وسط الخراب، حيث رائحة الدم وقدارة تختلط بالهواء وأشجار والأرض مدمرة عن أخرها...
ركع اتنان على ركبتيهما، وهما يصارعان للبقاء في وعيهما أمام الحظور الطاغي للكيان أمامهما...
أيتي تقيأت الدم بغزارة، مايكفي لملء دلو به، بينما ارثر تجمد جسده، ورفض التحرك..
بل حتي ذماغه، رفض التفكير...
الإمتثال لأوامره، تلك هي فكرة الوحيدة لديهما...
كل خلية لذيهما تصرخ بخضوع تام...
"البشر السامون، همممم...؟"
جاء صوته العميق، المجلجل، مثل ضربات الطبول في قاع الهاوية. لم يكن بحاجة إلى رفع يده أو إبداء أي حركة، مجرد كلماته وحدها كانت كافية لتثقل الهواء، وكأن الواقع نفسه ينهار تحت وطأة وجوده...
أحكم الظغط عليهما وكأن جبلا عملاقا يسحقهما تحث وزنه...
لم يفعل الملك الهاوية اي شيئ... بعد
مجرد كلامه وجزء بسيط من حظوره كان كافيا لجعل الواقع نفسه يقابل الموت، والآن كيان مثله يقف أمامهما، كان امر اسوء من مقابلة الموت نفسه...
رفع ملك الهاوية نظره كأنه يحدق في الفراغ
"إلي متي تخطط للمشاهدة من خلف...؟"
ضربت موجة من طاقة المكان من كلامه، جعلت تنفسها صعبا كأن الهواء يعاندهما، ويرفض دخول رأتيهما...
لكن، وكأن قوة خفية تحيط بهما، بدأ الهواء يخفّ قليلاً داخل دائرة ضيقة، تمنحهما لحظة من الراحة وسط العذاب."
ومن جسد أرثر خرج دخان أسود...
تجمع مع بعضه ليشكل مايشبه شكلا بشريا، شديد السواد بعيون صفراء حادة كحافة السيف...
نظر الظل لملك الهاوية لعدة تواني، ثم تكلم بنبرة مليأة بالإحترام...
"لقد مرة مدة أيها الملك العظيم..."
لم يتغير تعبير ملك الهاوية، لم يبدُ متفاجئًا ولا غاضبًا، لكنه أيضًا لم يتجاهل ظهوره. نظر إليه مباشرة، بصوت ثابت لا يحمل أي نبرة، وكأن كلماته نُحِتت من الجليد:
"سأسألك مرة واحدة فقط أيها الأسود... لم ماتزال.... حيا...؟"
من وقفته الشامخة لم يبدو وكأن الأسود تأثر بهالة ملك الهاوية...
وبهدوء تحركت عيناه في المكان، وأعاد نظره مجددا نحو أرثر...
"أنا أكمل مهمتي فقط، وعندما أنهيها، سأقتل نفسي لألحق بسيدي وملكي العظيم.."
قال الأسود بنبرة حزينة وكأنه يحاول تذكر شيئ ما، شيء غابر بين طيات الماضي...
سكنت الكلمات في الهواء، تاركة صمتًا ثقيلًا، أشبه بصمت المذنبين قبل النطق بالحكم الأخير.
وكأنهم ينتظرون معرفة مصيرهم... بين الموت، والموت الأسوأ.
"أيها الملك العظيم، بما أنك هنا، يبدو أنك رأيت كل شيئ صحيح...؟ الماضي و الحاضر و المستقبل، وأيضا مصير هاد الصغير..."
لم يتحرك الأسود وعيناه الصفراء مركزة على أرثر، لا بل على الروح التي تتشارك معه الجسد...
الروح التي صنعها سيده وملكه، بيل ..
ثم قال بصوت يحمل قليل من ترجي وتردد..
"أيها الملك العظيم، هل يمكنك إخباري بمصير هاد الصغير..؟..."
حنى الأسود رأسه قليلا بحترام شديد، وعيناع صفراء تتوق الإجابة، وكأن حياته كلها مبنية على ذلك...
علي صمت قاتل المكان، لم يسمع سوي صوت اغصان الأشجار التي تضربها الرياح وتتحرك داهبا وإيابا، صمت بدي وكأنه دهر كامل لكل من أرثر وأيتي، الذان يعانيان تحت حظور ملك هواية...
إنتظر الأسود جوابا ما، كان يريد فقطا جوابا كيف ماكانت طبيعته، إذا كان جيدا فالأمور جيدة، وإذا كان سيئا فعلي الصغير فعل شيئ ما...
لكن، تحول إنتظاره لقلق، عندما خيم الصمت لأكثر من عشر دقائق..
الكائن أمامه كان ينظر بالتأكيد نحو أرثر، لا بل نحو بيل، عيونه التي تبدو كباب لهاوية قادرة على إبتلاع أي شخص، تتفحصه جيدا...
لم يفهم الأسود، مما جعل مخاوفه تتصاعد، وجعله ذاخليا يدرك ما يمكن ان يراه الكائن امامه...
إنحني الأسود ووضع راحة يده على ظهر أرثر، ببتسامة ضعيفة، إبتسامة تخفي خلفها حزنا عميقا وأسا لا حدود له...
"أيها الملك العظيم، شكرا لك..." قال بحترام وإنحنا ضهره قليلا... " هل تريد من هاد الخادم ان يفعل اي شيئ...؟ "
رفعت أيتي نظرها بصعوبة، وهي تمسح بعض الدم من فمها بيدها، رأت تعبير الأسود وفهمت معني إبتسامة...
لكن حتي مع ذلك لم تكن لذيها، القوة ولا الشجاعة لقول أي شيئ، وكيف والكائن أمامها قادر على مسحها من الوجود دون حاجة للحركة ، قبل حتي أن تصل أفكار من دماغها لعضلاتها...
الإنتظار، هو كل ما يمكنها فعله، الإنتظار ذاخل ذلك الظغط، الذي يجعل كل دقيقة تبدو كسنة، مما جعل وقتها هناك يبدو كدهر من زمان...
"مصير ذلك الطفل مثير الإهتمام..."
الصوت البارد لملك الهاوة ضرب في أدانهم، بعمق وكأنه تكلم ذاخل عقولهم مخاطبا، أرواحهم...
رفع الأسود نظره ببطء، وخيط باهت من ضوء أضاء وسط عيونه الصفراء الحادة...
"أيها البشر إفرحو، فخلاصكم قد وصل أخيرا..."
تطاير التراب عن الأرض وإختلط بدم الوحوش متجمع في برك صغيرة، وضرب وجه كل من أيتي وأرثر، بينما توقف العالم للحظة أمامهما...
عيناهما توهجت بضوء خافت، وكأنه الضوء من أخر نفق، وكأنه منارة وسط ظلمة ووحشة المحيط...
تسارعت دقات قلبيهما للحظة، ودماغهما يستقبل تلك الجملة، التي قلبت عالمهما رأسا على عقب...
السعادة، الفرح والشك و عدم التصديق وكثير من مشاعر متناقضة إنبتقت داخلهما كنهر خرج من جبل، لكنهما لم يتجاوزا الخط ليعلنا عن أي شيئ أمام ملك الهاوية، بل لم يجرأ على رفع نظرهما عن الأرض...
"أيها الأسود، الحياة أخد وعطاء، قبل أن تموت أعط ذلك الصغير شيئا مميزا، ومت وأنت مرتاح..."
تلك الجملة كانت هي ما إحتاجه الأسود، هي خط نهايته، وبما انه أخيرا حصل عليها، شعر أخيرا بالتحرر، وكأن سلسلة عملاقة كانت تتبته قد تحطمت أخيرا، ليتحرر ...
وكأن الباب العملاق الذي طرقه كل يوم لسنوات طوال قد فتح له أخيرا، وسمح له بدهاب للجانب الأخر
"سأفعل، أيها الملك العظيم، سأعطيه أفضل هدية يمكنني صنعها..."
بتلك الكلمات حصل ملك الهاوية على نظرة أخيرة على بيل، الروح التي ستغير كل شيئ، الروح التي فقدت كل شيئ وستفقد كل شيئ، الروح الصغيرة التي ستقف أمامه في أحد أيام لتواجهه بتكافء
رأي الملك كل شيئ، الحرب العظيمة التي سيمر منها الطفل، ما سيحدث له، وماسيفعل، وبرأيته لكل ذلك شعر بشيء واحد فقط
الإهتمام، ذلك الصغير بالفعل حصل على إهتمام، كيان جبار وهو ملك الهاوية
'والآن بزوال القطع القديمة، يجب الحصول على قطع جديدة، كافح أيها الصغير، كافح إلا ان تصل للنهاية، للموت مقدر، إلي أن تصل لمكاني... "
كشبح إختفي ملك الهاوية بنفس الطريقة التي ظهر بها، الهواء عاد ليكون خفيفا وحلوا، رغم إختلاطه برائحة الدم، لكنه مايزال أفضل بكثير من الهواء في حظور ملك الهاوية...
تنفست أيتي الصعداء وسقطت على ظهرها وهي تأخد الهواء بجشع، بينما تبتسم...
وبالمثل فعل أرثر، إستند على سيفه وهو جالس على ركبة واحدة، وهو يفكر في كلام الذي ضرب عقله قبل قليل...
"ملكة الجليد، أرتيميسا، بطل البشر، أرثر، أنا الأسود سلاح وخادم الملك الأول، الملك العظيم، سأطلب منكما معروفا..."
حني الأسود ظهره قليلا نحوهما، بينما وضع يدا خلف ضهره وأخري على صدره بحترام وتهديب في لهجته
وقفت أيتي وهي تنظر له بإحترام شديد، ونفس الأمر بالنسبة الأرثر...
كلاهما يعلمان من يكون.. يعلمان حقيقة الأسطورة التي يقف أمامهما...
"الأسود، الليل، انا أيتي سأفعل ما في وسعي لمساعدتك..."
حنت أيتي ضهرها واغلق عيناها بحترام وهي تقدم خدماتها بكل كيانها...
"أنا ارثر إبن إغريس، اود طرح بعض الأسئلة عليك اولا من فضلك..." تعبير أرثر عاد ليكون حازما وعيونه ميتة مع خيط صغير من أمل...
"أرثر، الشخص الذي عانى أكثر من اي شخص بسببنا..." قال الأسود بصوت لا يتجاوز الهمس وبلطف وضع يده على كتف أرثر...
"سيكون من دواعي سروري إجابتك على أسئلتك، لكن الأسف ليس لذينا وقت، سأترك لك كل الأجوبة مع بيل، فعلى ما يبدو سيكون هو الحل لكل شيئ..."
وقف أسود ونظره نحو مكان شينهي، عيناه الصفراء إرتجفت قليلا، وقليل من عاطفة والحزن ظهر ذاخلها...
وبلطف قابل راحة يديه مع بعضهما وكأنه يعتذر ...
"وداعا، أيتها الملكة لقد كان شرفا لي القتال إلي جانبك، أرجو ان تجدي سلام في حياتك أخري..."
صوته كان عميقا ومرتجفا قليلا، لكنه سرعان ما عاد ليكون على طبيعته الهادأة والحادة...
"أيتي، انت و غراي عليكما المغادرة، ماهو قادم يخص بيل و الملكة لوحدهما، وأنت أيضا أرثر..."
أخرجت أيتي زفيرا طويلا وعيناها زرقاء إختفى توهجها للحظة...
'هاد الصغير سيبدء المعانات مجددا من هنا..'
ببطء إرتفعت أيتي عن الأرض ونظرها موجه نحو ارثر...
"أيها الأسود ما الذي سيحدث لهاد الصغير بدأ من الآن...؟"
أيتي كانت قادرة على تخمين ما سيحدث، لكن مع ذلك أرادت إجابة منه، شيئ يمكنه تخفيف مخاوفها او رفع أمالها، خيط بسيط من الأمل...
"لقد قالها ملك الهاوية، هو قادر على رأية أي شيئ، مصائر المخلوقات، ماضي حاضر و المستقبل.." صمت قليلا بينما أعاد نظره نحو الأفق... "يبدو ان بيل سيفعل كل شيئ عجز عنه الذين من قبله، سيكون أفضل حتي من الملك العظيم نفسه..."
وقعت تلك كلمات بشكل قوي وساعق على أيتي كأن كهرباء ضربت جسدها، لكنها لم تشكك فيها، بل تمنت ان تكون حقيقية، بهدوء إستدارت للمغادرة، أعطت الأسود وأرثر بظهرها وبدأت تبتعد نحو مكان الغراي...
رأي الأسود ظهرها، وهي تبتعد بمختلف أفكار دون قول أي شيء، البشر قد عانو الكثير، وشعرو بمختلف أنواع الألم وعداب...
عدم مجادلتها للأسود او دخول معه في مشادة، جعله يبتسم قليلا، لأنها تحملت وتصرفت بمنتهي النظج، هي الآن تفكر في مستقبل وفي ما يمكن لصغير بيل أن يفعله...
بهدوء وصمت إختفت أيتي ومعها إختفي غراي، الإتنان متصلان عن طريق الروح، لذالك هو يشعر بما تشعر به، وما حدث الآن رأه بالكامل، هما الآن إختفيا، وسيقومان بالإنتظار لرأية ما سيحدث...
وقف أرثر ونظره نحو الأسود، اراد بعض الأجوبة لأسئلته، لكنه أدرك أن الكائن لا يملك الوقت او ربما لا يملك المعلومات نفسها...
"أرثر بطل البشر، إلينا عرافة المستقبل، سأقولها لآن، لقد كان شرفا لي تعرف عليكما، لقد كانت حياة صعبة وطويلة، لكن لقد وصلت لأخرها..."
رسمت إبتسامة جميلة، إبتسامة من رضي والفخر على وجه الأسود، وعيناه أضاءت بالحياة، إلينا لم تبتسم لم تقل شيئا نظرة له بعيون متسعة وهي تشعر بمشاعره
مشاعر فرح، وتحرر من سلاسل التي تقيده، بينما أرثر وقف أمامه وغرس سيفه بأرض...
"هل هاد هو الوداع أيها الأسود...؟"
"نعم إنه كذلك، كل شيء مهما كان عظيما او سيئا سيأتي لنهايته..، سبب قدوم ملك هاوية هو إخباره لي بأن وقتي قد حان، حان الوقت للقدماء لتنحي ليظهر الجيل القادم..."
أدار الأسود نظره نحو أرثر...
"كما أن الملك قد رحل، وسيحل بيل مكانه، حان الوقت لي لأرحل أيضا، ليحل محلي شيء أخر..."
تزامنا مع كلامه بدأ الظلام يغلفهم كحاجز صغير، ليبدأ في تقلس ليبتلعهم...
"أنا أثق أنه سيجد الحل أرثر ثق به..."
بتلك الكلمات عاد بيل لسيطرة على الجسد، لكنه لم يكن في منتصف الغابة، بل في وسط بحر أسود عملاق بلا نهاية، ممتد في كل مكان...
"مرحبا بيل، لقد مرت مدة طويلة..."
قال الأسود، وببطء فتح الأخير عينيه السوداء...
إجتاحة موجة باردة جسده وهو يدير نظره في المكان، لم يستعد ذكرياته بعد، ولا يعلم من هو الشخص قربه، مما جعل القليل من خوف وتردد يتسلل لجسده...
"أنا أسف، أنت لم تستعد ذكرياتك بعد، تفضل..."
فرقع الأسود أسابعه وبلحظتها أمسك بيل رأسه وذكرياته تعود واحدة بعد الأخري، كفيضان قوي دون توقف...
معاناته في عالم أخر، عالمه الأصلي كبيل، ومعاناته في هاد العالم الغريب كأرثر، وكل شيء مر به لهاده اللحظة...
تدفقت القليل من دموع من عينيه مختلطة بالقليل من لعابه الذي تساقط بسبب ألم، وبهدوء رفع نظره نحو الشخص أمامه...
" الأسود، ما الذي يحصل هنا...؟، ما الذي تخطط لفعله...؟ "
وقف بيل ببعض الصعوبة، وقليل من الغضب يتسلل لعينيه، وكيف لا، بعد أن تم تلاعب به، ككرة في ملعب كبير...
إبتسم الأسود بضعف ورفع راحة يده...
بدات طاقة غريبة تتجمع امامهما على شكل دائرة صغير، ومنها إنبتق ضوء غريب...
سمع بيل صوتا مألوفا، ومعه ظهرت صورة شينهي التي تقاتل العملاق من مقاعد الست...
"معلمتي..."
إنسابت تلك كلمة من بين شفتيه دون وعي وهو يراها تتصدي وتتلاعب بالعملاق بهدوء...
"بيل، هل ترغب في معرفة الحقيقة...؟"
سأل الأسود بجدية وهو ينظر في عينه...
"أي حقيقة هاده بينهم بالظبط..."
في صميمه كان يدرك ان هناك الكثير من أسرار حول نفسه، لم يعرفها، لم تكن لذيه طريقة ليعرفها...
"حقيقة نفسك بالظبط، من تكون كيف أصبحت في هاد العالم، والأهم لم المعانات هي مصيرك...؟"
ضربت ساعقة من كهرباء جسده من ذلك كلام، أكثر الأشياء التي يريد أن يعلمها، أخيرا وضعت على طاولة ليتم فتحها...
"هل ستخبرني حقا.. ؟"
ظهر القليل من الخوف داخل قلب الصغير، ومعه التردد، لم يكن هناك شيئ مجاني في هاد العالم او أي عالم، لذلك كان مترددا قليلا...
لكن ما أخافه هو كيف ستكون الحقيقة..؟
هل يمكنني تحملها..؟
"بيل أنت هو أعظم روح صنعها سيدي... "
*********
سيداتي وسادتي وأخيرا حان وقت الحقيقة