الفصل 21 – بين الظلال والدم
كان الصمت أول ما استقبلها. ذلك النوع من الصمت الذي لا ينبض بالحياة، لا يحمل معه راحة، بل فراغًا ثقيلًا.
فتحت إنجي عينيها، لكنها لم ترَ شيئًا. ظلام دامس أحاط بها، وكأنه يبتلع وجودها بالكامل. حاولت أن تتحرك، لكن قدميها لم تجدا أرضًا، كأنها معلقة في فضاء لا نهائي.
"أهذا… حلم؟" همست، لكن صوتها لم يرتد، وكأن المكان يبتلع حتى الصدى.
ثم، وسط العدم، ظهر نور خافت… لم يكن ضوءًا عاديًا، بل أشبه بشرارة تشتعل للحظة ثم تخبو. راقبتها إنجي بحذر، وبينما كانت تقترب، تلاشى الظلام تدريجيًا، كاشفًا عن ممر طويل محاط بجدران متصدعة، وكأنها في نفق تحت الأرض.
"أريج..."
شعرت بارتجاف خفيف في صدرها. هذا الاسم… لماذا يبدو وكأنه مفتاح يفتح شيئًا كانت قد أغلقته منذ زمن؟
خطت خطوة إلى الأمام، فسمعت صوت خطوات أخرى، خفيفة، متناغمة مع خطواتها. استدارت بسرعة، لكنها لم ترَ أحدًا. شعرت ببرودة تسري في عمودها الفقري. لم تكن وحدها هنا.
"أنتِ متأخرة."
تجمدت إنجي في مكانها. الصوت كان ناعمًا لكنه مشوب بنبرة قاسية. استدارت ببطء، وعندها رأت طفلة صغيرة تقف أمامها…
نفس الشعر الأسود الطويل، نفس العينين الزيتونيتين، لكن ملامحها كانت طفولية، مألوفة… إنها هي. تلك الطفلة التي تراها دائمًا في أحلامها.
"من أنتِ؟" سألت إنجي، رغم أنها كانت تعرف الإجابة مسبقًا.
لم ترد الطفلة، فقط ابتسمت… ثم تلاشت فجأة، كأنها لم تكن موجودة قط.
—
في المطبخ
كان الجو هادئًا، الليل يلف المنزل بسكونه المعتاد. كل شيء بدا طبيعيًا… إلى أن خطت إنجي ببطء نحو باب المطبخ الزجاجي، الذي يطل على الحديقة الخلفية.
يدها امتدت نحوه، لكنها توقفت عندما وقع بصرها على شيء خارجًا…
قط. أو ما تبقى منه.
جسده كان ممزقًا بوحشية، أحشاؤه مسحوبة للخارج بطريقة غير طبيعية، كأن أحدًا اقتلعها بيديه العاريتين. رأسه كان مشطورًا إلى نصفين، أحد عينيه مفقودة، بينما الأخرى تحدق بها، وكأنها لا تزال ترى… ترى شيئًا مريعًا.
رائحة العفن والدم امتزجت في الهواء، موجة من الغثيان اجتاحتها، فتراجعت بخطوات مرتجفة، معدتها تنقبض وكأنها سترفض كل شيء.
لكن قبل أن تستدير هربًا من المشهد، شلّها صوت ناعم خلفها، صوت جعل أعماقها ترتجف كما لم تفعل من قبل.
"حبيبتي، يا إنجي… ما بالكِ؟"
تجمدت مكانها، ثم التفتت ببطء شديد.
كانت أريج تقف هناك، في وسط المطبخ، نظراتها غريبة… عميقة بطريقة غير مريحة. ابتسامتها هادئة، لكنها بدت وكأنها تخفي خلفها شيئًا مرعبًا.
-"أ... لا شيء..." تمتمت إنجي، محاولة استيعاب الموقف، لكن عقلها كان مشوشًا. كيف… كيف يمكن أن يكون كل شيء طبيعيًا بعد ما رأته؟
ظلت تحدق في أريج، لكن الأخيرة لم تحرك ساكنًا، فقط مالت برأسها قليلاً، وقالت بصوت ناعم، لكنه مشبع بشيء خفي:
"إنه لا يزال ينبض، تعلمين؟ حتى بعد أن سُحقت أضلعه، قلبه ظل يخفق للحظة… ربما كان يرجوكِ أن تنقذيه."
شعرت إنجي بقشعريرة تجتاح جسدها، لم تستطع الرد، فقط نظرت إليها بذهول.
-"أريج؟" همست.
وفجأة…
انقسم جسد أريج إلى نصفين.
حرفيًا، كأن قوة غير مرئية شقت جسدها من المنتصف، صرير اللحم والعظام المتكسرة مزّق الصمت، الدم تطاير في كل اتجاه، يلطخ الجدران والأرضية.
ومن وسط الجسد المشقوق، خرج شيء آخر.
كيان مشوّه، أطرافه طويلة بطريقة غير طبيعية، بشرته سوداء كأنها محترقة، فمه مفتوح إلى حد مستحيل، بينما عيونه… لا، لم تكن هناك عيون، فقط فراغ أسود ينبض كأن بداخله شيء حي.
"يجب أن تدركي حقيقتك قريبًا يا عزيزتي…"
تردد صدى الصوت، ثم بدأ يتكرر، يتكرر، يتكرر… حتى لم تعد تتحمل أكثر.
—
في الواقع
شهقت إنجي بقوة، جسدها انتفض للحظة، عيناها اتسعتا وكأنها غارقة في كابوس لا ينتهي. أنفاسها كانت متلاحقة، لكن يدًا قوية سحبتها إلى حضن دافئ.
إيريك.
كان يضمها بإحكام، وكأنه يخشى أن تفلت من بين يديه، وجهه كان مشدودًا بالقلق، وعيناه تمتلئان بشيء أكثر من مجرد الخوف… شيء أعمق، أكثر إرباكًا.
ابتعد قليلًا عنها، نظر في عينيها بتركيز، ثم همس بجدية:
"هل هذه أنتِ؟"
حدقت به إنجي للحظة، عقلها لا يزال يحاول استيعاب ما حدث، ثم زفرت بضيق.
"بلاش دراما، إيريك. أنا إنجي، وشكلي مصدعة، لا أكثر."
تراجع خطوة للخلف، راقبها لثوانٍ، وكأنه يحاول قراءة شيء خلف ملامحها. ثم، وكأن خيبة أمل خفيفة تسربت إلى ملامحه، أدار وجهه بعيدًا وتركها لهانا، لكنه لم يبتعد تمامًا.
ظل واقفًا هناك، يراقبها… قلقه لم يهدأ بعد.
—
كانت هانا تراقب المشهد بصمت، عيناها تتنقلان بين إنجي وإيريك، تعابيرها محايدة… لكن يديها كانتا مشدودتين إلى جانبيها، أصابعها تنقبض ببطء.
تقدمت خطوة إلى الأمام، مالت برأسها قليلًا، ثم قالت بهدوء، لكن بنبرة لا تخلو من التوتر:
"إنجي… هل كنتِ تحلمين مجددًا؟"
إنجي التفتت إليها، حدقت بها للحظة، ثم أجابت ببرود:
"مجرد كابوس تافه، لا تهتمي."
لكن هانا لم تبدُ مقتنعة. نظراتها كانت تدرس إنجي بعمق، وكأنها تحاول التقاط شيء خفي في تعابيرها.
ثم، بعد لحظة صمت قصيرة، قالت بصوت منخفض، لكن بنبرة حادة:
"أتعلمين؟ في كل مرة تستيقظين هكذا… عيناكِ لا تبدوان كعينيكِ المعتادتين."
ارتجفت أنفاس إنجي للحظة، لكنها لم ترد. فقط نظرت إليها، ثم استدارت بعيدًا، وكأنها ترفض التعمق أكثر.
أما هانا، فقد ظلت تراقبها، لم تبدُ مقتنعة، لكنّها لم تصرّ.
ليس الآن.
*************
لقاء غابرييل مع الشرطي
كانت الشمس قد ارتفعت، لكن الضوء لم يكن دافئًا.
السماء رمادية، والهواء يحمل برودة غير معتادة. المحقق غابرييل أوقف سيارته بجانب الرصيف، ثم ألقى نظرة على العنوان مرة أخرى. هنا؟
الشارع كان هادئًا على غير العادة، والمباني المحيطة تبدو متآكلة بفعل الزمن. مكان مهجور كهذا لا يكون عادة موقعًا للقاء بين رجال الشرطة.
خرج من السيارة وأغلق الباب بهدوء، عاقدًا ذراعيه للحظة وهو يمسح المكان بعينيه. لم يكن هناك سوى مستودع قديم، بابه مفتوح جزئيًا، ومن الداخل، يمكن رؤية ظل يتحرك.
كان لوكاس غراي هناك.
واقفًا بجانب طاولة خشبية قديمة، تحت ضوء الشمس الخافت المتسلل من النوافذ المتسخة. بدا متوتّرًا، يطرق بأصابعه فوق الخشب، وعيناه لا تستقرّان على شيء.
بخطوات ثابتة، تقدّم غابرييل دون أن يتكلم، وعندما صار أمامه، قال بنبرة محايدة لكن حازمة:
— "ماذا حدث؟"
رفع لوكاس نظره إليه للحظة، ثم أخرج ملفًا رثًا من سترته، ورماه على الطاولة أمامه.
— "انظر بنفسك."
لم يُظهر غابرييل أي تردد. التقط الملف وفتحه، عينيه تتنقلان فوق الأوراق والصور.
مسرح الجريمة.
المدير ممدد على الأرض، حلقه مقطوع بدقة، الدم ممتد في خطوط متعرجة على السجاد. تقارير أولية، استجوابات، وقائمة بالمشتبه بهم.
اسمه كان هناك.
عيناه ضيقتا قليلًا، لكن ملامحه بقيت جامدة، كأن شيئًا لم يفاجئه.
لوكاس، الذي كان يراقبه بانتباه، ابتلع ريقه بصعوبة قبل أن يقول بصوت منخفض:
— "الشرطة تشتبه فيك. كنتَ آخر شخص اشتبك مع المدير قبل مقتله. وهناك من أبلغ عن أن المشادة بينكما كانت... غريبة. كأنها تخفي سرًا كبيرًا."
انتظر رد فعل، لكن غابرييل لم يُعطِه أي شيء.
تابع تقليب الأوراق وكأنه لم يسمع شيئًا، مما جعل الشرطي يزداد توترًا. بعد لحظات، سأله ببرود:
— "من المسؤول عن التحقيق؟"
أجاب لوكاس على الفور:
— "أحضروا ضابطًا جديدًا، ونوعًا ما..." تردد قليلًا، قبل أن يضيف: "شخص غريب."
رفع غابرييل عينيه إليه أخيرًا.
— "أي نوع من الناس هو؟"
هز الشرطي كتفيه.
— "لا أدري، لكنك ستلتقي به قريبًا، وستعرف كيف تقيّمه بنفسك."
لم يعلّق غابرييل. أعاد نظره إلى الملف، تأمّل الصفحات الأخيرة، ثم أغلقه بهدوء ووضعه جانبًا.
— "الأفضل أن نذهب إلى قسم الشرطة. أردتُ أن أبلغك بالتفاصيل كي تكون مستعدًا."
غمغم غابرييل دون أن ينظر إليه:
— "لا تقلق. أعرف كيف أتصرف."
بدا وكأنه غارق في أفكاره.
تردد لوكاس للحظة، ثم قال بنبرة أخفّ، كما لو كان يتحدث لنفسه:
— "يا ترى، من قتل المدير؟"
بقي غابرييل صامتًا لثوانٍ، ثم تمتم بصوت خافت، كأنه يختبر كلماته بنفسه:
— "لستُ متأكدًا... لكن الأمر له علاقة بالانفجار، و..." توقف، عبس قليلًا قبل أن يضيف: "... وبتلك الفتاة، إنجي."
رفع لوكاس حاجبه بدهشة واضحة.
— "ماذا تعني؟"
وقف غابرييل، التقط معطفه، ثم تقدّم بخطوات عريضة وواثقة نحو المخرج. عند الباب، توقف للحظة، وقال بصوت منخفض لكنه مشبع بالثقة:
— "سأشرح لاحقًا." استدار قليلًا، نظرة باردة تعبر وجهه قبل أن يضيف: "لكن الآن... عليّ أن أقرأ المشهد جيدًا أولًا. أريد أن أعرف— من يجرؤ على اللعب مع "الصيّاد"؟"