تعالت أصوات الضجيج من خارج المطعم، أقدام تهرول في كل اتجاه، ووجوه غارقة في الذهول تتجمع ببطء حول مكان الانفجار. تصاعد الدخان، وامتلأ الهواء بالغبار الخانق، بينما تطايرت شظايا الحجارة والزجاج في كل مكان. صرخات متقطعة، همهمات متشابكة، وأصوات متداخلة ما بين من يحاول المساعدة، ومن يكتفي بالمراقبة من بعيد لإشباع فضوله، ومن استلّ هاتفه ليبث المشهد مباشرة... فالكل يسعى وراء سبق صحفي، وترند جديد للأسبوع القادم.
في خضم الفوضى، دوّى صوت صاخب، شقّ الضجيج بحدة:
"ابتعدوا فورًا!"
صوت مألوف، واثق، يحمل في نبرته تهديدًا لا يقبل الجدل... إنه صوت إيريك.
شقّ طريقه بين الحشود، وقف أمام شاب كان يصوّر الحدث، سحب هاتفه منه بقوة وقال بصوت منخفض لكنه نافذ:
"أغلق كاميرتك أيها الأحمق، إن كنت ترغب في عيش ما تبقى من حياتك بسلام."
ثم أشار بأصابعه، مانحًا تعليمات واضحة ودقيقة لمجموعة من الرجال الذين ظهروا بعده كأنهم خرجوا من العدم.
"تأكدوا من عدم وجود أي مصوّرين، أخلوا المكان فورًا. قد يكون هناك انفجار ثانٍ بسبب تسرب غاز أو مواد قابلة للاشتعال."
ثم التفت إلى رجلين يقفان بجانبه وأشار إليهما بحزم:
"أنتم، تفقدوا حالة الأخوين، انقلاهما إلى المشفى فورًا."
نظر الرجلان لبعضهما ثم أومآ إيجابًا، وأجابا بصوت واحد:
"حاضر، سيدي!"
هرع الرجلان نحو هارو وهانا. كانت الإصابات واضحة؛ هارو غارق في دمائه، جسده مليء بالجروح والشظايا، بينما كانت هانا بين ذراعيه، بالكاد تحمل خدوشًا طفيفة، فقد حماها بجسده حتى آخر لحظة. مع ذلك، كان وجهها شاحبًا، فقد أغمي عليها من الصدمة.
وُضع الأخوان على نقالتين، قبل أن يعود أحد الرجلين إلى إيريك، الذي كان يقف ثابتًا، يراقب المكان وكأنه يبحث عن شيء وسط العدم.
"لقد نفذنا أوامرك، الأخوان بخير... تقريبًا. هل ننتظر رجال الأمن والإطفاء أم ننقلهما فورًا؟"
لم يلتفت إيريك إليه، اكتفى بالقول ببرود:
"خذهما."
تردد الرجل قليلًا قبل أن يسأل بصوت منخفض:
"لكن... التحقيق، سيدي؟"
رفع إيريك نظره إليه، نبرة صبره النافد واضحة:
"قلت خذهما، ولا تتدخل فيما لا يعنيك."
انحنى الرجل قليلًا احترامًا، ثم ركض نحو سيارة الإسعاف الخاصة بـ إيريك، لينطلق بها بعيدًا.
أما إيريك، فظلّ واقفًا، يدرس المشهد كأنه يحفره في ذاكرته. لم تفُتْه أي تفصيلة؛ وجوه المارة، ألوان الملابس، الأصوات، النوافذ التي أُغلقت والتي فُتحت، حتى أدق الحركات التي قد تبدو عشوائية.
أغمض عينيه ببطء، زفر بعمق، ثم استدار متجهًا نحو باب المطعم الذي لا يزال موصدًا.
في الخلفية، بدأ صوت سيارات الشرطة والإسعاف يقترب أكثر فأكثر.
"تأخروا كعادتهم."
تمتم في نفسه، مستعدًا لمواجهة إزعاج آخر... الشرطة.
---
في الداخل، كان يوليوس يستعيد وعيه تدريجيًا. بدأ الألم ينهش جسده بقسوة، لكنه قاوم، مستندًا إلى كرسي مجاور وهو ينهض ببطء. كان في ردهة خلفية مغلقة تمامًا، لكن فجأة، شعر بنسيم بارد يلفح وجهه.
"من أين يأتي هذا الهواء؟"
رائحة الدخان والبارود تملأ المكان، لكنها لم تكن وحدها... كانت هناك رائحة دخيلة، رطبة، كخشب قديم مشبع بالماء.
"رائحة رطوبة؟ كيف؟"
لا يعرف السبب، لكن فضوله اشتعل. كان عليه أن يعرف مصدرها، وإلا فسيترك خلفه لغزًا لن يستطيع نسيانه.
استجمع ما تبقى له من طاقة، وتبع التيار البارد بخطوات متثاقلة... حتى قطع عليه صوتٌ فجائي مدوٍّ:
"هنا! لدينا مصاب! أحضروا الحمالة فورًا!"
كان آخر ما سمعه قبل أن ينجرف في غياهب الإغماء مجددًا.
---
بعد ساعة، في موقع الحادث
كان إيريك يقدّم إفادته للشرطة. العملية شكلية، والشرطي أمامه لا يبدو عليه الفهم العميق.
"اسمك؟"
"إيريك، بروفيسور في الجامعة."
"لماذا أنت هنا؟"
"بعض طلابي كانوا يجتمعون هنا، وكنت على وشك الالتحاق بهم."
"هل كنت داخل المطعم وقت الانفجار؟"
"لا، وصلت بعده."
كان يتحدث بسلاسة، حتى لمح من بعيد شخصًا جعله يزفر بضيق داخلي...
"العجوز المزعج..."
دخل المحقق، رجل طويل القامة، ذو شعر أسود تتخلله خصلات رمادية تتساقط بإهمال على جبينه. عيناه الزرقاوان الحادتان تعطيان انطباعًا بأنه يستطيع سبر أغوار من أمامه بسهولة.
"غابرييل غرايسون."
اقترب المحقق بخطوات واثقة، ولوّح بسيجارته قبل أن يقول بسخرية:
"لم أكن أعلم أن عبقريّنا القدير بدأ يشارك في التفجيرات!"
رفع إيريك حاجبه باستنكار:
"لم أكن أعلم أن محققنا العظيم مهتمٌّ بانفجار مطبخ على قارعة الطريق."
مدّ غابرييل يده لمصافحته، لكن قبضته كانت محكمة، وكأنها تحاول سحب الحقيقة منه بالقوة.
"هل سمعتك تقول: لا تتدخل؟"
نظر إليه إيريك بتحدٍّ، قبل أن يبتسم ابتسامة ساخرة:
"افعل ما شئت، لن تصل إلى شيء."
*****************
2:00 صباحًا – تحت ضوء القمر
بعد ساعات من الانفجار، كانت المستشفى غارقة في هدوء مريب. هارو وهانا يستريحان في غرفتهما، جروحهما مغطاة بضمادات بيضاء، وأجهزة المراقبة تراقب أنفاسهما المستقرة. أما يوليوس، فقد خرج من غرفة العمليات قبل وقت قصير، لا يزال تحت تأثير التخدير، بعدما استغرقت عمليته أربع ساعات لاستخراج الشظايا وإصلاح أضلاعه المكسورة.
لكن في مكان آخر، بعيدًا عن ضوضاء المستشفى وعن أعين الفضوليين، كان إيريك جالسًا بمفرده تحت السماء المفتوحة. اختار زاوية معزولة على سطح مبنى مهجور، حيث لا يمكن لأحد إزعاجه.
تحت ضوء القمر الفضي، جلس على سور منخفض، يداه في جيبيه، وساقاه ممدودتان باسترخاء. عيناه مثبتتان على السماء، حيث هالة القمر تحيط بالسحب السوداء التي تزحف ببطء عبر السماء. كان المنظر ساحرًا، لكنه لم يكن هنا للاستمتاع به. كان عقله يعمل كآلة، يعيد تحليل كل ثانية من الانفجار، كل تفصيل في الشارع، كل وجه، كل حركة، بحثًا عن القطعة الناقصة التي لم تتضح بعد.
لكن شعورًا مألوفًا تسلل إليه. لم يكن وحده.
لم يلتفت، لم يتحرك، لكنه شعر بها قبل أن تنطق. كانت خطواتها هادئة، واثقة، كأنها تعلم أنه كان يتوقعها.
"في ماذا تحدق؟" جاء صوتها بطيئًا، عميقًا، مغريًا.
ظل صامتًا للحظات، ثم ردّ دون أن ينظر إليها: "أليس القمر جميلًا اليوم؟"
ضحكت بسخرية وهي تقترب أكثر، وقفت بجانبه، جسدها يميل بخفة ناحيته: "يا لرومانسيتك! حتى في هذا الوضع لا تزال تفكر بها."
لم يرد، فقط استمر في النظر إلى السماء.
اقتربت أكثر، وضعت يدها على خده بلطف، أظافرها الطويلة تخدش جلده بخفة وهي تهمس: "يا للمسكين... أليس الحب مؤلمًا حقًا؟ تعال إليّ، سأشفيك."
لكن إيريك لم يتحرك. لم يبتلع الطُعم.
أمسك يدها وأبعدها عنه، ثم أخيرًا التفت لينظر في عينيها مباشرة.
فتاة تشبه إنجي في كل شيء... لكن لا شيء منها يشبهها.
ملامحها، نظراتها، الطريقة التي تقف بها، الملابس الضيقة الجريئة، الابتسامة التي تحمل في طياتها إغراءً خبيثًا... كل ذلك لم يكن إنجي.
إنجي لم تكن لتتصرف بهذه الطريقة.
"كنت متأكدة أنك ستكون هنا، في هذا الوقت، في هذا المكان." قالتها وهي ترجع رأسها للخلف بدلال.
قاطعها إيريك بصوت منخفض لكنه حاد: "برأيك، متى تعود إنجي؟"
ضحكت وهي تميل برأسها جانبًا: "أين ذهبت لتعود؟ إنجي دائمًا بينكم."
نظر إليها بصمت، عيناه تغوصان في تفاصيل ملامحها، يبحثان بين الظلال عن الحقيقة. لم يكن بحاجة لسؤالها من تكون. لقد عرف.
رفع كفيه وأمسك وجهها برفق، كأنه يحاول قراءة ملامحها بأطراف أصابعه، ثم قال بصوت هادئ: "يا لكِ من ثعلبة ماكرة."
ابتسمت بخبث، اقتربت منه أكثر، وهمست بجانب أذنه: "أنسيت من أنا؟"
لم يرد، فقط سحب يديه وأشاح بنظره بعيدًا.
أخرج شريحة صغيرة من جيب سترته، ناولها لها دون أن يلتفت: "أبي يبلّغكِ سلامه."
أخذتها منه برشاقة، نظرت إليها للحظة، ثم قبلتها ببطء وغمزته قبل أن تبتعد قائلة: "هكذا يكون اللعب."
ثم استدارت، واختفت في الظلام.