأنين، أمّا أنت… فأنت جميل!"
ثم ضغطت يدي بقوةٍ حتى كدت أصرخ، وضحكت!
ثم عادت وقالت في وقار:
"يا له من صديقٍ أنت! كأن الله أرسلَك لي. ماذا كنت سأفعل لولاك؟ كم أنت نقي، كم تهتمّ لأجلي! حين أتزوج، سنظل أصدقاء، بل أكثر من إخوة… سأحبّك حبًا لا يقل كثيرًا عن حبّي له!"
في تلك اللحظة، تسلل الحزن إلى صدري كخنجرٍ بارد، ومع ذلك، خالطته رغبةٌ بالبكاء، وربما الضحك...
قلتُ لها:
"أنتِ قلقة، تُخفي ذلك، وتخشين ألا يأتي، أليس كذلك؟"
فقالت:
"آه، لو كنتُ أقل سعادة، لبكيتُ من كلامك، من عدم إيمانك به، من عتابك لي! لكنك جعلتني أفكر، سأفكر لاحقًا، أمّا الآن… فأنا أقرّ أنك على حق. نعم، لستُ على طبيعتي، قلبي يتقلّب، وكل شيءٍ أشعر به كأنّه ضوء خاطف… لكن دعنا نكفّ عن المشاعر الآن…"
وما إن أنهت جملتها، حتى سمعنا وقع خطوات، ورأينا في الظلمة شبحًا مقبلًا نحونا…
ارتعدنا معًا، كادت تصرخ، أما أنا ففلتّ يدها وتحركت مبتعدًا، لكننا أخطأنا الظن، لم يكن هو.
قالت، وقد ناولتني يدها من جديد:
"ممَ تخاف؟ لم تركتَ يدي؟ تعالَ، ماذا بك؟ سنلقاه سويًّا، أريد منه أن يرى كم نحبّ بعضنا!"
فصحتُ في قلبي:
"كم نحبّ بعضنا!"
آه يا ناستينكا، كم قلتِ في هذه الكلمة!
إنّ هذا "الحب" الذي تُطلقين عليه اسم المودّة، يُثلج القلب ويُثقل الروح. يدكِ باردة، ويدي كجمرةٍ تحرقني…
كم أنتِ عمياء، ناستينكا!
آه، ما أشدّ ما تكون السعادة مؤلمة حين لا تكون لنا!
لكن… كيف لي أن أغضب منكِ؟
وحين طفح قلبي، لم أعد قادرًا على كتمانه، فقلت:
"ناستينكا! أتدرين كيف كان يومي؟"
قالت، ولهفتها تسبق كلماتها:
"كيف؟ قل لي، لمَ صمتَّ كل هذا الوقت؟"
قلت:
"أولًا، لما فرغتُ من كل ما أمرتِني به، وأعطيتُ الرسالة، وزرتُ أصحابكِ الطيبين… عدتُ إلى البيت، ثم نمت."
فقاطعتني ضاحكة:
"أهذا كل ما في الأمر؟"
قلت، أكبح دموعًا أخذت تتسرب إلى عيني:
"نعم… أو يكاد. صحوتُ قبل موعدنا بساعة، لكن… لم يكن نومًا، بل كأن الزمن توقف. كأن شعورًا واحدًا استبدّ بي وسكن في قلبي للأبد، كأن دقيقةً واحدة امتدّت إلى الأبد، كأن الحياة توقفت عند لحظة… وحين فتحتُ عيني، خُيّل إليّ أن نغمةً موسيقية سمعتها في ماضٍ بعيد قد عادت إليّ، حلوةً، رقيقة، منسية… وكأنها كانت تطرق قلبي طوال عمري، ولم أدركها إلا الآن..."
فقاطعَتني ناستينكا قائلة:
"يا إلهي! ما كل هذا؟ لا أفهم كلمة مما تقول!"
"آه يا ناستينكا، كنت أودّ، بطريقةٍ ما، أن أنقل إليكِ ذلك الانطباع العجيب..."
بدأتُ أتكلم بنبرةٍ حزينةٍ واهنة، تختبئ بين طيّاتها بقيةُ رجاء، وإن كان خافتًا، شاحبًا كظلّ أمنية تموت.
لكنها قاطعتني قائلة:
"كفّ، صه!"
وفي لحظةٍ واحدة، أدركت الماكرة ما في نفسي.
ثم ما لبثت أن تغيّرت فجأة؛ أضحت ثرثارةً، مرحة، لعوبًا، تمسك بذراعي، تضحك وتحثّني على الضحك، وكل كلمةٍ متعثّرةٍ خرجت منّي، كانت تُقابلها بضحكةٍ طويلةٍ ترنّ في الفضاء كجرسٍ يجلجل.
بدأ الغضب يعتلج في نفسي، فقد شعرت أنها تلاعبني، تداعبني بخفةٍ لا تليق بموضع الجرح.
قالت، وهي تبتسم بمكر:
"أتدري؟ يُغضبني قليلًا أنك لا تحبّني! ما أعجب النفس البشرية! ومع ذلك، أيها السيد الصعب المنال، لا تلمني على بساطتي؛ أنا أُحدّثك بكل ما يجول بخاطري، بكل هفوةٍ أو فكرةٍ مجنونة."
قلت، وأنا أسمع دقات الجرس البعيد تتوالى:
"أنصتي... هذه الحادية عشرة، أليس كذلك؟"
فتوقفت فجأة عن الضحك، وأخذت تعدّ الضربات، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ متردّد:
"نعم، إنها الحادية عشرة."
وفي تلك اللحظة، عضضتُ شفتي ندمًا، إذ أشفقتُ من أن أكون قد خوّفتها، وجعلتها تُحصي الزمن كمن يرقب انهيار الأمل.
لعنت نفسي على اندفاعي، وأحسست بالحزن من أجلها، ولا أدري كيف أُكفّر عن قسوتي.
شرعت أواسيها، وأصطنع المبررات لغيابه، أسوق الاحتمالات، أختلق الحجج والأعذار.
ويا له من قلبٍ يسهل خداعه ساعةَ اليأس! فإن المرء، إذا مسّه الهم، يُنصت لأي بصيص رجاء، ويتعلّق بأي خيطٍ من تعزية.
قلت، وقد حمّستني حججي، وأخذت أعجب ببراعتي في تسويغ الغياب:
"بل الأمر واضح، لم يكن بوسعه أن يأتي! لقد أوقعتِني في حيرة، يا ناستينكا، حتى أنا فقدتُ الإحساس بالزمن... فكّري قليلًا: لعلّه لم يتسلّم الرسالة بعد، أو أنه عاجزٌ عن المجيء الليلة، وربما يردّ عليكِ غدًا، ويأتي مع الفجر. سأذهب بنفسي عند أول خيط نور، وأوافيك بالخبر فورًا. هناك آلاف الأسباب؛ لعلّه لم يكن في داره حين وصلت الرسالة، أو ربما لم يقرأها بعد... كل شيءٍ ممكن، أليس كذلك؟"
قالت:
"نعم، نعم! لم يخطر لي هذا... بالطبع، كل شيءٍ ممكن،"
لكن صوتها ما كان مطمئنًا، بل فيه رجعٌ خافت لفكرةٍ أخرى، كانت تُنازع عقلها من بعيد.
ثم أضافت:
"أُوصيك أن تذهب في أبكر وقت غدًا، وإن جاءك شيء، أخبرني حالًا. أنت تعرف منزلي، أليس كذلك؟"
وأخذت تكرّر عليّ عنوانها.
ثم تغيّر وجهها فجأة، وصارت أكثر رقة، أكثر قربًا، تستمع إليّ باهتمام، لكن لما سألتها سؤالًا، صمتت، واضطربت، وأشاحت بوجهها.
نظرت في عينيها... أجل، كانت تبكي.
قالت، وهي تحاول أن تخفي دمعتها:
"كيف تفعل هذا؟! ما هذا الدلال الطفولي؟... آه، كم أنت طفل!"
وحاولت أن تبتسم، أن تسترد رباطة جأشها، لكن ذقنها كان يرتجف، وصدرها يعلو ويهبط من البكاء.
ثم قالت بعد لحظة صمت:
"كنت أفكّر بك… أنت طيبٌ جدًا، حتى إنني أكون من حجرٍ إن لم أشعر بذلك.
أتدري ما خطر لي الآن؟ كنت أقارن بينكما. لمَ لا يكون هو أنت؟ هو ليس طيبًا مثلك، ومع ذلك... أنا أحبه أكثر منك."
لم أُجب، لكنها كانت تنتظر جوابًا.
ثم تابعت، وكأنها تعتذر أو تبرر:
"ربما… ربما لم أفهمه بعد حقًّا. لطالما خفتُه قليلًا، فقد كان دومًا جادًّا، كأنما فيه شيءٌ من الكبرياء.
وأنا أعلم أن هذا مجرد مظهر… أعلم أن في قلبه من الرقة أكثر مما في قلبي.
أتذكر حين دخلت عليه ومعي متاعي؟ نظراته تلك... لا أنساها.
ومع هذا، أشعر أنني أحترمه أكثر مما أحبّه… أليس هذا دليلًا على أننا لسنا على قدم المساواة؟"
قلت لها بهدوء:
"لا، يا ناستينكا، بل هو دليلٌ على أنك تحبّينه أكثر من أي شيءٍ في العالم، بل أكثر من نفسك."
قالت، ببساطةٍ كأنها طفلة:
"لنفترض ذلك.
لكن... أتعلم ما الذي يخطر لي الآن؟ لا أتحدث عنه، بل عن الناس عمومًا…
منذ مدة وأنا أتساءل: لِمَ لا نكون جميعًا كالإخوة؟ لِمَ يُخفي حتى أطيب الناس شيئًا ما في قلبه؟ لِمَ لا يقول المرء ما في صدره صراحةً، حين يعلم أنه لا يتكلم عبثًا؟
فالناس في ظاهرهم أكثر قسوة مما هم عليه في دواخلهم، وكأنهم يخشون أن يظلموا مشاعرهم إن أفصحوا عنها بسرعة!"
قلت، أكتم اضطرابي، وأُقمع مشاعري:
"صدقتِ، يا ناستينكا، لكنّ لذلك أسبابًا كثيرة..."
فقالت، بنبرةٍ ممتلئة بالصدق:
"لا، لا! أنت، مثلًا، لست كغيرك من الناس!
لا أدري كيف أشرح لك ما أشعر به…
لكن أظن أنك، الآن… الآن تحديدًا، تضحي بشيءٍ من أجلي."
ثم نظرت إليّ نظرةً خاطفة مضطربة، وأكملت:
"اعذرني إن قلت هذا، فأنا فتاةٌ بسيطة، لم أرَ الكثير في حياتي، وغالبًا لا أعرف كيف أُعبّر كما يجب..."
ثم ارتعش صوتها، لكنها ابتسمت، وتمتمت:
"كل ما أردت قوله… أنني ممتنّة لك. أشعر بكل شيء…
أدعو الله أن يسعدك كما أسعدتني.
ما قلته لي عن "الحالم" لم يعد ينطبق عليك، لا، لم يعُد.
لقد تغيرت، أنت الآن غير ذلك الرجل الذي وصفتَ لي…
وحين تُحب، وأعلم أنك ستُحب، فأسأل الله أن يمنحك سعادةً كاملة.
لن أتمنى لها شيئًا… فهي ستكون سعيدة بك، يكفيك أنك أنت…
وأنا امرأة، وأفهم ذلك، فصدّقني حين أقولها."
ثم صمتت، وضغطت على يدي بحرارةٍ صادقة.
لم أقدر أن أُجيب، كان في حلقي شيءٌ يخنق الكلام.
مضت دقائق طويلة في سكونٍ مهيب، حتى قالت أخيرًا، وقد رفعت رأسها:
"نعم… يبدو أنه لن يأتي هذه الليلة… لقد تأخّر الوقت."
فقلت بثقةٍ ثابتة:
"سيأتي غدًا."
فأجابت بنبرةٍ لا أثر فيها للحزن:
"نعم… يبدو لي الآن أن الغد هو موعده.
حسنًا، إلى الغد إذًا. وإن أمطرت، فربما لا أجيء…
لكن بعد غد، سأجيء، حتمًا، مهما يكن…
كن هنا، أرجوك… أود أن أراك… سأُخبرك بكل شيء."
ثم، عند الوداع، ناولتني يدها، ونظرت إليّ بعينين صافيتين وقالت:
"سنظلّ معًا… أليس كذلك؟"
آه يا ناستينكا… يا ناستينكا!
لو تعلمين فقط… كم أنا وحيد الآن!
...
ما إن دقّت الساعة التاسعة، حتى ضاق صدري عن البقاء في البيت، فلم أحتمل الجدران، وارتديت ثيابي وخرجت، غير مبالٍ بما كان من سوءِ الطقس.
جلستُ هناك، على مقعدنا المعهود…
ثم مضيتُ إلى شارعها، غير أنني، إذ اقتربت خطوتين من باب دارها، استولى عليّ خجلٌ مباغت، فانكفأت أدراجي، دون أن أُلقي نظرةً واحدةً على نوافذهم.
عدتُ إلى منزلي، أكثر كآبةً مما كنت يومًا، محطمًا كأن قلبي غُمر بمطرٍ داخلي لا ينتهي…
يا له من نهارٍ رطبٍ كئيب!
لو أنّه كان صافيًا، لظللتُ أتمشّى حتى مطلع ال
فجر، أذرع الشوارع كالتائه، أستنشق الألم بدل الهواء.
لكن غدًا…
غدًا ستقصّ عليّ كل شيء، ستُخبرني بكل ما خفي.
الرسالة… لم تصل اليوم، وهذا كان متوقعًا.
▬▬▬ ❃ ◈ ❃ ▬▬▬