رنّ الهاتف بإلحاح… رنين غريب، لم يكن مجرد صوت عادي، بل كان أشبه بصدى ثقيل يتردد داخل عقولهم، وكأنه جرس إنذار ينذر بكارثة وشيكة.
ساد الصمت على الطاولة، صمت مشحون بالنظرات المتفحصة، الجميع شعر أن هناك خطبًا ما، لكن لم ينطق أحد بذلك صراحة.
قطعت هانا الصمت متذمرة:
— "ما هذا الهاتف المزعج؟ لماذا لا يرد أحد عليه؟"
أجابها هارو ببطء، وعيناه تضيقان بشكٍّ واضح:
— "… لا أعلم، لكن لدي شعور سيئ بشأن هذا المكان."
قال يوليوس وهو يعبس:
— "من اختار هذا المطعم بالأساس؟"
ساد صمت آخر… تبادل الجميع النظرات، ولكن لم يملك أحد إجابة واضحة.
استطرد هارو، يحاول ربط الخيوط:
— "حسنًا، لنرتب الأمور. أنا ويوليوس التحقنا بكم لاحقًا، أنتم كنتم هنا قبلنا. إذن، هانا… من دعاكم للمجيء إلى هنا؟"
أجابت إنجي ببرود، وهي تحرك مشروبها في الكوب دون اكتراث:
— "ما الذي تقصده؟ ألست أنت من أرسل لنا رسالة نصية للحضور؟ هل أصابك الزهايمر أخيرًا؟"
توسعت عينا يوليوس بصدمة، نظر إلى هارو سريعًا قبل أن يعود ببصره إلى إنجي:
— "ماذا؟ كيف…؟ نحن تلقينا رسالة منك أنت للحضور!"
واصلت إنجي طَرْق الطاولة بأطراف أصابعها، ثم أخذت رشفة أخرى من مشروبها دون أن تبدي اهتمامًا واضحًا:
— "أوه، عجبًا… ولكن، ما المهم في الأمر؟ دعونا ننهي عملنا ونغادر."
حدّق يوليوس بها للحظات، ثم بدأ يفحص المكان بحذر، إحساس ثقيل بالخطر بدأ يتسلل إلى صدره. هناك شيء خاطئ. شيء لا يراه… لكنه يشعر به.
عندها، لاحظ فجأة…
— "انتظروا لحظة… متى غادر جميع الزبائن؟"
نظر حوله. قبل دقائق فقط، كان المكان يبدو غانقا...كان يبدو عاديا يشكل غريب وكأنها لوحة رسمت لتبدو طبيعية...هذا المكان! ليس مطعما في الأصل!!…
أحسَّ بقشعريرة تسري في جسده. لم يكن هذا منطقيًا.
— "ترررررررن…"
استمر الهاتف العتيق في الرنين. كان صوته أعلى من اللازم… كأنه ينبض بالحياة في قلب الفراغ المخيف.
قالت هانا، وهي تعقد ذراعيها بإصرار:
— "سأرد عليه. لا يمكن تركه يرن بهذا الشكل، قد يكون أمرًا مهمًا."
هتف هارو سريعًا، محاولة لإيقافها:
— "لا داعي للتدخل، هذا لا يعنينا، ثم إنني لا أشعر بالراحة إطلاقًا… لا أعتقد أن علينا البقاء هنا أكثر من ذلك."
لكن هانا لم تستمع له، وبحركة سريعة، تقدمت نحو الهاتف. حاول يوليوس اعتراض طريقها، لكنه لم يستطع إيقافها هذه المرة، كانت سريعة جدًا. تبعها على الفور، وكذلك هارو، الذي تبعهم على مضض. أما إنجي؟ فقد بقيت في مكانها، غير متأثرة بكل ما يحدث.
رفعت هانا سماعة الهاتف.
— "ألو؟ من المتصل؟"
تجمدت لثانية… رفعت حاجبها باستغراب، ثم نظرت إلى الاثنين الواقفين بجانبها.
— "لا يوجد صوت."
أمال هارو رأسه، ثم سألها بحذر:
— "ماذا تعنين؟"
غطت السماعة بيدها، ثم تمتمت بصوت منخفض:
— "لا يوجد صوت في الجهة الأخرى… لا أحد يتحدث."
ثم أعادت السماعة لأذنها وقالت مجددًا:
— "مرحبًا؟ إذا كنت تبحث عن البائع، فقد غادر، نحن مجرد زبائن هنا. هل تريد ترك رسالة له؟"
…
لا رد.
…
لكن فجأة، شيء ما تغير. ارتعشت يد هانا قليلاً وهي تشد قبضتها حول السماعة، ثم شحب وجهها، نظراتها تحولت من الاستغراب إلى الذعر.
لاحظ يوليوس ذلك فورًا، وسألها بقلق:
— "هانا؟ ما الأمر؟"
لم ترد، بل ثبتت عينيها عليه، ثم نظرت مجددًا إلى الهاتف، وكأنها لم تصدق ما سمعته للتو.
هزَّها هارو من كتفها برفق:
— "هانا، تكلمي! ماذا يحدث؟"
وأخيرًا، همست بصوت مرتعش:
— "الصوت… قال شيئًا."
صمتوا جميعًا. حتى أنفاسهم أصبحت مكبوتة.
سألها يوليوس بجدية:
— "ماذا قال؟"
التفتت إليه ببطء، ثم نطقت بالكلمة الوحيدة التي سمعتها عبر الهاتف…
— "غادروا."
…
…
…
وفجأة، دوّى صوت مزلاج يُغلق بعنف.
استداروا بسرعة نحو مصدر الصوت… باب المطبخ!
هرع هارو فورًا ليفتحه، لكن الباب لم يتحرك! كان موصدًا بإحكام!
ثم… صوت آخر، هذه المرة، أكثر رعبًا…
"تك… تاك… تك… تاك…"
كان صوت عقارب ساعة… لكنّه كان ثقيلًا، مشحونًا بشيء مخيف.
نظروا حولهم، بحثًا عن مصدر الصوت، لكن لا شيء مرئيًا… ثم لاحظ هارو شيئًا، جعل الدم يتجمد في عروقه.
الهاتف… الهاتف كان هو المصدر.
— "إنها ليست ساعة."
نظروا إليه جميعًا، وسرعان ما أدركوا الحقيقة.
— "إنها قنبلة!"
لم تمضِ سوى لحظات، حتى انفجرت القنبلة، مُدمِّرة الهاتف بالكامل!
دفع الأدرينالين هارو إلى التحرّك بسرعة خاطفة، أمسك بهانا وقفز بها من خلال نافذة المطبخ الزجاجية، محاولًا إنقاذها من الانفجار.
أما يوليوس…
لم يهتم بشيء سوى اسم واحد فقط:
— "إِنْـــــجِــــــي!"
صرخ بأعلى صوته، ثم اندفع بكل قوته نحو الردهة حيث كانت تجلس، حطم الباب بركلة واحدة، لكن ما رآه جعله يُجمَد في مكانه.
لا شيء…
الحطام فقط… المكان تلاشى في الفوضى… لكن أين إنجي؟
وقف متصلبًا، الصدمة جعلته غافلًا عن الألم في كتفه المخلوع، وعن الشظايا التي جرحت ذراعيه ووجهه. لم يشعر بأي شيء… سوى رعب واحد يتردد داخل عقله بلا توقف.
— "أين… إنجي؟"
---