في المكتبة حيث كان هارو يجلس يراجع المشروع الذي تبرعت به كيوكو.. سرح قليلا بخياله مفكرا، هل حقا تلك الآنسة لا تملك شيئا ضده أم أن أباه قد أرسلها خلفه، هارو يعلم مدى إصرار والده ويعلم أيضا هوسه بما يسمى بال "بلا أسماء" .. في الواقع هارو كان ليكون سعيدا بالمضي قدما وتولي شؤون عائلته.. كان ليكون فخورا بالسير على خطى جده.. جده الطيب الذي لطالما منحه شعور الأمن ورائحة السلام.. حتى والده المجنون كان يكن لجده أشد الاحترام والتبجيل ولطالما اعتبره قدوة يحتذى بها ... لكن الأمور أخذت منحى غريبا بعد موت جده....
أفاق هارو من شروده على يد تضغط على كتفه، فمال بعينيه ليرى من هذا الواقف بجانبه، أغمض عينيه ببطئ ثم قال بصوت رخيم:
- يوليوس .. اجلس لدينا بعض الأمور لمناقشتها ..
سحب يوليوس كرسيا من الجانب الآخر للطاولة ثم جلس حِذاء صديقه وقد أمال الحاسب المحمول قليلا إلى جانبه قائلا:
-المشروع؟! متى اعدتته
- لست أنا من أعده ...
-منذ متى بدأت في التخلي عن مبادئك الكنفشيوسية أو أيا كان ذلك
صفق هارو يديه بقلة حيلة قائلا:
-ومن السبب برأيك؟ يجب تقديم المشروع بعد يومين ونحن لم ننجز شيئا منه بعد!! ربما تكون تحت رعاية ذلك الدكتور الشاب لكن أنا في الجانب الآخر من الكفة لا قدم لي ولا ساق في هذا البلد... تعلم جيدا أنني رميت كل شيئ خلفي.. هناك .. بعيدا في اليابان
رد يوليوس بنبرة حادة تنم عن انفعال مخفي:
-كيف أكون تحت رعاية ذلك المزعج بالضبط!! ثم لماذا فجأة تذكر ماضيك وما تركته خلفك.. إن كنت نادما فعد فقط !
اتسعت عينا هارو في صدمة ثم ابتلع كلماته .. لحظات فقط حتى استعاد توازنه ثم قال:
-ااا يوليوس ... اممم ... حسنا آسف ... أعتذر .. الأمر ومافيه أن أختي قد طلبت من كيوكو-لوح بيده بعشوائية- هذه ابنة مرؤوس لعائلتنا أن تنجز المشروع من أجلي ... -زم شفتيه ثم أكمل- هذا ما جعلني أذكر الماضي.. أنا قلق من أن والدي أرسلها خلفي، لكن في نفس الوقت أنا أثق بهانا..
تأمل يوليوس نظرات هارو المترددة وكأنه طفل يحكي لأمه أنه أفسد شيئا ما.. يريد أن تضمه لتهدأه لكنه يخاف أن يتلقى صفعة قاسية تلفح خديه.. تأمل يوليوس نظرات هارو في حيرة ثم نطق أخيرا:
-حسنا... لا بأس، لا أظن أن أختك ستزعجك بشيئ من هذا القبيل... ثم أليست هانا هي وريثة شرعية لأملاك عائلتك؟ أليس من المعقول أن تكون هذه المرؤوسة قد جاءت خلف هانا وليس خلفك؟
تنهد هارو بعمق قائلا:
-هذا احتمال مخيف أكثر... الموضوع يتعدى مجرد إرث ثقيل ومسؤولية كبيرة ...
يوليوس: -مخيف؟؟
لم يرد هارو ولم يوضح كلامه إلا أنه صفع وجهه بقوة حتى احمرت خداه ثم انتفض من مكانه واقفا ثم راح يمارس بعض التمارين الرياضية في سبيل التخلص من الطاقة السلبية قائلا:
-لا فائدة من القلق من المجهول.. دعنا نقلق من المعلوم!! ليس لدي ما يكفي من الرفاهية للقلق حتى، ثم إنني نجوت من عرين الشيطان... أنا الآن أقوى يا جدي!!
أسند يوليوس خده على يده قائلا:
-جن الولد
ثم راح يتفقد المشروع ويدقق في التفاصيل، جلس هارو بجانبه مجددا وراحا يتناقشان حول المشروع ويضيفان أشياء ويتخلصان من أشياء أخرى..
-جرت العملية بسلاسلة
هذا ما قاله هارو
رد يوليوس الذي شبك يديه تحت ذقنه ثم قال:
-لا ينقصنا الآن سوى الموقع.
قال هارو فزعا:
-موقع؟؟ موقع ماذا؟؟ موقع بنااء!! أليس هذا مبكرا.. ثم إنني مفلس تماما.. أبي سحب بطاقاتي الائتمانية.. ثم ثم أختي نعم أختي سأستعين بها...
سحب يوليوس الكرسي من تحت هارو ليسقط أرضا متألما ثم قاطعه مباشرة قبل أن يبدأ طوفان السباب والشتيمة :
-اخرس قليلا واسمع حتى الأخير، نحن نحتاج موقعا إلكترونيا .. إلكترونيا!! هل سمعت أيها الأحمق
قال هارو وهو يقف متوجعا واضعا يده خلى خصره:
- قل هذا من الأول وأرحنا... إذن قلت موقع إلكتروني.
ما هي إلى لحظات حتى نزلت الصاعقة على هارو... ثم صب الماء المجمد عليه... نعم لحظة إدراك كبرى... موقع إلكتروني يعني برمجة.. ثم ولصدفة ما هو طالب هندسة معمارية لا يمتلك أدنى خبرة في مجال البرمجة، لنقل أن برامج الهندسة كانت عدوه اللدود مذ وطأت قدماه الكلية.. وقد استطاع بشق الأنفس التعود عليها.. قلنا تعود.. بالضبط تعود.. فهو لم يفهم مطلقا تلك الخوارزميات والخزعبلات التي تقوم عليها... والأسوء أن صديقه هذا الجالس بجانبه يشاركه نفس النقطة.. يوليوس ورغم ذكائه الفذ إلا أنه لم يكن مهتما بأي شيئ ..طبعا ليس لأنه كان يستمر في الركض وراء تلك الفتاة بالطبع ...
أرخى هارو جسده على كرسي واضعا يده على وجهه في حسرة كمن غرقت سفنه في البحر :
-نعم لقد كتب علينا الفشل!! الفشل ولا شيء غيره!
يوليوس: -لا تكن دراميا.. ما المقلق بشأن موقع إلكتروني، فقط مجرد شأن تافه تكميلي...
هارو مقاطعا إياه بحنق:
-قلت تافه؟! لنرى يا سيد متفائل أعد هذا ألموقع التافه بحلول الغد وأرحنا..
يوليوس: -ولماذا علي فعل ذلك؟ لدي ما أفعله لذا دبر أمورك فقط.
هارو بامتعاض: -أموري!! الآن صارت أموري أنا!! يولي كما تعلم اسمك مكتوب هنا -أشار بسبابته إلى الحاسب- يعني أننا على نفس الجانب ! سنغرق معا أو ننجو معا!!
يوليوس: لا يهمني أخبر تلك الفتاة أن تكمل خيرها أو أي أحد من معارفك ..
صر هارو أسنانه فاقدا السيطرة على نفسه، كيف له أن يمتلك مثل هذا الصديق المهمل ثم كيف صار صديقه حتى...
...................
- ما بك؟ هل هذه أول مرة ترى فيها دما
كان هذا يوليوس المغطى بدماءه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه... تلوث شعره الحريري بالدم والتراب.. عيناه أصبحتا قرمزيتان من الدم وكأن عروق عينيه قد انفجرت ألما وغضبا فأدرت كل هذه الدماء... ملابسه ممزقة هنا وهناك، هذه آثار طعنات وهذه سيول دماء تنبض منها... هناك أيضا آثار كدمات في كل مكان من جسمه..لا بد أنه حصل على بعض الكسور لكن!! لماذا يقف شامخا؟؟ مع كل هذه الدماء لم يترنح حتى!؟ ثم لماذا هو هنا ؟
ابتسم يوليوس بإشراق وقد مسح الدماء من على وجهه:
-قف أيها المدلل .. أنا هنا!
...................
لمح يوليوس طيف ابتسامة عابرا على وجه هارو الذي كان يشتعل غضبا ثم قال هارو:
-نعم أنت هنا لتغيضني فقط!!!
يوليوس: ؟؟؟؟؟؟؟؟
لمعت عينا هارو وقد أدرك شيئا مهما لوهلة:
- لقد وجدتها!! رون!! صديقي العزيز رون! ألا يدير شركة ما.. سمعت أنه ذكر شيئا ما عن أنه مبرمج أو هاكر ... يمكننا طلب المساعدة منه
رد يوليوس وقد عقد حاجبيه:
-صديقك المفضل؟ الذي التقيته البارحة؟؟ الآن أضحى صديقك المفضل، ثم بعد ساعات قليلة تريد طلب معروف منه... كيف تعرف الصداقة في قاموسك؟
هارو: -أنت آخر من يتكلم عن مفهوم الصداقة
ثم أضاف: -أكره الاعتراف لكنك على حق.. سأخجل إن طلبت هذا وأنا لم ادعه حتى لكوب من القهوة...
رد يوليوس ساخرا: -واو حتى هاروكي يعرف كيف يخجل
هارو: ماذا تظنني حقا!!! على كل -بأعين متوسلة كقطط صغيرة تطلب اللعب- هل يمكنك الاتصال بإنجي ؟ هو لن يرفض طلبا لأخته الصغيرة اللطيفة
تراجع يوليوس ثم قال ببرود:
-لا تظن أنني سأقع في شراك فخ العيون هذا.. ثم لطيفة؟؟ ألم تكن تظن أنها شيطان حتى وأنت في منزلها؟!!
هارو: -حسنا هي بالفعل شيطان لكنني احتاج أخاها..
-هذه هي ألوانك الحقيقية.. قل أنك تطلب مصلحة فقط لاداعي لدراما الصديق المفضل
غمزه هارو بعينه : -ظننت أنك ستكون ممتنا لي.
يوليوس: ..........
لكز هارو كتفه ثم أضاف بسخرية ونبرة ذات مغزى:
-أنا أوفر لك فرصة لقضاء المزيد من الوقت مع محبوبتك
ارتعش يوليوس لوقع الكلمة ثم احمر خجلا
-محبوبة من أيها الغبي!! -أبعد هارو عنه بعنف- أحمق!!!
وقف هارو على بعد خطوات من صديقه ثم راح ينظر لمظهره وسلوكه المشوش .. نظر إليه بشفقة مفكرا لماذا يستمر هذا الصبي بالإنكار؟؟ هل هو لا يعلم ماهية مشاعره حقا؟
تنحنح يوليوس محاولا ضبط نبرة صوته ليقول وقد أشاح بنظره بعيدا عن هارو:
-سأتصل
ابتسم هارو بخبث قائلا:
-أخبرها أن لديك أمرا لتناقشه معها -لمعت بعينيه نظر ماكرة نظرة ثعلب لعوب ثم أضاف ببطئ قاتل- على انفرااااد
يوليوس لم يحرك ساكنا رغم أن كلمة على انفراد زلزلت كيانه.. قد تعلم كيف يضبط نفسه أمام هذا الثعلب، فبعد كل شيئ آخر ما يريده ان يصير أضحوكة بين يديه، ثم قال:
-توقف عن السخرية
هارو: -أنا لا أسخر لو ذكرت اسمي فقط فلن نحلم حتى برؤية الموقع ولا حتى أن نشم رائحة أي مساعدة من عائلتها... أعلم قدر كرهها لي بقدر ما أعلم قدر هيامك بها...
"هيام" يبدو أن الجو خانق حار بالنسبة ليوليوس وكأنه نُسي في فوهة بركان يوشك على الثوران... تمالك نفسه بشق الأنفس:
-ح ح.. حسنا تبدو محقا نوعا..
هارو بابتسامة شيطانية:
-أي جزء تقصد أن إنجي تكرهني أم أنك ت...
أكمل هارو جملته يشهق ألما بعد أن تلقى ركلة قاضية في بطنه من صديقه العزيز لم تقطع حديثه فقط بل تنفسه وبضع ساعات من حياته...
عدل يوليوس نفسه على الكرسي وكأنه قضى على ذبابة مزعجة ثم قال:
-لا تظن أنني سأسمع المزيد من هراءك هذا ... هل تظن هذا ممتعا؟
ابتلع هارو ريقه وهو يشد على بطنه .. هذا ممتع حقا .. من الممتع أن يرى صديقه متحرج القلب مشوشا كالأبله ... لكن لن يجرأ على التفوه بهذا ... إلا إن أراد أن يفجر بنكرياسه هذه المرة.
قال يوليوس: -هناك طريقة أفضل... أخبر هانا أن تحضرها للدروس... لا أريد أن أكذب عليها لأي سبب من الأسباب
فكر هاروكي *يا لك من رجل نبيل.. أنت قلق بشأنها بينما تجعلني أعاني وقتا عصيبا*
-لا بأس
أنهى هارو اتصاله بسرعة ثم أخبر يوليوس أن هانا قادمة مع إنجي بالفعل... يبدو أن إيريك تدخل ليجعلها تأتي للكلية.
قال يوليوس: لنذهب..
هارو: نعم