التقدم في التقنية والعلوم، مذهب التطرف الفكري، تدهور حال الكنائس…إلى آخره، كل تلك العوامل قد تسببت في ضعف السلطة الملكية وتعريضها للذبول بتلة ببتلة.

ريثما تضاعفت أعداد النبلاء الذين ابتاعوا ألقابهم بالمال فوجًا بعد فوج، وازداد الصراع على السلطة والنفوذ بين النبلاء حديثِّي الثراء والنبلاء القدامى.

ضرب عليهم مَثَل العدوين اللذين يقعان على جهتين من عملة واحدة.

شرع النبلاء القدامى يحتجُّون ويهددون بنهب العرش، فما كان من العائلة المالكة سوى أن تمد يد العون لحديثيِّ الثراء وعقد صفقة ربحٍ معهم، ولكن الوصول إلى مبتغاهم لم يكن سهل المنال.

ذلك لاجتماع حزب النبلاء القدامى، مُمسكين بكاحل العائلة الملكية يجرونه و يشتكون بعدم إصغائهم إلى أصوات النبلاء بشكل عادل.

المجتمع الذي يقطن هذا العالم هو أزليٌّ ورثُّ الطباع، فالتصويت الواحد هنا لا يحمل القيمة المعنوية ذاتها، فلم يكن عدد الأصوات أكثر أهمية مِمَّن أدلى بصوته.

لذا توصل النبلاء القدامى لقرارٍ يضع حدًا لنفوذ النبلاء الجدد، ألا وهو

كتابة صك.

سُمِّي بـ 'قانون ردع حديثي الثراء.'، وكان قانونًا يفرض حرمةَ تحوّل ألقابهم أو ارتفاع منازلها.

اعتلى النصر والشموخ محيا النبلاء القدامى.

إن أرادوا وضع هذا القانون في الدستور، فعلى جلالة الملك أن يختم عليه بالختم الملكي، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، أن الختم الملكي قد تلاشى عن الوجود.

كانت مصيبتهم تلك بمثابة حياة أو ممات النبلاء القدامى، لكونها تتمحور حول ذلك الختم، بات بحثهم في شتى بقاع الأرض كالغيلان.

فقد ضاع سلاحهم الخطير الذي كان سيهدد حياة حديثي الثراء ولم يترك لهم أثرًا يتقفونه، وفي وسط المعمعة والنزاعات والمكائد التي نصبها النبلاء القدامى لمنع النبلاء الجدد عن المضي قدمًا وبدأت الأصوات الخافتة بالعلو.

حينها تدخّل أحدهم كالنجمة الساطعة، ألا وهو نواه بوليستيار وينايت.

الدوق نواه وينايت هو الأخ الأصغر للملك الحاكم، كذلك المرشح الأول لتولي مقاليد الحكم من بعده نظرًا لكونهما أخوين حاملين بالدم الملكي.

ورث إدارة آل وينايت التي ظلت تدير العتاد الحربي الأزلية لأجيال وأجيال بصفته ابن ابنة دوق آل وينايت الأول والوحيد، وتكون ابنة الدوق أيضًا زوجة الملك الراحل الثانية التي تزوجته عن سنٍ صغيرة.

خلاصة القول أنه درع الملك الواقي.

ظل كلا الملك الحاكم ونواه وينايت يتشاحنان على كرسي العرش، ولكن اضطر نواه بعد ذلك للإذعان إلى حركة الاحتجاج على العرش إذ تم ابتزازه بـ 'فضيحة' جلبت له الحظ العاثر واسقطته أرضًا جاعلًا الملك الحاكم يسترد عرشه.

لكن في الحقيقة، رتبت تلك الفضيحة من قبل العائلة الملكية الحالية، إنما الملأ لم يعرف مصدرها.

توارى عن الانظار بعد تورطه في نزاع مقاليد الحكم ، ثم عاد لتولي سيادة آل وينايت ليكمل طريقه في تحقيق آمال النبلاء القدامى بنجاح، وإحداهن هي نقد الملك في شأن قضية الختم الملكي المفقود كالكلب المسعور، قام بتفتيش منازل النبلاء الجدد لكونه قائد كتيبة الفرسان الشرطة بحثًا عن الختم الملكي منزلًا بمنزل.

الآن وقد انضم لزمرة النبلاء القدامى وهو ذو الثالثة والعشرون من عمره، قد بدأ الدوق نواه وينايت الشاب في إسقاط حركة النبلاء الجدد واحدًا تلوَ الآخر.

***

ابتلعت ريليانا آخر قطرةٍ من كأس الشامبانيا محدقةً في كيان نواه المتحرك.

إنه وضح المحيا، بهيُّ الطلعة بحق، أنى له ألا يكون كذلك فهو البطل الرئيسي لروايةٍ رومانسية.

اجتمع عدد لا يحصى من الآنسات اللواتي حاولن جذب انتباهه، التممن حوله كالزهور في أوج تفتحها، وما كان به إلا الرد عليهن بكل احترام ولباقة منه، كان كاملًا متكاملًا لم يبين لأحد أي ثغرة فيه.

في عالم ارستقراطي كهذا، ما من عيب لرجل في اتخاذ حبيبة أو اثنتان، ولهذا اعتُبَرَ نواه رجلًا ذي حياة تخلو من الشهوات والرغبات بشكل لا تصدقه الأعين.

ولكن ذلك قد أحدث مشكلة في الجهة الأخرى من العملة، فقد انتشرت عنه إشاعات تفيد بأنه لا يملك شهوة للنساء -شاذ يعني-.

تنهدت ريليانا تنهيدة خافتة ثم أعادت النظر إلى نواه مفكرةً:

ريليانا: 'أكاد أجزم أنه عمل موجع للرأس.'

في هذا المجتمع الذي يفيض بالعنصرية الطبقية حيث المراتب هي أكثر ما سيؤثر على حياة الفرد، كارتفاع مناصب الأسر وانخفاضها، وهي الآن بأمس الحاجة لمن هو ذي سلطة أعلى من آل بروكس لكي تتخلص منه.

'أمتلك البطاقة الرابحة التي ستمكنني من عقد صفقة مقايضة مع ذاك الرجل.'

نوت ريليانا عقد صفقة مقايضة مع نواه، فهو ليس رجلًا يمكنها التلاعب به باستخدام المال أو الجمال.

فهي بحالةٍ لا يحسد عليها كما لو أنها قد حُبست في مصيدة مسورة بالألغام، وطالما أنها البشرية الوحيدة التي أتت من خارج أحداث الرواية، فثمة مخرج واحد لها…

ألا وهو انها أدرى بالمعلومات داخلها ويمكنها استغلالها لصالحها.

وهذا ما تسلحت ريليانا به والذي حثها على التقدم والمجازفة.

لكن الحلقة الناقصة كانت عدم علمها بأمانة نواه في عقد تلك الصفقة.

فهو رجل نبيل متمرس حتى النخاع، لذا كان من الوارد أنه قد يقطع لها يدها ما إن قامت بالتلويح بها بكل سذاجة.

واصلت ريليانا تفكيرها طوال تحديقها في كل خطوة يخطوها دون أن تشيح بنظرها عنه ولو لنصف ثانية.

ريليانا: 'ما من ضير في المحاولة.'

لأنها لا تملك من ثمينٍ لتخسره.

تحركت ريليانا بكل هدوء وروية، فما من داعٍ لتنصت أحدهم لحوارهما.

حذوت ريليانا حذو نواه وتبعته خارج القاعة، بعد أن سئمت من التحديق فيه، متوجهةً نحو الحديقة.

***

لانغستون: "انظر من هنا، إنه بروكس، فرانسيس بروكس!"

أدار فرانسيس بروكس وجهه ملتفتًا إلى الرجل الذي ناداه بلكنة قلما يتم سماعها في الأرجاء مقاطعًا للكونت الذي كاد أن يلقي عليه التحية.

راح ذلك الرجل يربت على كتفه ويضحك ضحكةً ساخرة، أجاب فرانسيس عليه بنبرة أشبه بالتذمر:

فرانسيس: "…لانغستون."

لانغستون: "مر دهر لم أرك فيه يا صديقي بروكس."

فرانسيس: "…لأنني سمعت أن التحقيقات معك ستطول لوجود بعض المهربين في زمرتك."

لانغستون: "ما لي من فائدة في هذا النوع من الإجراءات البتة، فالقاتل يقتل! وظيفة سهلة."

ثم أحاط لانغستون بذراعيه حول كتفي فرانسيس بروكس هامسًا:

لانغستون: "أوليس كذلك؟"

لعنه فرانسيس بصوت خافت لم يسمعه فيه أحد، استسمح من الكونت العذر وجر لانغستون معه إلى إحدى أركان القاعة.

ريثما كان لانغستون يُجرُّ بصمت، أخذ كأس شامبانيا من الصينية التي حملها أحد الخدم.

لانغستون: "أين ذهبت خطيبتك الجذابة تاركةً إياك وحيدًا؟"

فرانسيس:"هذا ليس من شأنك."

لانغستون: "إياك وجعلي أستاء، فنحن على الطريق سيان،لهذا يحق لي القلق."

فرانسيس: "إنَّ الخطة تسير على خير ما يرام،لذا—"

لانغستون: "إنك تجعل عميلنا قلقًا يا هذا، وأقصد بحديثي الإشاعات التي تلي بأن علاقتك بخطيبتك باتت هشة، هم؟"

باتت عينا فرانسيس بروكس جاحظةً وكتفاه قد ارتعشا بريبة.

فرانسيس: "……"

تلذذ لانغستون بمنظره وابتسم ابتسامة ماكرة عريضة حين رأى قطرات دمعه قد أوشكت على النزول.

ومن ثم قرب شفتيه من إذن فرانسيس وقال هامسًا:

"سأسدي لك نصيحةً لأنك كالأخ الاصغر لي فاستمع وأنصت لحديثي جيدًا."

لانغستون:"لتتقن عملك يا كومة القمامة،فإن لم تفعل، ستكون هالكًا لا محالة."

صفع بتلك الجملتين وجه فرانسيس بروكس جاعلًا الرعب يدب القشعريرة في جسده.

لانغستون: "أفهمت؟"

أبعد فرانسيس يد لانغستون عن كتفيه بصفعة قوية، ثم قال:

فرانسيس: "إنني أدرى بهذا لذا فالتتوقف ولتنصرف عني."

لانغستون : "إذن، وداعًا، ولتكترث أنت أكثر لما تفعله خطيبتك بما أن مراسم زفافكما قد اقتربت، احرص على ألا تأخذ أي انطباعات أخرى عنك."

أعطى لانغستون كأس الشامبانيا في يده وغادر المكان تاركًا فرانسيس وحيدًا.

حدق فرانسيس بروكس في ظهر لانغستون حتى توارى عن بعد النظر ، ثم أشاح نظره ليحملق في الأرجاء باحثًا عن ريليانا، ولكن العثور عليها كان أصعب مما ظنه.

قضب فرانسيس حاجبيه وحرك قدماه في عجلة، كل الذنب يقع على تلك المرأة، إنهما مخطوبين مسبقًا لذا واجبٌ عليها التأدب واتباعه في كل مكان.

لقد كانت امرأة انطوائية فيما سبق،أما الآن فقد أضحت تتصرف كشخص آخر.

فرانسيس: 'خلت أنها امرأة سهلة المنال.'

فرانسيس: "تبًّا!"

لقد بلغه الانزعاج حتى أضلاعه.

ما إن رأى أحد الخدم حتى أمره بإخباره عن الطريق الذي سلكته ريليانا في حال معرفته لذلك.

وكان رد الخادم هو الإيماء، ومن ثم أشار له بيده أنها سلكت طريق الدرب الذي يؤدي إلى الحديقة.

فرانسيس: "يالها من امرأة مثيرة للمتاعب."

وضع فرانسيس كأس الشامبانيا على صينية الخادم ومن ثم انعطف تابعًا لها.

***

انسدل ضوء القمر المنير على نباتات الحديقة الملكية، وهي حديقة أحبتها الملكة الثالثة عشرة كيشونا وكنزتها بكل روحها.

لُقبت كيشونا بملكة الجليد، حيث أنها لم تكن تأبه بخلق من الخلائق إلا حديقة الورود تلك التي أحبتها قلبًا وقالبًا، تقول الأقاويل أنها قد جمعت كل كبار سحرة البلاد لكي تجعل تلك الحديقة المزهرة سرمدية البقاء بغض النظر عن الزمن والموسم.

مئاتٌ ومئاتٌ من السنين قد مضت وولت منذ ذلك الحين، إلا أن تلك الحديقة أمست المكان السري للنبلاء حيث يحظون بوقت يمضونه مع عشاقهم.

تمشى نواه في المكان بخطوات منتظمة.

ووراءه ريليانا التي كانت تمشي من مسافة متوسطة كي لا تفقد أثره، وشعور كونها تبدو كالملاحقة قد غزا عقلها.

كلَّا للتصحيح، هذا ليس مجرد شعور فحسب، إنها ملاحقة بحد ذاتها……

ابتداءً بأنها قد تتبعته دون وجود خطةٍ لتنفيذها، يلي هذا أنها لا تملك أدنى فكرة عن كيفية المبادرة بالحديث معه، وزيادة من الشعر بيتًا هو أنها -كبارك أونها- لا تحوز على أي مهارة في الحديث مع الرجال.

زمت ريليانا شفتيها لا تدري ما الذي ستفعله.

وحينئذ.

نواه: "ما هو غرضك الذي جاء بكِ إلى هنا؟"

سأل نواه ملتفتًا إلى من وراءه وهي تتقدم نحوه.

غمرها الإحراج حتى ظنّت أنه كان يتحدث لأحد آخر، فالتفتت يمينًا فيسارًا ولم تجد أحدًا سواهما ثم آحنت نفسها قليلًا له.

"أوه،حضرة الدوق وينايت،لتنزل بركات الآلهة عليكِ، أنا ابنة البارون جوندين ماكميلان البِكر، رِّيْليانا ماكميلان."

نواه: "نعيمًا عليكِ، آنسة ماكميلان، وأنا الدوق نواه وينايت."

بدا وكأنه قادر على جعل الأرواح والأنفس تنشد وتغني له بابتسامة القديس تلك، ومن كان قد اقترف ذنبًا سيعترف به جاثيًا على ركبتيه باكيًا، كان هذا هو حجم عظمة هالته.

ريليانا: 'عظمة؟ كلا، لن أخدع بمحياه هذا.'

دفنت ريليانا أفكارها تلك وأنكرتها.

لم يكن غرضها هو سبب ارتباكها هكذا، بل علمها لـ'وجهه الحقيقي' الذي يخفيه عن العلن استنادًا لما قرأته عنه.

أرجعت عينها بعين نواه الذي رسم ملامح لطف على محياه كما لو كان مهتمًا لأيٍّ كان ما ستقوله.

ريليانا: "أرغب في عقد صفقة معك."

نواه: "صفقة……؟"

بدت الدهشة تتملك وجه نواه.

من ذا الذي لن تتملكه الدهشة إثر آنسة نبيلة تتبعته إلى الحديقة ومن ثم تطلب عقد صفقة معه على أية حال.

نواه: "أتقولين، أنكِ ترغبين بعقد صفقة معي؟"

تلفتت ريليانا يمينًا فشِمالًا مرةً أخرى لتجزم أن مامن أحد سواهما.

ريليانا: "إني لا أحبذ الحديث عن غرضي في مكانٍ عامٍّ كهذا."

ابتسمت ريليانا ابتسامة ماكرة وأردفت قائلة:

ريليانا: "فهو يتعلق بالختم الملكي."

تقاسيم وجهه قد تغيرت فورًا مبينةً ملامح متعجرفة، خالعةً لقناع ابتسامته الملائكية ومظهرةً وجهه الحقيقي.

أبدى الرجل الذي وقف إزاء ريليانا تعبيرًا باردًا تقشعر له الأبدان بدون وعي.

رفعت ريليانا رأسها له لكي تواجهه وجهًا لوجه،لقد قرأت كل شيء عنه في الرواية، وهي أعين العلم بأي نوع من الناس ستواجه.

ريليانا : 'ذو الوجهين.'

دوقٌ متعجرف، منافق الطباع يختبئ وراء قناع رجلٍ شهم ومغوار يحترم الآخرين.

نواه: "همم.”

أمال برأسه كما لو أنها قد جذبت انتباهه.

نواه: "يالهذه، المفاجأة المباغتة."

تقدم نواه خطوة إلى الأمام باتجاهها، بينما ريليانا -التي بالكاد استجمعت شيئًا من قوتها- تراجعت خطوة إلى الوراء.

حدّقت ريليانا في ملامحه بدايةً بشفتيّه، حتى ذلك البريق الغريب في عينيه الذهبيتين.

يكاد المرء لا يصدق عينيه ما إن يرى مظهره حين انسدل نور القمر على الحديقة الملكية.

نواه: "إذن، ما هي هذه الصفقة التي ترغبين بعقدها؟"

يتبع……

ترجمة: em.ema1814

تدقيق: kiri.chan.12

2022/09/29 · 962 مشاهدة · 1740 كلمة
نادي الروايات - 2025