🌿 تنبيه وإهداء قبل القراءة 🌿
📿 اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
🕌 هذه الرواية للتسلية، فلا تجعلها تشغلك عن الصلاة
🕊️ اللهم انصر أهلنا في غزة، وفرّج كربهم، وداوِ جراحهم، وارفع عنهم الظلم
📖 "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (سورة الشرح، آية 6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عصفَت ريحُ الشمال تعصف وهي تحمل جليدًا وثلجًا لم يذب، واجتاحت السهل المكشوف ولطمت الموكب المتحرك كأنها سكينٌ تقطع الوجوه
شدّ بال رداءة حوله أكثر ولَعِق شفتيه: "هل يمكن أن يُسمّى هذا ربيعًا فعلًا؟ لم أرَ حتى نبتة عشب واحدة"
كان يركب حصانًا ضخمًا، ورداؤه الأحمر والأسود مطرّز بشعارٍ بخيوط ذهبية، مما جعله لافتًا على نحوٍ خاص
حتى في هذا القفر الشمالي ظل يحافظ على هيئة "ابن نبيلٍ خرج في نزهة"
غير بعيدٍ خلفه طأطأ ويليس رأسه وشدّ رداءة السوداء وركب صامتًا
كانت عيناه تمسحان الأمام وما حوله بلا توقف، يرصد تغيّر التضاريس والمشهد والمناخ وسرعة المسير، ويسجّل أحيانًا نقاطَ حراسةٍ ساقطة وآثارَ حيواناتٍ على الطريق
لم يسبق لِبال أن بادر بكلماتٍ كثيرة معه؛ بل كان يحتقر هذا "الابن غير الشرعي"
أما ويليس فلم ينوِ الكلام معه أيضًا؛ فمع أنهما أخوان، فهما غيرُ مقرّبين، وسيرهما معًا ليس إلا إسنادًا متبادلًا
بدت مدينة رمح الجليد أخيرًا عند حافة الحقل الثلجي
أسوارها شاهقة مهيبة، مشيّدةٌ من حجرٍ خشنٍ صلب، تلطّخُها آثار معارك قديمة، كأنها على أهبة أن ترفع الرايات وتصدّ الأعداء في أي لحظة
تدلّت رايتان على جانبي بوابة المدينة، ترفرفان في الريح والثلج، ومع خفوت اللون ما زال شعار النسر الفضي لمدينة رمح الجليد واضحًا
وفوق برج البوابة وقف حرّاس يحملون الرماح، تلمع دروعهم ببريقٍ رماديٍّ حديدي تحت الضوء البارد، وعيونهم يقِظة
ولما اقتربوا صاح أحد الحرّاس: "قفوا، من القادمون"
نفض بال الثلج عن ردائه بلا اكتراث وقال بصوتٍ عالٍ: "نحن من آل كالفين، بال كالفين، وهذا السيد إلى جانبي ويليس كاروِن، كلانا لوردان رائدان مُنحا الألقاب من الإمبراطورية"
فحص الحارس الاثنين ولم يتراخَ وجهُه، وما إن سمع اسم "كالفين" حتى ازدادت مهابته، ثم استدار سريعًا ليرفع الخبر إلى الداخل
ولم يطل الأمر حتى جاء الرد من برج البوابة: "الدخول مأذون. ضيوف آل كالفين، تفضلوا"
انفتحت الأبواب الحديدية الثقيلة ببطء، تطحن المعدن طحنًا بصوتٍ غليظ منخفض
أومأ الحرّاس لهما إشارةً إلى السماح بالدخول
وفيما كان بال يعبر تمتم: "على الأقل البوابة تبدو لائقة، لا أدري أيُّ فوضى تنتظرنا في الداخل"
ما إن دخلا حتى أقبل موظفٌ في منتصف العمر برداءٍ ثقيلٍ على عجل
انحنى قليلًا وقال باقتضاب: "أنا معاونٌ أرسله الدوق إدموند. تفضلا إلى دار الحاكم، فقد بُلّغ الدوق بوصولكما"
أومأ الاثنان وتبعاه، واغتنما الفرصة ليتأملا ما حولهما
كانت شوارع مدينة رمح الجليد موحِلة، مزيجًا من الثلج والمياه الآسنة، وحين تخبط الحوافر تُصدر صوت "تشْووب" كأنها تطأ جليدًا لم يذب وآثار دمٍ قديم
لكن على خلاف فوضى الأحياء الفقيرة ووساختها، لم يكن في الشوارع عوامّ متسكعون تقريبًا
بل الجنود والفرسان في كل مكان
مدرّعون مُقنّعون، وجوههم جادّة وخطواتهم موحّدة، وإذا لامسوا أحدًا عابرًا وضَعوا أيديهم خفيةً على مقابض السيوف
كانت أبنيةُ المدينة في معظمها من حجرٍ على طرازٍ خشنٍ بسيط، جدرانُها منقطة بآثار الصقيع كندوب جنديٍ قديم
خشبُها مُهترئ في الأغلب، وأبوابها ونوافذها مرصعةٌ بصفائح حديدٍ أو مسامير سميكة، وكثيرٌ من السقوف منهار
لكنهم أسندوها مؤقتًا بألواحٍ وجلود، ولا تزال تحمل ثلجًا وصقيعًا لم يجفا في ريح البرد
كان واضحًا أن هذه البيوت لم تُبنَ "للسكن"، بل "للصمود"
أبراجُ مراقبةٍ على امتداد الشارع قائمةٌ صامتة، مائلٌ بعضها قليلًا، لكنها شامخة كالجبل في الريح والثلج
لا باعة يصيحون، لا دخان طبخ، لا صبيةٌ يركضون ويلعبون
لم يبدُ على مدينة رمح الجليد طابعُ "مدينة" البتّة، بل بدت كدرعٍ نائم، ليس جميل المنظر لكنه قادرٌ على صدّ الهجمات
تمتم بال بازدراء: "تسك، هذه ليست مدينة؛ هذا حصنُ جبهةٍ أمامية بوضوح"
رمق ويليس إلى جانبه كأنه ينتظر صدىً لكلامه
لكن ويليس لم يجب
بل ظل يحدّق في المدينة والشارع والجنود الصامتين من أمامه
مرّت بعينيه لمحةُ وقارٍ خاطفة، كأنه أدرك أخيرًا أمرًا ما
لم تكن هذه قذارة، بل ندوبُ حرب
لا فوضى هنا، بل نظامٌ شديد القسوة، وسكينةٌ لا تُحفظ إلا بالتضحية والكبح
أنزل ويليس رأسه وشدّ رداءة، وانخفض بصره قليلًا
كان ينبغي ألّا تُستهان هذه الرحلة، لكنه الآن يرى أنه ما زال يستخفّ بثقل هذه الأرض
طبعًا لم يُجِب على تبرّم بال، ولم يُظهر قلقه
ولما رآه صامتًا، اكتفى بال بأن كبس شفته وقلّب عينيه
طبعُه متعجرف، ولا ينوي أن يضع نفسه ليسأل عمّا يدور في خاطر رجلٍ صامت
فسار الاثنان جنبًا إلى جنب في هذا الشارع الكالح صامتَين، لكلٍّ هواجسُه
قال الكاتب المرافق أمامهما بنبرة ثابتة: "دار الحاكم تبعد شارعين آخرين، اصبرا قليلًا"
سرعان ما بلغا قلعةً خشنة هي دار الحاكم، وانفتحت أبوابها الثقيلة بصريرٍ عميق، وكان الانطباع الأول بعد الدخول مزيجًا من الوقار والبساطة
لا سقوف مذهّبة ولا سجاد مخملي ولا قناديل ملوّنة، بل مائدةٌ طويلةٌ ثقيلة، وعدة رفوف كتبٍ قديمةُ الميل إلى الجدار، وزينةٌ وحيدة على الحائط هي رايةٌ عسكريةٌ زرقاء داكنة
وتحت تلك الراية جلس رجلٌ طويلٌ مهيب
إنه الدوق إدموند، سيد الحدود الشمالية، الحاكم الحقيقي لكل الإقليم الشمالي
وجهه كأنه منحوتٌ من صخر، والندبة التي تمتد من زاوية عينه اليسرى إلى فكّه تزيده حدّةً وقتلًا
حتى وهو ساكنٌ في مجلسه تفوح منه سطوةٌ لا تُرد
ضاقت عينا بال على الفور، وتخلّى عن مزاحه السابق واعتمر ابتسامةً مهذّبة أتقنها طويلًا، وانحنى قليلًا وقدّم شهادة الروّاد المختومة بالشمع الملكي باحترام
"آل كالفين، بال كالفين، جاء ليلتحق بالخدمة"
ولحقه ويليس بخطوةٍ سريعة وحركةٍ هادئة وتعبيرٍ عادي، وقدّم أوراقه بصمت
"ويليس كاروِن" قالها باقتضاب بلا زيادة
تناول إدموند الأوراق ونظر إلى الختم وارتفع حاجباه ولانت نبرته قليلًا: "أوه... من آل كالفين إذن، أخو لويس الأكبر"
وفي تلك اللحظة تلطف حتى ذلك الوجه المندوب بابتسامةٍ خفيفة نادرة
انذهل بال وارتعشت زاوية عينه بلا إرادة
لقد خاطب لويس باسمه؟ واعترف بهما بوصفهما أخويه؟
تمتم في نفسه: متى صار لويس مقرّبًا إلى هذا الحاكم إلى هذا الحد
بعد مجاملاتٍ يسيرة أشار الدوق إدموند إلى إحضار خريطةٍ مفصلةٍ للحدود الشمالية فامتدّت تغطي المائدة تقريبًا
قال بنبرةٍ هادئة: "عدا المناطق المعلمة بدوائرَ حمراء فكلّ ما سواها قابلٌ للاختيار"
تلألأت عينا بال على الفور: "هذا... أماكن كثيرة للاختيار؟ ظننت أن دفعة العام الماضي التهموها كلها"
ابتسم الدوق ابتسامةً باهتة وفي صوته بردٌ خفيف: "نعم، جاء كثيرٌ من 'نبلاء الروّاد' العام الماضي... لكن الشتاء والحرب لا يرحمان، ومعظمهم ماتوا"
تصلّب وجه بال وأراد أن يقول شيئًا ثم انتهى به الأمر يحكّ طرف أنفه بحرج
أما ويليس فظل هادئًا يُمعن النظر في علامات الخريطة بعناية
كان يعرف أن كلام إدموند حق
فهذه "المناطق المتاحة" الآن، وإن بدت مغرية، ليست في الغالب إلا أراضيَ خلت بعد تطهيرها بالنار والدم
وأشار إدموند بإصبعه الغليظ إلى بضع نقاط في مقاطعة قمة الثلج وقال: "هذه المواقع قريبةٌ من جهة أخيك لويس، والموارد ما تزال فيها أوفر نسبيًا، وهي بدايةٌ طيبة"
قالها بخفةٍ، لكنها حملت بوضوحٍ مسحة "يمكنكما تقديمها على غيرها"
ولأجل لويس كان في قلبه وُدٌّ لأبناء آل كالفين، فقال كلماتٍ زائدة
وكان بال قبل أن يطأ دار الحاكم قد رسم خريطة الشمال في ذهنه مئات المرات
لم يكن يعنيه حقًا أيُّ أرضٍ أخصب، ولا أيُّ منطقةٍ أغزر موارد
ما كان يهمّه هو مَن يَحكم الأرض
"مقاطعة قمة الثلج؟ ها" سخر في قلبه ولم يُلقِ نظرةً حتى على تلك الناحية
يا للمزحة، أيعقل أن أذهب إلى منطقة لويس
كان بال يرى نفسه أرفع من أخيه الأصغر، في الأصل والهيئة والخبرة وحتى في علاقته بالأب، وكان يظن لويس ليس إلا لا نفع فيه
لقد صادف الحظَّ فقط فاستغل سياسة الروّاد ونال لقبَ لوردٍ لمقاطعةٍ في هذا المكان المتجمد المنسي
أما القوة الحقيقية فكيف له أن يكون تابعًا له
"أتيتُ إلى الحدود الشمالية لأصنع مجدًا، لا لأكون تابعًا لأحد"
لذا رمى ببصره إلى ما وراء مقاطعة قمة الثلج: وادي الصخر المجمّد شرقًا، ومنحدر سهل الذئب شمال غرب، وحتى تلال الضباب الهابط الأبعد وضعها في حسابه
هذه الأماكن مقفرة قليلة الناس، لكنها تعني حريةً وفرصة
بل خطّط بال أنه إن أحسن الإدارة فسوف يغدو إقليمه مركزًا تجاريًا جديدًا في الشمال
وإذا فُتحت طرق التجارة، ومع سند عائلته، فسوف يؤسس إقطاعه الخاص ويطالب بلقبِ كونت خلال أعوامٍ قليلة
وعندها سينظر إليه أبوه بعينٍ أخرى
أما ذلك "الأخ لورد المقاطعة"
فسينتهي به المطاف تابعًا لأحد النبلاء، يحرس بضع قرًى للصيادين وأكواخَ جبلٍ، وإنْ سلم من الإفلاس فذلك يكفيه
وبينما فكر بذلك مالت شفتاه قليلًا بتعبير "طموحٍ يبلغ الآفاق"، وقرّب الخريطة من عينيه، وأوقف إصبعه فجأةً عند نقطةٍ بعينها وقال بحسم: "هنا، تبدو مناسبة"
تتبع إدموند حيث أشار، فإذا هي منطقةٌ جنوب نهر الضباب البارد، قرب منحدر سهل الذئب
الأرضُ فيها متموجة قليلًا، لكن نهرًا جنوبًا وجبالًا غربًا، ويُقال إن في الجبال خامَ حديدٍ غنيًا، والنهر يصل إلى سهل غابة الصقيع الأبعد، فهي بقعةٌ فيها موردٌ وممرٌّ معًا
قال الدوق بنبرةٍ مسطّحة: "أوه، هذه... نهر الضباب البارد نهرٌ جيّد، وقربه غابةٌ وافرة
الصيد وقطع الخشب ميسوران
وعروقُ المعدن أسفل الجبل... لم تُستكشف تمامًا، فلعلّ فيها نصيبًا"
لم يُبيّن حكمَه، لكن نبرته نبرتُ مراقبٍ يرى شابًا يَتشوّف لإظهار قدرته، ولم يذكر المخاطر
نظَر إليه وهو يضيّق عينيه قليلًا وردّد بنبرةٍ أبطأ: "أأنت واثقٌ من اختيارك هنا"
ظهرت على شفتي بال ابتسامةُ واثق، وعقد ذراعيه وهزّ رأسه بحزم: "بالطبع"
قال إدموند: "جيّد" وانفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ فيها معنى عميق
لم يعلّق على مزايا الاختيار أو عِلله، بل رسم حول البقعة دائرةً خفيفة تاركًا علامة
ثم التفت إلى ويليس الصامت: "وماذا عنك؟ هل اخترت"
لم يُجب ويليس فورًا، بل وقف ساكنًا أمام الخريطة، وعبس حاجباه بشدة
مثل بال، كان قد فكّر أصلًا في تجنّب مقاطعة قمة الثلج واختيارِ ركنٍ مُهمَلٍ آخر ليؤسس فيه إقليمه الخاص
لم يكن يرضى أن يكون تابعًا لأخيه الأصغر
لكن في طريق الشمال رأى أكثر مما يكفي: قرًى يباب، حصونًا خربة، مشرّدين ماتوا بردًا على جانب الطريق، وهياكلَ نهشتها الوحوش
إقليمُ الحدود الشمالية ليس مناسبًا للتنمية؛ إنه ساحةُ قتالٍ تبتلع الضعفاء
ومع ذلك استطاع لويس أن يرسخ قدمًا في هذه الأرض
كره ويليس الاعتراف لكنه فهم حقيقةً واحدة: من يثبتون في الشمال لا يثبتون بالنسب ولا بالظهر، بل بالقوة
وأخوه الأصغر، لويس، يمتلك تلك القوة بلا ريب
بدل أن يتشبث بالكِبر ويقاتل وحيدًا في الثلج، فالأجدى أن يكون واقعيًا، يعيش أولًا ثم يُدبّر لما بعده
رفع يده برفق وأشار إلى إقليمٍ على حافة مقاطعة قمة الثلج، قريبٍ من إقليم حافة الجليد
إنها أرضٌ مرتفعة قليلًا قرب شقّ الصخر الأخضر، غنيةٌ بغابات، ويشقها رافدٌ صغير
تُعد شروطُها الجغرافية حسنةً قياسًا بالشمال
نظر إليه إدموند ولمعت في عينيه لمحةُ استحسان
أومأ ورسم دائرةً حولها أيضًا: "اختيارٌ حكيم"
زمّ بال شفتيه عند سماع ذلك ولم يُضِف كلمة
أما ويليس فلم يلتفت إليه، ولم يشرح سبب اختياره
الحدود الشمالية ليست مكانًا للكرامة، بل للبقاء
ومع مواردَ في يده وسندٍ قريب تتاح فرصةٌ للحياة
مدّ إدموند يده إلى ختمٍ فولاذيٍّ ثقيلٍ بجانب المائدة، وهو ختمُ الروّاد في الحدود الشمالية، يرمز إلى السيادة الأولى على هذا القفر
نشر وثيقتين تحملان الختم الملكي على المائدة، وتوقّف بصرُه لحظةً قصيرة
قال: "ما دمتم قد اخترتم، فمن هذه اللحظة أنتما بارونان لإقليم الحدود الشمالية"
وما إن أنهى حتى هبط بالختم الثقيل على الورق هبوطًا أصمّ
اهتزّ قلبُ كلٍّ من ويليس وبال
في تلك اللحظة صار لديهما أرضٌ تخصّهما رسميًا، وصارا بارونين من روّاد الشمال حقًا
ولو لم تجلب هذه الرتبة ثروةً بعد، ولو كان المستقبل مملوءًا بالمجاهيل، فهذه المصادقة تعني أنهما أصبحا أهلًا للجلوس على طاولة المقامرة في الشمال ليزاحما على نصيبهما من الغد
فاضت في صدريهما مشاعرُ الفرح والطموح والقلق معًا
ناول إدموند الأوراقَ إليهما وقال على سجيته كلماتٍ مهذبة: "الحدود الشمالية باردةٌ غدّارة، أسأل لكم أن تُقيموا حصونكم قريبًا، وأن تحيوا حتى تروا ربيعًا قادمًا"
ثم ابتسم نصف ابتسامة: "البقاء هنا في حدّ ذاته أمرٌ يستحق الاحترام"
ثم غيّر الحديث بنبرةٍ عابرة لا تخلو من العناية: "مؤن الروّاد في دار الحاكم محدودة، يمكنكما أن تمرّا على السوق السوداء، لعلّكما تجدَان موادَّ نافعة لمرحلة البقاء الأولى وعبيدًا، وتذكّرا أن تساوما، لا تكونا خِرافًا سمينة"
لمع في عيني بال احتقارٌ خفي إذ وراءه نقابةُ تجارة آل كالفين الضخمة، لكنه هزّ رأسه موافقةً على أي حال
وأما ويليس فوضع الوثيقة بصمتٍ وهزّ رأسه بصرامة
خرج الاثنان من مكتب دار الحاكم، وكانت الشمس تشع على رصف الحجارة، لكن الهواء بقي يحمل برودةَ الشمال المميزة
وبينما كان بال يعدّل طوق ردائه ليستقبل طريقه بارونًا واثق الخطو مرَّت بهما هيئةٌ سريعة
امرأةٌ بثوبٍ أزرق داكن قوامُها رشيقٌ ومهابتُها راسخة، كأنها تشعُّ نورًا بطبعها
شَعرُها الأزرق يلمع في الشمس وئيدًا، وملامحها دقيقةٌ باردة وفيها أُبّهةُ نبلٍ لا تُمسّ
وكاد بال يلتفت تلقائيًا، وثبت بصرُه على قامتِها لحظةً قبل أن يعود إلى وعيه
بلّل شفتيه هامسًا للموظف المرافق: "مَن تلك السيدة"
نظر إليه الموظف وفي عينيه وقار: "ابنةُ الدوق إدموند، السيدة إميلي"
وبمجرد ما سمع ذلك خفق قلبُ بال بلا سبب، واشتغل ذهنُه يجري بسرعة
ابنةُ إدموند؟ إذن... مثالي
العمر مناسب، ونسبٌ نبيل، وتكافؤٌ عائلي
بدت كخيارٍ كاملٍ لزواجٍ سياسي
وسرح لحظةً في عرسهما القادم واسمِ طفلهما الأول، ربما "آرثر" خيارٌ حسن
لكن المرأة ذات الشعر الأزرق لم تلقِ عليه نظرة، ومضت في طريقها بهدوء مثل الثلج
ظل بصرها للأمام كأنهما حجران صغيران على الطريق
في الجهة الأخرى بقي ويليس صامتًا، ولم يثبت بصرُه على المرأة، بل شرد في التفكير
كان يعرف أن تركيزه الحقيقي يجب أن يكون على لويس
ذلك الأخُ الأصغر الذي طالما ازدراه، لكنه الآن ثبت في هذا القفر ونال حتى استحسان الدوق
كيف يقصده؟ أيسأله العون بصراحة، أم يقترب بحذر
رفع رأسه ينظر نحو مقاطعة قمة الثلج البعيدة، وعقد في قلبه قرارًا صامتًا
إن استطاع أن يمسك بالحبل المؤدي إلى المستقبل، فحتى انحناءةٌ يسيرة تستحق العناء
نزلت إميلي الدرجات أمام دار الحاكم بخطًى رشيقة، ونقراتُ حذائها ترنّ على حجارة الطريق رنينًا نظيفًا واضحًا
لم تلتفت إلى أحدٍ من حولها
ومن ذلك الاثنان اللذان حصلا للتو على حقوق الروّاد ويعيشان لحظةً من أكثر لحظات حياتهما إثارة
في عينيها، قدِم كثيرٌ من أبناء النبلاء في هذه الأيام إلى عتبة أبيها لتسجيل أقاليمهم واستجلاب وُدّه
وكان الاثنان في نظرها اسمَين عابرين على قائمةٍ طويلةٍ من "سجلات الإقطاع" عند أبيها
وخاصةً بعد أن عادت من إقليم المدّ الأحمر والتقت رجلًا مدهشًا مثل لويس، صار سائر الرجال يخبو بريقهم
قالت وهي تدخل: "أبي"
ابتسم الدوق إدموند ما إن رآها: "كيف كانت رحلتكِ إلى إقليم المدّ الأحمر هذه المرة"
قالت إميلي بتردّدٍ خفيف: "كنت أتمشى في مدينة رمح الجليد فحسب"
قال إدموند وهو يدوّر كأسه ويطرق حافته على طرف المائدة: "لا تتظاهري، أعرف كم طقمًا من اللباس العملي أخذتِ، أتظنّين أني لا أفتش شيئًا"
سعلت إميلي بخفة ولم تستطع أن تخفي ابتسامةً على شفتيها وجلست قبالته: "أردتُ فقط أن أراه بنفسي"
هزّ الدوق رأسه مبتسمًا: "البنت إذا كبرت صعُب حفظُها، أاختُطفت ابنتي إذن"
قالت: "أبي" ونظرت إليه بنفاد صبرٍ لطيف، وحمرت وجنتاها
قال وهو يبسط كفّيه وقد اتسعت ابتسامته: "حسنًا حسنًا، أخبريني إذن، ما الذي رأيتِه حقًا في هذه الرحلة"
قالت إميلي بنبرةٍ جادّة: "إقليم المدّ الأحمر أفضل بكثيرٍ مما تخيلت، الشوارع نظيفة، والأمن العام جيّد جدًا، والناس يشعرون بأمان، رأيتُ كثيرين يبتسمون — ولم يكن ذلك تمثيلًا، بل كانوا حقًّا يجتهدون ليعيشوا"
قال: "يبدو كأرضٍ من حكايةٍ خيالية"
هزّت رأسها وتابعت بصوتٍ منخفضٍ تشعّ فيه حماسةٌ هادئة: "إنهم يسمّون لويس 'الشمس'، ويقولون إنه مَن يجلب الأمل، ظننتها بدايةً دعاية، لكن العيون لا تكذب، إنه ثقةٌ واحترام"
حدّق إدموند فيها ثوانٍ وعلى شفتيه نصف ابتسامة: "أنتِ دقيقةُ الملاحظة، أليس كذلك"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهى الفصل
تذكير مهم: هذه الرواية خيالية للتسلية فقط، فلا تجعل أحداثها أو مصطلحاتها تؤثر على عقيدتك أو إيمانك
أنا بريء من محتوى القصة وما فيها من خيال، وقد بذلت جهدي لتغيير كل المصطلحات المخالفة، فاعذرني إن بقيت كلمة لم أنتبه إليها
المرجو الدعاء لي، والدعاء بالرحمة لوالدي، وبالشفاء العاجل لوالدتي، فهذا سيكون جزائي على الساعات التي قضيتها في ترجمة هذا الفصل وتنقيته من المخالفات الإسلامية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ