201
جثا إدواردو كالفن في شجيرة متفحّمة، يرتدي عباءة ميدانية لوّثها الرماد والطين، في هيئة صائد جوائز من نسب نبيل
قال وهو يجذب قفّازه مخاطبًا الكلب الأشعث بجواره
كان سلالة دُرِّبت خصيصًا على العثور على الجثث المتحلّلة، أنفه يرتجف بخفة وأذناه تنتصبان بين حين وآخر، يتنقّل بقلق فوق الأرض المحروقة
…لا شيء؟ رحلة ضائعة أخرى؟
أنَّ الكلب مرتين، مشيرًا إلى أن شيئًا ما هنا
هاااه—
تنهد إدواردو، وألقى عباءته إلى الخلف، غير مبالٍ ببقع الدم والتراب على ثيابه
أزاح بيده قشرة التربة المتفحّمة المتصلبة، ثم نقّب بين عروق متفحمة من الكروم، حتى استخرج قطعة حطام مغطاة بشظايا عظم سوداء
كان الشيء شبه غير قابل للتعرّف، كتمثال شمعي سُحق في أتون، تفوح منه رائحة موت مترنّحة
تكدّر وجهه فورًا وقال بصوت خافت يشبه الشكوى: يا للعجب، أي ذنب اقترفت—
تذمّر إدواردو وهو يسحب قطعة قماش بيضاء نظيفة من حضنه ليمسح بها الطين عن أصابعه، ومع ذلك ظلّت حركاته محتفظة بأناقة وضبط نفس يليقان بنبيل
نظر إليه الكلب ونبح بخفوت، ثم لحس كمَّه كأنه يواسيه على رحلة أخرى ضاعت سدى نعم نعم، أعلم أنك محبط أكثر مني
ربّت على رأس الكلب، ثم رفع نظره إلى السماء الرمادية البيضاء البعيدة
وبينما كان يوشك أن يشكك في حياته وكلبه ومؤسسته ولماذا دُبّر هذا العالم بقسوة ليجعله يحفر القبور، مرّ ظلّ داكن عبر السماء الرمادية البيضاء
كانت أجنحته طويلة للغاية، تنتشر كالسكاكين، تشقّ الريح الثقيلة، ثم تهوي نحو إدواردو
لم يرفع إدواردو رأسه، ضيّق عينيه فحسب، وانفرجت شفتاه بانقباضة ساخرة
تسك… ذاك الذي تركته للويس
حافظ على وضعية الركوع نصفًا، ومدّ ذراعه اليسرى
هبط الطائر الرمادي الريش بمهارة على كتفه، ومنقاره الحادّ ينقر بخفّة خاتمًا فضيًا
نزعه وفتح الرسالة المطويّة قليلًا والمجعّدة
لم تكن الورقة فاخرة، بل بدت عليها آثار بلل
خلاصة الرسالة العامة: تم العثور على جثة مميّزة، قد تكون مرتبطة بالنواة الروحية لعشّ الأم، إن كان لديك وقت فتعال إلى إقليم المدّ الأحمر لترى
في الثانية الأولى قطّب حاجبيه
في الثانية الثانية أخذ نفسًا عميقًا
في الثالثة رفع بصره إلى سماء الشمال الكالحة كأنه يقيّم بجدية ما إذا كانت الأقدار تعبث به
ثم خفض نظره إلى كومة الطين العفن عند قدميه، تلك التي لم تتجاوب معها حتى النعمة العظمى، وارتجفت شفتاه قليلًا
أنفقت أكثر من نصف شهر، ونبشت بيديّ ستةً وثلاثين قبرًا—وهو التقط «مصادفة» جثة «مميّزة»
تمتم إدواردو بصوت كأن روحه غادرت جسده، ثم جلس بارتطامة خفيفة، وجذب «كلب طوفان الحشرات» إلى حضنه
لنذهب يا رمادي الصغير إقليم المدّ الأحمر—على الأقل هناك أكثر دفئًا
لحس الكلب ذقنه كأنه يجيب، فيما أخذ رسول الريش الرمادي على كتفه ينظّف ريشه بعناية، متجاهلًا انهياره الداخلي تمامًا
نهض إدواردو وربّت الغبار عن ثيابه آمل أن تكون هناك نتيجة حقيقية هذه المرّة هذا الشعور السيّئ في صدري يزداد عمقًا
عوى ريح الشمال، وبدا أن البرية شمال مدينة المدّ الأحمر قد كشطتها شفرة من جليد، والأرض المكشوفة متجمّدة منذ زمن
كانت هذه «مفازة التفجير الاختباري» المخصّصة لاختبار الأسلحة، حيث أُطلقت القنبلة السحرية سابقًا
حمل الفارس بصمت صندوقين حديديين ثقيلين إلى مركز المفازة، فانبعثت طبقة رقيقة من الغبار لحظة ارتطامهما بالأرض
سيدي، اكتمل السلاحان اللذان صمّمتهما كلاهما تفحصهما من فضلك قال مايك وهو يرمش عينين محمرّتين، لكن وجهه لم يخفِ حماسة وفخرًا واضحين
وقف لويس خلفه يومئ بصمت
فتح مايك أوّل صندوق ببراعة بكلتا يديه، فانطلقت فورًا لمعة معدنية باردة
كان جهاز قاذف لهب أسود وأحمر، كوحش خامد
يشبه الجزء الرئيسي حقيبة ظهر معدنية ثقيلة، منقوشة ومُلحَمة ضد الانفجار، تتصل بأنبوب سميك يمتد إلى فُوّهة في المقدّمة
بدت فُوّهته كفم وحش مفتوح، وقد ثُبّت في جدارها الداخلي بلّورة إشعال زرقاء وامضة بخفوت، توحي بنذير موت
جثا مايك بعناية على ركبة واحدة، وسحب الأنبوب كمن يعتني بجناحَي طفل ربّاه بيديه
طرق بخفة على الأسطوانة المعدنية وقال هذه النسخة الرئيسية من قاذف اللهب، وزنها نحو ثلاثين رطلًا، بتصميم حقيبة ظهر يعمل بنظام هوائي لدفع زيت قشور النار، وفي المقدّمة جهاز إشعال تلقائي؛ سحب الزناد يشعله
تراجع مايك نصف خطوة ولوّح لشخص غير بعيد أما جزء زيت قشور النار، فليشرح المُركِّب بنفسه
تقدّم سيلكو نحو القاذف بابتسامة ظفر خفيفة، وربّت بلطف على الأسطوانة المعدنية
هذه هي النسخة الرابعة من زيت قشور النار قال بصوت غير عالٍ لكن واضح وثابت إنه كثيف، شديد الالتصاق، يلتصق بالدروع والجلود وحتى الثلج ليحترق باستمرار
في الاختبارات الفعلية، يحرق ثلاث طبقات من درعٍ جلدي ويشعل كومة كاملة من أرض مبلّلة يُضبط المدى بين ثلاثة وأربعة أمتار، موازنةً بين مساحة الضرب والدقة أما الرشّة الواحدة فتمتد حتى اثنتي عشرة ثانية
وبالطبع، إن واصلت الضغط على الرشّ، ففي أقل من ربع ساعة يمكن لفرقة صغيرة من حلف الثلج أن تتحول إلى عينات فحم
لم تتشكّل لدى لويس صورة واضحة من شرحه، فأمر مباشرة ابدأوا التجربة
زمجرت الريح الباردة فوق المفازة، تُثير الثلج والغبار المبعثرين على الأرض
وكان «الهدف» اليوم خنزيرًا بريًا جليديًا كالعادة، فهذه الوحوش السحرية المقاومة للنار أصلح ما تكون لمثل هذه الاختبارات
قُيّد الآن بحبال إلى وتد اختبار، يزأر ويعوي بلا انقطاع، وأنفاسه الحارة تتكاثف ضبابًا أبيض في الريح الباردة، وأظلافه الأربع تخبط الأرض بجنون، وعيناه ممتلئتان بوحشية دامية وعناد
استدعى لويس أحدهم
تقدّم فارس متدرّب قوي البنية ببطء، ووجهه مشدود بلا أثر للتراجع
ارتدى الوحدة الرئيسية لقاذف اللهب تحت إرشاد مايك المباشر، وفحص صمام الضغط ومشبك الزناد وبلّورة الإشعال—خطوات متقنة ومدروسة
استهدف مركز الوتد، لا تتجه للرأس همس مايك مذكّرًا
ثبت الفارس المتدرّب قدميه متباعدتين، وثبّت نصفه السفلي
حبس أنفاسه، ووجّه الفوّهة إلى صدر الخنزير
تراجع الحاضرون جميعًا متجاوزين خط الأمان المحدد
بدت الهواء وكأنه تجمّد، فلم يبقَ سوى صفير الريح وصوت احتكاك المعدن
ابدأ أمر مايك
سُحب الزناد فجأة
بوم
دوّى انفجار يصمّ المفازة، وانبعثت فجأة من الفوّهة أفعى ناريّة هائجة، قانية مخلوطة ببرتقالي داكن، كأن عالم الجحيم فتح فاه، يقذف لسانًا زائرًا من اللهب
زحف اللسان الناري سريعًا بمحاذاة الأرض، محرقًا الأعشاب لحظة مروره، ملوّيًا الهواء، وتغلغلت رائحة لاذعة حارقة في الأنوف كالسكاكين
وما إن التهم اللهيبُ الخنزيرَ الجليديّ حتى بدا كفهد انقضّ على فريسته
التصق معجون قشور النار المحترق بفروه بإحكام، وانتشرت النار بسرعة على طول الدهن، وانفجرت سلاسل من نيران الزيت تحت الحرارة العاتية
نهيق نهيق
صاح الخنزير المربوط صرخة مأساوية، وعرّج بجنون، يجرّ الحبال ويندفع يمنة ويسرة، وأطرافه الغليظة كجذوع الأشجار—على الرغم من تقييدها—تنثر شررًا
وسط الدخان الكثيف المتدحرج، اسودّ فروه بسرعة، وانفجر الشحم، وامتلأ الجو برائحة كالجثث المشوية
شهق بعض المتفرجين وتراجعوا، وبعضهم غطّى أفواهه وأنوفه قسرًا، فيما ثبتت عيون أكثرهم على المذبحة الملتهبة
خفض سيلكو رأسه وضغط ساعة الإيقاف، يراقب تفاصيل التصاق اللهب والاحتراق واستجابة الهدف وهو يَعُدّ الوقت
عشر ثوانٍ، إحدى عشرة، اثنتا عشرة
بدأ اللهيب يضعف أخيرًا، وأطلق الخنزير أنينًا أخيرًا وخرَّ برطم، وجثته المحترقة ما تزال تدخّن، كأنها أثر من عالم الجحيم
بلغ الالتصاق التوقعات قال سيلكو وهو يمسح الدخان عن طرف أنفه وأومأ رشّة الاثنتي عشرة ثانية كانت مناسبة تمامًا، ولم يشطح الجمر قوة الإشعال اشتغلت من المرة الأولى بلا إبطاء الأداء مثالي جدًا
تقدّم وأشار إلى حزام كتف الفارس المتدرّب
مع ذلك فتركيب الحمل ما يزال قابلًا للتحسين الارتداد قوي أثناء الرشّ، وأحزمة الكتف ضيّقة، فتؤثر في ثبات التسديد
التفت إلى مايك يمكنك إضافة حزام خصر لتوزيع الصدمة، واستعمال جلد محشوّ لين لتخفيف الضغط
تم قال مايك
أما لويس فتقدّم ونظر إلى البقايا المدخّنة، ثم إلى الفارس الشاب الواقف بثبات، وربّت كتفه
أحسنت
وفي ذهنه كان يحلّل بسرعة عملية جدوى هذا السلاح المروّع في الميدان
إن كانت هذه هي القوة، ففريق من ثلاثة أفراد بالتناوب يكفي لقمع نقطة اختراق كاملة للعدو
وفوق ذلك، حتى الفارس المتدرّب استطاع السيطرة على القاذف بثبات، فكيف بالفرسان الأعلى رتبة
انطفأت النيران أخيرًا، ولم يبقَ سوى كومة من فحم حالك في وسط المفازة، وتخطيط خافت لما كان يومًا جزءًا من هيكل الخنزير في الرماد
بدّدت الريح الرائحة اللاذعة، وتقدّم الجميع ببطء، ما يزالون يتذوّقون المشهد الصادم الذي شهدوه للتو
انحنى سيلكو يفحص البقايا، وقرفص هناك ليتحسس سماكة الطبقة المتفحّمة وآثار الدهن، متمتمًا إنه فن خالص
حدّق لويس بصمت في جثة الخنزير المتفحمة، لكن مخيلته كانت ترسم ساحة معركة أخرى
قاذفات لهب، ومعها دروع مقاومة للحرارة تفصّل خصيصًا للفرسان—هذه ضربة قاتلة لطوفان الحشرات
هل يستطيعون القتال؟ غير مهم، أَحرِقْهم فحسب حتى الموت
أولئك القادمون من طوفان الحشرات بلا وسائل بعيدة المدى تقريبًا؛ كلّها عضٌّ عن قرب
ما إن تنطلق النار حتى يندفع طوفان الحشرات كالفراش نحو اللهب، لن يصمدوا حتى خمس ثوانٍ
انفلتت منه ضحكة واطئة، وومض في عينيه بريق برودة تكتيكية
هذا قمعٌ مباشر، قوةٌ ساحقة، سلاحٌ خالص أُعدّ لـ «خط الدفاع البشري»
تقدّم لويس ورفع يده يربّت كتف مايك
تابع دائمًا من المصدر الأصلي: موقع مركز الروايات. مكتبة بلا إعلانات وقراءتك معنا تضمن استمرار الترجمة.
عملٌ جيّد
فانتصب مايك في وقفته فورًا، ووجهه الملتحي مغمور بالحماسة، حتى إن كلامه سبق أنفاسه بنصف نبضة
هذا—هذا بفضلك يا سيدي تصميمك مذهل بحقّ أنا—ما كنت لأخطر ببالي مثل هذا البناء العبقري لو عشت ثماني عشرة حياة
توجيه الحرارة في هذه الفوّهة حين رسمته ظننته خربشة، فإذا به ينبض حياة لا بل مدهش إلى هذا الحد
اكتفى لويس بابتسامة خفيفة كأنه يصغي لنسيم عابر لا تُكثِر من الإطراء وأخبرني عن الثاني قالها بنبرة وادعة
توقف مايك لحظة، ثم هزّ رأسه بقوة كأن مفتاحًا دُفع نعم هذا الكنز الثاني—أجرؤ أن أقول إنه من أكثر أفكارك جنونًا
أسرع إلى الصندوق الحديدي الثاني، ومدّ يده، وبطَقة قفل حديد رفع غطاء القماش، فكشف عن أنبوب إطلاق سميك قصير ثقيل
جسم الأنبوب مسبوك من سبيكة حديد بارد، خطوطه حادّة ونقوش صهر خافتة على سطحه، تُشعر بوطأة هائلة
متصل بجانب منه حامل ثلاثي بسيط متين، مع مخالب فولاذية قابلة للغرز في أسفل القاعدة لتثبيتٍ أرضيٍّ راسخ
هذا قاذف قنابل سحرية قال مايك مستقيمًا وبنبرة جادة
ليس سلاحًا منفردًا، بل منظومة إطلاق كاملة—يمكنه التحوّل بين الوضع المحمول على الكتف ووضع الحامل بحسب حاجة الميدان
وبينما يتكلم رفع أنبوب الإطلاق، سانِدًا أسفله بيدٍ ووسطه بالأخرى، وأسنده بثقل على كتفه
كان قطر الفوّهة كبيرًا إلى حد أن رهبتها بانت حتى وهي خاملة
قنابل السحر الخفيفة أخف وزنًا ولها جهاز تسوية مضاد للارتداد، ما يمكّن الفرسان الرسميين من الإطلاق على الكتف في العمليات الحقليّة، فتناسب الكمائن أو حرب الكرّ والفرّ
لكن الأنياب الحقيقية لهذا الشيء هنا
انحنى يضبط موضع القاذف، وغرس الحامل في الأرض، وسحب المخالب الداعمة، ورفع أنبوب الإطلاق ببطء إلى زاوية خمسٍ وأربعين درجة
ثم أخرج رأس قنبلة سحرية ثقيلًا من قاع الصندوق
بعكس قنابل البارود التي تعتمد على انفجارٍ مادّي، هذه تضغط جوهر السحر في بلّورة قلبية، وتطلق موجة صدمة من طاقة سحرية مركَّزة عند الانفجار
هذه القنبلة السحرية الثقيلة قال مايك بهدوء وهي التي نجحت في الاختبار السابق
مثل هذا الكائن لا بدّ من إطلاقه بالحامل لا لنقص الأيدي، بل للسيطرة على الارتداد عند الإشعال إنه قوي إلى حدّ أن كتف المُشغِّل قد يتحطّم في الحال
أدخل الرأس بثبات في أنبوب الإطلاق، ضابطًا المحازاة بين النقوش والفجوات ثم تراجع نصف خطوة
رفع مايك نظره إلى لويس، وقد انحسر عن وجهه بعض يقين الصناع، وحلّت محلّه سكينة وجلال نادران
لا ندري أيّ عدو سيواجهه في النهاية قال لكن إن كان الهدف سورَ مدينة، فهو ببساطة سلاح حصار
ثم بدأ طور الاختبار
اختير موقع التجربة في بقعة متفحّمة، فسحة سوداء خلّفها اختبار سابق
الأرض محروقة قاحلة، أوتاد خشبية متفحمة وأجزاء حديد ملتوية تبقى، والهواء ما يزال يحمل أثر فحم ومعدن محترق
أشار مايك بيده، فجرّ عدة فرسان خنزيرين جليديين، موثوقين بإحكام، إلى مسافة محددة، وثبّتوهم عند علامتين عند ستين وثمانين مترًا على التوالي
كانا يتخبطان ويزعقان، وأنيابهما الضخمة تخدش الأرض، لكن الهرب غدا مستحيلًا
تقدّم سيلكو وهو يحمل أسطوانة معدنية ثقيلة، وأخرج قنبلة سحرية خفيفة
بدت كعلبة حديد بسمك نصف ذراع، بدنها كالح، ظاهرٌ أنه صُنع بالطرق البارد والمعالجة الحرارية، وفي قاعها «غطاء مفجّر جوهر السحر» دقيق فتاك
قدّمها ببرود كأن الأمر لا يعنيه المدى الأقصى للقنبلة الخفيفة نحو مئة خطوة، بدفعٍ من جوهر السحر، يصلح أن يرميها سرب الفرسان يدويًا أو يطلقوها على الكتف نصف قطر الفتك الشديد عشرة أمتار، والاحتراق حتى خمسة وعشرين مترًا نقطة الانفجار دقيقة قابلة للتحكم
بعد حديثه، صعد فارس رسمي طويل القامة إلى موقع الإطلاق، وأدخل القنبلة بثبات في أنبوب الإطلاق
شدّ الحلقة الضابطة، واستهدف هدف الستين مترًا، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم جذب الزناد جذبًا حادًا
فوووش
بطنينٍ مكتوم، قفزت القنبلة السحرية قوسًا في الهواء، وخلفت ذيلًا خافتًا من هالة سحرية وهي تطير نحو الهدف البعيد وفي تلك اللحظة أدار ويل رأسه غريزيًا اتقاءً للضوء
بوووم
انفجرت كرة نار برتقالية حمراء لافحة في البعيد فجأة، كأن كفًّا متّقدة عملاقة هوت على الأرض
اندفعت ألسنة اللهب إلى السماء، واجتاحت موجات الحرارة الحارقة المكان، حتى خُيّل أن السماء كلها اشتعلت
دوّى انفجار الموجة الصادمة كالرعد المتدحرج، وارتجّت الأرض قليلًا
التهمت النار خنزير الستين مترًا في لحظة، وذابت دروعه الجليدية، وتشقّق اللحم، وتفتت العظم غبارًا في العصف
أما الذي على بعد ثمانين مترًا فتأثّر هو أيضًا، واسودّ جسده، وتعاقبت صرخاته الواهنة
ارتفع دخان أسود كثيف قرب مركز الانفجار، وارتجّ حتى سقف المأوى الاختباري على بُعد مئة متر، فسقط غبار
يا للعجب تمتم ويل وتراجع نصف خطوة، وعيناه ممتلئتان بالذهول
وتبدّلت وجوه الفرسان اليافعين المرافقين، فكثيرون سدّوا آذانهم، وظهر على محيّاهم الخوف
حتى الفارس النخبة إن أصابه هذا مباشرة بلا درع طاقة قتالية فالأغلب يُقعده أو يفجّره في الحال
ومع كل هذه القوة الجارفة لم يزد لويس على أن ضيّق عينيه، وارتسم على وجهه الرضا
على النقيض، كان سيلكو قد ابتعد منذ البداية
فهو بالطبع يعرف القوة الحقيقية لهذه «القنبلة الخفيفة»، إذ صنعها بيديه
غير أنه لم يعشق النسخة المنجزة، فهي نسخة مُساومة نقص معجون قشور النار فاضطر إلى خفض حرارة الاشتعال وشدة الانفجار، بالكاد لِيُنتِج دفعة قتالية خفيفة
وكان مايك قد نهض يمسح الغبار، وحماسته تكاد تفيض على وجهه
لم تَخْمد ذيول الانفجار بعد، وما زال الهواء مفعمًا برائحة الاحتراق والبارود
وقف لويس في مكانه يحدّق في منطقة الهدف التي غدت نصف حفرة، وبعد برهة طويلة أومأ
قوة الانفجار مقبولة، تكفي
قالها بهدوء، فما إن سمع مايك حتى لمعت عيناه وصار كمن ابتلع حبّة نشاط صغيرة
ولما رأى رضا لويس، انتقل مايك إلى الاختبار الثاني
رفع يده نحو لويس وارتفع صوته الآن ننتقل—إلى مرحلة اختبار القنبلة السحرية الثقيلة
حمل سيلكو القنبلة الثقيلة من الصندوق الثاني بعناية، وحركاته ثابتة، بيد أن أطراف أصابعه ترتجف قليلًا، كأنه يحمل أداة مكرّمة
كان مظهر القنبلة شبيهًا تقريبًا بالخفيـفة، بدن معدني قصير سميك ثقيل، ولا تبدو الفروق إلا بالتدقيق
لكن الفارق الحقيقي كامَن تحت الغلاف الداخلي، حيث يجري معجون قشور النار ببطء كعروق لافا داخل المعدن، يطلع وميضًا أحمر برتقالي، نافثًا إحساسًا بحرارة لا تُحتمل
وفي قلبها ترقد بلّورة سحرية من بلاتين أحمر، يختلج ضوؤها الشديد بلا ارتياح، كقلب مشتعل قد ينفجر في أي لحظة
انعكس الوميض في عيني سيلكو، وخرج صوته واطئًا مبحوحًا محشوًا بنشوة وفخر لا يُكتمان هذه ذات نصف قطر فتك شديد يبلغ خمسين مترًا، وتُحدث إصابات موجة صادمة قاسية حتى ثمانين مترًا، وتقترب حرارة مركز الانفجار من ألفي درجة مئوية
وبينما يتكلم لم يستطع منع ابتسامة فائرة، وكأن التعب والدهن على وجهه تلاشى ولم يبقَ إلا الجنون والإنجاز الخالصان
تقدّم صانعٌ فورًا، وثبّت الحامل بمهارة، وزرع هذه القنبلة الثقيلة في مجرى الإطلاق
بدأ جهاز دفع بلّورة النار يهمهم، كزئير منخفض لكائن ما
ارتفع الميل ببطء حتى استقرّ عند خمسٍ وأربعين درجة، موجّهًا إلى قاعدة جبل صخري صلب على مسافة ثلاثمئة خطوة
كانت هذه تجربة هجوم بعيد المدى مخططة بعناية
طبقات الصخر في قاعدة ذلك الجبل صلبة، وفيها عروق حديد بارد وجليد عميق، لا تقوَى متفجرات عادية على كسرها
وما إن أنهى الصانع العدَّ التنازلي حتى سُحبت الفتيلة، وزمجرت القنبلة الثقيلة خارجة من الأنبوب
باانغ
خطّت القنبلة مسارًا قرمزيًا، وخلفت ذيلًا ملتهبًا كنيزك وهي تشقّ السماء، وطارت قرابة ثلاث ثوانٍ قبل أن تصيب قاعدة ذلك الجبل بدقة
بوووم—غرررم
في تلك اللحظة، كأن سيّد النار هَوَى بمطرقته فحطّم عمود الشمال الفقري
لم ينفجر سطح الجبل فحسب، بل انهار من الداخل تمامًا
حفر مركز الانفجار فجوة متفحّمة بعمق عدة أذرع وبقطر عشرات الأمتار، وانصهر الصخر في التو، وحفّت الحواف نيران قانية متدحرجة، كأن حلق الجحيم انفتح
اندفعت تيارات هواء فائقة السخونة وشظايا صخر، واكتسحت سفح الجبل
انهار جانب التل كله، وتبخّر الثلج المتراكم بالهواء الحار، وتفحّمت التربة المكشوفة في اللحظة، ورُسمت أخاديد حَرْق طويلة تشققت الأرض كأن مخالب عملاقة مزّقتها
والأدهى أن الفُوّهة لم تنفجر فحسب، بل أخذت تقذف لهيبًا أحمر داكنًا تكوّن من اشتعال معجون قشور النار
رقصت النيران بجنون عند سفح الجبل، تعوي بلا انقطاع في الريح، حتى إن تشوّهات حرارية مرئية ظهرت في الهواء
مع أنهم وقفوا في نقطة رصد على بُعد مئة متر، أحسّوا بحرارة لا تُطاق، كأن الهواء اشتعل، حتى النفس صار يحرق، ولفحتهم موجات الغبار وأُذِنَت طبولُ آذانهم
كان ويل أول من هتف هذا ليس انفجارًا—هذا حفرٌ جوفي هذا—نار تلتهم الجبال
ردّ مايك وهو يحدّق في قاعدة الجبل المنهارة المحترقة بصوتٍ خفيض هذا معدّ للحصار لقذيفة واحدة أن تدمّر سور مدينة
ظلّ الجبل يقرقر وينهار، والنيران تتمدد، تأكل الثلج المتراكم، وحتى عروق الغاز الطبيعي تحت الأرض اشتعلت، فتعاقبت طقطقات مكتومة وقذفت نيرانًا داكنة أكثر، كأن بركانًا خرج إلى سطح الأرض
انقضت ثلاثون ثانية كاملة ولم تخمد النيران بعد، وما يزال مركز الانفجار يفور بمدٍّ من اللهب، كأن «عين اللهب» قد فُتحت ولم تُغلق
ساد الصمت، والهواء ممتلئ برائحة الشواء، والحر والهدير يطولان
اتّسعت عينا ويل، ولم ينتبه إلى خدش دمٍ على جانب وجهه بفعل الغبار الطائر لو كنت واقفًا هناك لما بقي مني حتى رماد
وكاد سيلكو يعجز عن كتمان نشوته
حدّق في اللهيب المتدحرج، وعيناه ممتلئتان فخرًا ورضًا متطرفًا
هذا سلاح صنعته بيدي هذه صيغة الهدم التي ركّبتها بنفسي
وما هو أهمّ، أن هذه ليست أقوى نسخة
رفع مايك رأسه نحو قاعدة الجبل التي ما تزال تنهار، وخفُت صوته على نحو غير مألوف هذا ليس سلاحًا عاديًا
إنه مزجٌ بين انفجار ونارٍ جحيمية
التفت إلى لويس وقال بنبرة ثقيلة سيدي، مثل هذا الشيء—ليس لفتح الطرق، بل لإنهاء الحروب
أومأ لويس ببطء ابدأوا الإنتاج الكمي فورًا من المرجّح—سنحتاجه قريبًا
202
في القبو البارد، كانت ألسنة النار تومض
وُضِع التابوت في الوسط من خشب قاتم صلب، وغطاؤه غيرُ موصدٍ تمامًا
في الداخل رقد جسدُ صبيٍّ صغير، آيك، وهو فتى في الثانية عشرة من سنِّه من جماعة سنوسوورن
كان لويس قد جعل إقليم فجر الشتاء ينقله قبل أيام، والسبب بسيط: قد تكون هناك عِلَّة، فأُعيد لأجل البحث
لم تكن لديه مشاعر خاصة تُجاه الجثة نفسها، إنما أعادها لأنها ترتبط بـعش الأم
قال لويس وهو يشهق شهيقين خفيفين، مائلاً برأسه ينظر إلى شقيقه الأكبر بجواره: بجدّية، هل سقطتَ يومًا في حفرة قذارة ولم تغتسل جيدًا؟ لماذا هذه الرائحة أعقد من رائحة الجثة
لأن كومةً من القذارة تقف بجانبي، حدّق فيه إدواردو بنظرة حادّة وقال بنبرة هادئة لا تتزعزع: لولا أن المكان غير مناسب لألصقتُك بالجدار الآن
ضحك لويس وأمال شفتيه مبتسمًا، ولم يغضب، بل أدار رأسه ليشمّ بجدية بدل ذلك
بعد عدة لقاءات، صارَت علاقة الشقيقين أكثر أُلفة، وكلاهما يميل إلى الممازحة، لذا لم يكن في المداعبة بأس
قال إدواردو ببرود: سأستخدم موهبة سلالتي، عليك أن تخرج قليلًا
لم يتحرّك لويس كأنه لم يفهم معنى تفضّل بالخروج، بل رفع حاجبه قائلًا: آه؟ إذن موهبتك لا يجوز لغيرك أن يراها وتحتاج أن تستخدمها بمفردك
لويس، ثقلت نبرة إدواردو قليلًا، أنا جاد، اخرج
كلما ازددتَ جدّيةً ازددتُ شعورًا بأن أمرك مريب، فتح لويس كفّيه معبّرًا عن عجزٍ مصطنع: هل تتطلّب موهبتك أن تتعرّى لتستخدمها
هذه آخر مرة أقولها، رفع إدواردو رأسه
هزّ لويس كتفيه أخيرًا ومشى نحو الباب يتمتم وهو يبتعد: حتى شقيقك الأصغر تتحفّظ منه، لقد فشل تعليم الأب
لم تتغيّر ملامح إدواردو، لكنه شدَّ طرف عباءته على نحوٍ لا إرادي، كأنه يُخفي شيئًا
لم يرد أن يكذب، ولم يستطع قول الحقيقة
ففي ثيوقراطية زهرة الريش الذهبي هو مبعوث الأسقف، وفي هذه الإمارة هو ابنُ أحد الدوقات الثمانية العظام
سمحت له أسبابٌ خاصة بالتنقّل بين قوتين متعاديتين، محافظًا على توازنٍ دقيقٍ وخطِر
كانت الضغينة بين إمبراطورية الحديد والدم وزهرة الريش الذهبي عميقةً للغاية، شقًّا لا يقدر على رأبه
لكن لويس كان قد اطّلع سرًّا على كل هذا عبر نظام الاستخبارات اليومي
كان يعلم أن إدواردو قادمٌ من الكرسي المكرّم، ويعلم أن مهمته الحقيقية في هذه الرحلة إلى الشمال هي التحقيق في اختفاء الساحر الأكبر يورغن لوكن
ومع ذلك، لم يفضحه لويس
أولًا، لأنه لا حاجة لذلك
وثانيًا، لأن— انغلق باب إدواردو بطنينٍ حاد، وتردّد الصدى تحت قبو القنطرة الحجرية
عاد السكون إلى السرداب، ولم يبقَ سوى إدواردو وتابوت الصبي
زفر زفرةً خفيفة
هذا الأخ الأصغر، بدقّةٍ أكثر، هو أخٌ لم يلتقه إلا مرات قليلة
كان يظنه في البداية هادئًا رصينًا حذرًا
فليس يسيرًا أن يزدهر المرء في مكان كالشمال ويغدو خلال زمن قصير فيكون فيكونتًا
كانت انطباعاته الأولى كذلك فعلًا، لكن بعد المعاشرة تبيّن له أن هذا الشخص يطلق نكاتٍ غريبة أحيانًا، حتى إنه يتركه عاجزًا عن الرد
ابتسم إدواردو ضاحكًا بخفوت وهزّ رأسه
ثم طوى هزلَه وأخذت ملامحه تزداد وقارًا
أخرج أنفاسه ببطء، ومدّ يمينه، فإذا على كفّه نقشٌ ذهبي يشبه الريشة وليس بريشة، ترتجف أنواره الذهبية قليلًا، كضياءٍ سماوي يتفتح هادئًا في اللحم والدم
انحنى قليلًا ووضع راحة يده برفق فوق صدر آيك
في اللحظة التالية فُعِّلت النعمة العظمى
انداح ضوء النقش الخافت كموجٍ متتابع، يمتد عبر اللحم والعظم وأصداء الذاكرة
تجلّت حياة آيك القصيرة المأساوية في سكون، متشابكةً ومترنّمةً في أعماق وعيه شذراتٍ شذرات
رأى إدواردو طفولة آيك
في غارةٍ لافحة، وُلد رضيعٌ وهو يبكي
امرأةٌ شاحبة تمسك أسفل بطنها ناولةً الطفلَ لرجلٍ ملطّخٍ بالدماء ويدها ترتجف
قالت همسًا أخيرًا: اسمه آيك، ثم خبت كشمعةٍ عصفت بها الريح
لم تكن لآيك حضنُ أمّ، بل أيدي محاربين خشنة وخيام تنضح برائحة البارود
كل صباح يقف آيك على ربوة ثلجٍ للحراسة، والريح الباردة تعصف بعباءته، كأنه رجلٌ صغير
وكان أحبُّ الأوقات إليه حين يعود إلى المخيم عند الغسق، فيجتمعون حول النار، ويصغي إلى أبيه يقصُّ حكايات المجد
سترتديه يومًا ما، قال تاكارين مشيرًا إلى عباءة المجد على كتفه
حينها آمن آيك بأنه سيغدو بطلًا في النهاية
أومأ، وفي عينيه الصغيرتين ثبات
وشعر إدواردو بخوف الصبي المكظوم
لكن في يومٍ ما توقّف هيريك فجأة عن المزاح، ووقفت أولا بصمت عند طرف المخيم ليلًا تحدّق في السماء
وكان أبوه يعضُّ على أسنانه وهو نائم ويتمتم بكلماتٍ لا تُفهم
وشعر بالفطرة أن المخيم المألوف صار غريبًا
عضَّ شفته ودفن خوفه في صدره
لم يكن الغلام يعرف ما الذي يحدث، لكنه كان يعرف أنه لا ينبغي أن يقلق أباه
وعاين إدواردو تلك الهربَة
في جوف الليل شدّ الأبُّ يد آيك بقوة وهما يفرّان
مزّقت الريح الباردة عباءتيهما، تعثّر مرارًا، وسُحجت ركبتاه حتى سال الدمُّ وتجمد قشرةً على ساقيه
اذهب جنوبًا، ولا تلتفت
قالها أبوه بصوتٍ منخفض بارد حتى كاد لا يكون صوت بشر، لكنه نفذ إلى أذنيه كالحديدة وطعن قلبه
وماذا عنك أنت، همس آيك
فجاءه الجواب وقعُ أقدامٍ مفاجئ من غابة الثلج القريبة
التفتا، فإذا وجوهٌ مألوفة تقف على الثلج، برو، هيريوم
الأعمامُ والشيوخ الذين شربوا وقاتلوا إلى جانب أبيه من قبل، يقتربون ببطء كأن خيوطًا تشدّهم
سَلَّ والده سيفه وزأر وهو يلاقي إخوته السابقين
تلون الثلج بالدم، وشقّت الزئيرات عنان الليل
وألقى آيك نظرةً أخيرة إلى الوراء، وكانت تلك آخر مرة يرى فيها أباه
وشهد إدواردو نهاية الصباح
مضى آيك وحيدًا يترنّح في الغابة البيضاء المترامية
يسقط ثم يقوم ثم يسقط، حتى عجز أخيرًا عن الوقوف
كانت قدماه الصغيرتان ملطختين بالدم، وقبل أن يهوي كان لا يزال يقبض على الشارة والخنجر العاجز
كأنه يحرس شيئًا أو ينتظر أحدًا
تسلّلت أشعة الشمس عبر فجوات الأشجار وهبطت على جسده الصغير المتيبّس، كوداعٍ صامت
انتهت الرؤيا
اعتدل إدواردو ببطء وقد ابتلّت عيناه بالدمع
لم يكن ذلك وهمًا ولا معاينةً لذكرى بعيدة، بل غرسُ حياة، كأنه عاشها بنفسه
لم تكن النعمة العظمى عطيةً رقيقة، بل ثمنًا ثقيلًا من المشاطرة الحسيّة
غرز خوفُ آيك ويأسُه وعنادُه وتمنّيه الذي لم يتحقق كالإبر الفولاذية في أعصابه
شهق وهو يمسح الدموع بظاهر كفه، وكلما مسح ازدادت الرؤية غبشًا
ابيضّت عقد أصابعه وهو يقبض على كمّه محاولًا أن يوقف الرجفة، لكن جبلًا من الإرهاق ضغط عليه حتى كاد لا يثبت قائمًا
كان ذلك ألمًا يسحقهُ الوجدان، ليس ألمَه، لكنه موجِع كأن القلب ينكسر
أسند ظهره إلى الجدار الحجري البارد وأغمض عينيه ولزم الصمت برهةً طويلة
وأخيرًا انحسر ذاك الانفعال المؤلم قليلًا، وتراجع عن أطراف أصابعه كموجٍ يبتعد، ولم تبقَ سوى العَقْلانية تعود ببطء
أخذ نفسًا عميقًا، وزفر نفسًا أبيض مَشُوبًا بالبخار، وبدأ يرتّب ما رآه وشعر به
أولًا، إن آيك تواصل حقًا مع عش الأم قبل موته، أو بالأحرى مع بقايا طاقةٍ ذهنيةٍ صادرةٍ عنه
ثانيًا، إن تلوّث عش الأم لا يقتصر على الجثث، بل يملك قدرةً على نخرِ عقول الأحياء خفيةً وصامتةً ومن غير أن يُدرَك
أدار نظره إلى التابوت الذي لم يُغلق إغلاقًا تامًا، وعيناه لا تُخفيان شفقة
ثالثًا، إن الحصن الذي فرّ منه آيك وأبوه، والتابع لسنوسوورن، ليس على الأرجح مخيمًا عاديًا بحسب أصداء الوعي، بل خليةٌ لـعش الأم مُقنّعةٌ في صورة حصن
انفتح الباب بطنينٍ حاد، ونفذ منه عبق قبوٍ رطبٍ بارد
قال لويس الذي انتظر بالخارج ملولًا وهو يShrug: أخيرًا ستدعني أدخل؟ ظننتك ترقص متعرّيًا هناك
كفّ عن المزاح، قال إدواردو بصوتٍ منخفض ووجهٌ متجهّم، لدينا مشكلة
تصلّبت ملامح لويس واختفى المزاح من فمه في لحظة
دخل يتبعه، وبعد أن أنصت إلى تقرير إدواردو صار وجهه أكثر جدية
تلوّثٌ يصيب الأحياء، وحصونٌ متخفّية، وربما تفريخٌ تحت أنوفنا مباشرة، ردّد لويس بصوتٍ خافت ولمع في عينيه بريقٌ بارد خطِر
لم يُطِل الكلام، رفع يده وصفّق بأصابعه
لتنطلق فرسان الاستطلاع، والهدف المنطقة ضمن ثلاثين ليًّا حول إقليم فجر الشتاء، لا بد أن تعثروا على حصن سنوسوورن
على الفور جاءته ردودٌ من الخارج، تصكّ الدروع، وتركض الخيول، وتنسحب الأشكال بانضباط
عندها حوّل لويس وجهه إلى أخيه الأكبر الصامت، وهبط صوته حتى كاد يكون همسًا
إن كان ذلك حقًّا عش الأم، توقّف لحظة، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خبيثة خفيفة، فهذا ممتاز، كنتُ أتساءل إن كان سيفي حادًا بما يكفي
تساقطت أوراقٌ من السفح، والريح الدوّارة تُحرّك أغصانًا يابسة، والغابة صامتة كأن العصافير رهبت أن تُغرّد
لضمان دعم المترجمين، اقرأ دومًا رواياتك من موقع مركز الروايات، مكتبة بلا إعلانات وأكبر منصة عربية للروايات.
وبأمر لويس بدأ سِرْبُ فرسان الاستطلاع من المدّ الأحمر مسحًا منظّمًا لمحيط ما قيل إنه حصن المتعهّدين المختارين
موقع مركز الروايات هو المصدر الأصلي لهذه الرواية. خالٍ من الإعلانات، ومتابعتك هنا تمنح المترجمين الحافز لترجمة أعمال أكثر.
بعد يومين وليلتين من الاستطلاع، عثرت مجموعة صغيرة أخيرًا على مستوطنةٍ غير مسجلةٍ بعيدًا على سفح تلٍّ في عمق غابة الشمال الكثيفة
كان كاسلو يربض خلف صخرة وعبوسه مُحكَم
إنه قائدُ فريق الاستطلاع هذا، خبيرٌ رزين، وكانت عيناه الآن معلّقتين بالقرية الغريبة أسفل السفح
مكان خارج الخرائط، ومع ذلك فيه حصنٌ كامل، يا لجرذانٍ نتنة
قالها بصوتٍ خفيض
كانت بيوت المستوطنة خشنةً بسيطة، أغلبها أكواخٌ خشبية مائلة وجدرانٌ من ألواح حجرية
لكن ما يُدهش أن عدة أبراج مراقبة وسِهامٍ خشبية سليمة البنيان ما تزال تعمل كأنها مُصانة بعناية
لم تكن قريةً نشأت自然يًا، بل حصنًا عسكريًا منظّمًا من نوعٍ ما
وما هو أعجب هم الناس
فهم ليسوا قرويين عاديين، بل من سنوسوورن
علامات عظام الكتفين، وأثر الدروع، والجلادات في الأكف، والشارات الباقية على الأحزمة كلها دلّت على ذلك
إنها وحدةٌ كاملة
رجالٌ مكتملو الأجسام أشدّاء، كانوا قد أقسموا أن يموتوا لأجل معتقدهم، شجعانٌ مهرة في القتال
أما الآن فواقفون جامدون كتماثيل منزوعة الروح، عند حافة الطرق، وتحت الأروقة، وفي أبراج الحراسة
حدّق كاسلو فيهم مليًّا وجفَّ حلقه
رأى رجلًا ضخمًا كالدب يرتدي درعًا جلدية ممزّقة ويقبض فأسًا عظيمة صدئة، ومع ذلك كان منتصبًا أمام كوخٍ خشبي، يحدّق في زاويةٍ ما نصف ساعة كاملة دون أن تهتزّ له حاجب
ليس تيقّظًا ولا حراسة، بل غَوْرٌ في شيءٍ آخر
أهمس آلان: هل هم شاردون
لا، جاء صوت ريو بالكاد يُسمَع، إنهم ببساطة لا يريدون الحركة
ضيّق كاسلو عينيه ببطء: ليست المشكلة أنهم عاجزون عن الحركة، بل أنهم لا يريدونها، إنهم عالقون، كأن حلمًا مقيمًا في أجسادهم يسحقهم، حتى إن العضلات نسيت كيف تنقبض
رأى الكشّافون محاربًا من سنوسوورن مسندًا رأسه إلى عمودٍ خشبي، مائلًا إلى الوراء بجمود وفمه نصفُ مفتوحٍ كأنه يترنّم بكلماتٍ عتيقة بصمت
غير أن شكل فمه والإيقاع والنبر كانت كصدى مشوَّه تحت الماء حتى ليحكّ القلب
ألا تشعرون أنهم ليسوا أحياء حقًّا، قال آلان بين أسنانه، لكن أنفاسهم واضحة
واصلوا الرصد، وكلما طال ازداد المشهد قشعريرة
كان أحد محاربي سنوسوورن يلمّع سكينًا بينما يلمّع الهواء، إذ لا سكين في يده أصلًا
وشخصٌ يتدرّب على الرمي وقفته معيارية للغاية، وما أمامه شيء
ومحاربةٌ طويلة واقفة على منصة تجفيف، تغمرها الشمس، رافعة ذراعيها كأنها تُحيّي شيئًا
هذا مشيُ نوم، تكلّم ريو أخيرًا، إنهم ما يزالون يذكرون حركات القتال وعادات التدريب، لكن لسببٍ ما كأن القرية كلها سقطت في حلمٍ مشترك، تكرّر فيه أمور فقدت معناها منذ زمن
هم ليسوا مجانين خارج السيطرة، تمتم كاسلو، إنهم دمى واعية
فجأة شهق آلان وهو يحدّق إلى البعيد
عند مدخل القرية وقف رجل من سنوسوورن بجوار سورٍ خشبي لا يتحرّك، تمثالُ نوبة
ذلك الشخص فجأةً حرّك مقلة عينه قليلًا يكاد لا يُرى، فتطلع مباشرةً إلى حيث نكمن
ظهرت شعيرات دمٍ خفيفة في تلك العينين الميّتتين، تتشابك وتتحرّك كخيوط عنكبوت
هل رآنا، ارتجف صوت آلان
لا، جرّهم كاسلو إلى الخلف، لم يَرَنا، لقد رأى شيئًا في حلمه
لا نستطيع المشاهدة أكثر، حسم أمره فجأة وقال بصوتٍ باردٍ صلب، إن واصلنا سنعلق نحن أيضًا
أأُشعلها الآن، همس آلان وقد عضّ على أسنانه
رمقه كاسلو وقال بصوتٍ منخفض حازم: لا، السيّد يريد استخبارات، والإحراق سريعُ الارتداد
أومأ آلان وريو معًا: مفهوم
انحدروا عن الجبل سريعًا دون أن يقولوا كلمةً أخرى
هبت الريح في غابة الجبل تُحنْحن حوافّ عباءاتهم، واندفعت نحو القرية الساكنة المخيفة في الوادي أسفلهم
لا نباح كلاب ولا دخان مطابخ
مجرد أولئك الذين يهمسون في رفق، أحياءَ كأنهم يمشون نيامًا، يكرّرون ببطء تلك الجُمَل التي لا معنى لها الآن