في مكتب التحقيقات، جلس المحقق غابرييل خلف مكتبه المليء بالأوراق والتقارير. في يده اليمنى فنجان قهوة بارد لم يتذوقه، وفي اليسرى تقرير مفصل عن الحريق. عيناه تنتقلان بين الصفحات، حاجباه معقودان في تركيز تام.

لا كاميرات في المطعم.

رفع نظره من التقرير وتأمل الجدار المقابل، وكأنه يستطيع رؤية المشهد بعينيه. كيف يمكن لمطعم بهذا الحجم أن يخلو من كاميرات؟ هل تم تعطيلها عمدًا؟ أم أنها لم تكن موجودة أصلًا؟ لم يكن هذا منطقيًا. في عالم كهذا، حيث كل زاوية تحت المراقبة، غياب الكاميرات ليس مجرد صدفة.

المطعم كان مغلقًا ذلك اليوم.

ألقى نظرة أخرى على المستندات أمامه. العطلة لم تكن مفاجئة أو عشوائية، بل كانت مقررة منذ مدة. إذًا، من قام بفتحه في ذلك اليوم؟ ومن سمح للناس بالدخول؟

نقر بأصابعه على سطح المكتب، عقله يربط الخيوط ببعضها. وقت الانفجار لم يكن في المطعم أي زبائن، ولا حتى عمال. فقط أربعة أشخاص تواجدوا هناك: إنجي، هارو، هانا ويوليوس.

هل كانوا مستهدفين؟ أم أن واحدًا منهم هو السبب في هذا كله؟

أعاد النظر في تقارير شهود العيان. لا أحد رأى أي شخص غريب يدخل أو يخرج. لكن كيف يمكن لشخص أن يخلي مكانًا كهذا في لحظات دون إثارة الشكوك؟ هذا ليس مجرد حادث عرضي...

أغمض عينيه للحظة، وأخذ نفسًا عميقًا. بما أن ثلاثة من أصل أربعة كانوا في المطعم أثناءالانفجار ألى يجعل هذا إنجي هي المشتبه به؟ .

بعثر الأوراق التي أمامه باحثا عن تقرير الشرطة عن إنجي... تأمله مليا ليقرأه ويعيده مرارا وتكرارا، خبرته الطويلة في التحقيق وحدسه الثاقب يخبره أن هناك شيئ ما غير طبيعي بهذه الفتاة.

وضع الأوراق جانبًا، ونهض من كرسيه. لم يكن يملك أدلة كافية بعد، لكنه كان يملك حدسًا قويًا. حدسًا قاده في قضايا كثيرة من قبل، ولم يخذله أبدًا.

الخطوة التالية واضحة: مواجهة إنجي بنفسه.

ارتدى معطفه الطويل، حمل مفكرته، وتوجه إلى كافيتيريا الجامعة حيث أخبره مساعده الشرطي بأنها كانت تجلس هناك.

كانت لديه أسئلة كثيرة، لكنه لم يكن يبحث عن إجابات مباشرة... بل عن ثغرات في ردود الأفعال.

***********

كافيتيريا شبه فارغة، رغم أن الوقت ليس متأخرًا. الإضاءة خافتة، والجدران تعكس ظلالًا باهتة من الضوء البنفسجي القادم من اللوحات النيونية في الخارج. رائحة القهوة المرة تتسلل إلى الأجواء، ممزوجة بصوت آلات تحضير المشروبات في الخلفية.

غابرييل يدخل الكافيتيريا بخطوات هادئة، لكن مدروسة.

عيناه تمسحان المكان سريعًا قبل أن تقع على الطاولة التي تجلس عندها إنجي، متكورة على نفسها، تحرك ملعقتها داخل كوبها دون اهتمام. إلى جانبها، يجلس إيريك، مائلًا للخلف، مرتاحًا كما لو كان في منزله، وكأن هذا مجرد لقاء عابر وليس تحقيقًا في قضية مريبة.

غابرييل يسحب كرسيًا ويجلس أمامهما، يضع مفكرته الصغيرة على الطاولة، لكن لا يفتحها. لا يزال يراقب الاثنين بصمت للحظات، وكأنه يحاول قراءة ملامحهما قبل أن يتحدث.

غابرييل (بصوت هادئ لكن محمل بالثقل):

"مطعم مزدحم عادةً… يصبح فجأة فارغًا. لا عمال، لا زبائن، فقط ثلاثة أشخاص… ثم انفجار."

إيريك (يرفع حاجبه بابتسامة جانبية، يسند ذقنه على يده):

"إحصائيات ممتعة، لكنك نسيت أهم رقم: صفر ضحايا، مما يعني أن هذا ليس سوى حادث عشوائي."

غابرييل (ينظر إليه بتركيز، ثم يعود لإنجي):

"صحيح، لا ضحايا. لكن السؤال ليس عن النتيجة، بل عن الظروف. كيف كان المكان فارغًا؟ لماذا أنتم فقط من كنتم هناك؟"

إنجي تبقى صامتة، تحدق في كوبها، لكن عقلها كان يعمل بسرعة.

"لماذا يصرّ على هذا الاتهام وكأنه متأكد أنني وراء الأمر؟ لا علاقة لي بهذه الحادثة... كيف يمكنني حتى أن أفجر مكانًا كهذا؟"

لكن رغم ذلك، كان هناك شيء غريب في كل هذا. كيف حدث الانفجار؟ كيف خلت الكافيتيريا بتلك السرعة؟ وكأن أحدهم...

"هل يعقل أنهم بدأوا الحركة؟"

مجرد فكرة مرت في رأسها، لكنها لم تسمح لها بالتجذر أكثر.

غابرييل (بإصرار ناعم):

"أنتِ كنتِ هناك، لا أحد خرج أو دخل قبلك. لا بد أنكِ لاحظتِ شيئًا… أي شيء غير مألوف؟"

إنجي (بهدوء بارد، بدون تعبير واضح):

"مثل ماذا؟"

غابرييل (يميل للأمام قليلًا، يخفض صوته لكن نبرته تصبح أكثر دقة):

"مثل سبب اختفاء الجميع قبل دقائق من الانفجار."

للمرة الأولى، يرتفع حاجب إيريك قليلًا، لكنه سرعان ما يخفي تعبيره.

إنجي لا تغير وضعيتها، فقط ترفع نظرتها إليه للحظة، ثم تعود إلى كوبها.

إيريك (بابتسامة خفيفة، كأنه يحاول كسر التوتر):

"مرة أخرى، تحقيقك يعتمد على فكرة أن هناك شخصًا خطط لكل هذا. لكن لا يوجد دليل، أليس كذلك؟"

غابرييل (يلتفت إليه ببطء، نبرته تصبح أكثر استجوابًا):

"أتعلم ما الغريب، إيريك؟ حتى أنتَ، تبدو أكثر اهتمامًا بردودها مما ينبغي."

عين إيريك تضيّقان للحظة، قبل أن يعود إلى هدوئه المعتاد.

إيريك (بضحكة خفيفة):

"من الطبيعي أن أهتم بما تقوله صديقتي، أليس كذلك؟"

في تلك اللحظة، وبينما كان إيريك يراقب الوضع، شعر بشيء غير طبيعي. لم يتحرك، لم ينظر مباشرة، لكنه لاحظ وجود شخص غريب بين الطلبة في الكافيتيريا، وكأنه يراقبهم.

لم يكن الأمر واضحًا، لكنه لم يكن بحاجة إلى دليل قاطع. غريزته أخبرته أن هناك من يترصد.

بهدوء، دون أن يظهر أي توتر، حرك ملعقته ببطء، وكأنه عبث لا إرادي. لكن في الحقيقة، كان يستخدم انعكاس سطحها ليلقي نظرة خاطفة على المكان دون أن يثير الشكوك.

غابرييل يراقبه لحظة، ثم يعود لإنجي، لكن صوته يصبح أكثر حدة، كأنه يحاول استدراجها.

غابرييل:

"عندما خرجتِ، هل كان كل شيء طبيعيًا؟ هل لاحظتِ أي شخص غريب؟ أي حركة غير عادية؟"

إنجي (بهدوء غير مبرر، كأنها تتحدث عن شيء تافه):

"المكان كان فارغًا."

غابرييل:

"وهذا طبيعي في نظرك؟"

إنجي:

"لا، لكنه حدث."

مرة أخرى، الصمت يخيم.

غابرييل يشبك أصابعه معًا، وعيناه تتمعنان في تفاصيل تعابيرها.

إيريك، رغم هدوئه، يعبث بملعقته المعدنية بطريقة تبدو لا إرادية.

غابرييل (يفكر، نبرته أكثر انخفاضًا، كأنه يحدث نفسه):

"كل شيء غريب في هذه القضية... وكل خلية من جسدي تخبرني أن هذا ليس مجرد حادث… لا يمكن أن يكون كذلك."

إنجي تبقى صامتة، لكن نظرتها تبتعد للحظة، وكأنها تحاول أن تتذكر... أو تتجاهل.

إيريك يلاحظ ذلك، فيبتسم، قبل أن يرفع كوبه ويشرب بهدوء.

غابرييل يقف ببطء، يسحب معطفه الجلدي، ثم يلقي نظرة أخيرة عليهما.

غابرييل (بابتسامة خفيفة لكنها مليئة بالشك):

"لنا لقاء آخر... قريبًا."

يستدير ويغادر، خطواته الهادئة تتردد في الكافيتيريا الصامتة.

إنجي تتابعه بنظرة خاوية، بينما إيريك يضع كوبه على الطاولة بصوت خفيف، ملامحه مسترخية لكن عينيه تلمعان بشيء غامض.

---

بعد مغادرة غابرييل

عندما نهض المحقق وغادر، تراجعت إنجي في مقعدها قليلًا، قبل أن تهتز شاشة هاتفها بإشعار جديد.

رسالة.

عينها تجمدت للحظة، قبل أن تدس الهاتف في جيبها وتنهض.

إيريك (بهدوء لكن عينيه تراقبانها بتركيز): "إلى أين؟"

إنجي (بابتسامة ساخرة، نبرتها مستفزة قليلًا): "ما الأمر؟ بروفيسورنا لا يملك عملًا آخر؟"

إيريك (يرد بتحدٍ، صوته هادئ لكنه حاد): "ومن قال إني لا أعمل؟"

نظرت إليه إنجي لوهلة، عيناها مليئتان بمعانٍ غير مفهومة، لكنها اختارت التجاهل وأدارت ظهرها، متجهة نحو باب الكافيتيريا.

إيريك لم يتحرك، لكنه راقبها حتى اختفت عن نظره... ثم تبعها بصمت.

بالقرب من باب الخروج، جلست فتاة على طاولة، تراقب الداخلين والخارجين بابتسامة هادئة.

إنجي (بتعبير متفاجئ، لكنها لم تظهره): "ماذا تفعلين هنا؟ هل قررتِ مطاردتي حتى الجامعة؟"

شقيقتها (تضحك، تميل رأسها بخفة): "ولماذا لا؟ ألا يعجبك وجودي يا روحي؟"

ثم، بابتسامة هادئة، التفتت نحو إيريك، وأومأت له باحترام.

"أقدّر اهتمامك الدائم بها."

إيريك لم يرد، فقط أومأ برأسه، وعيناه لا تزالان تراقبان إنجي.

ثم خرجوا معًا.

2025/03/17 · 8 مشاهدة · 1120 كلمة
Moon light
نادي الروايات - 2025