صوت الرياح: عواء خافت في ليلٍ دامس.
رائحة الخشب المحترق: كأنها تبكي على لسان الريح.
---
في أطراف مملكة "دارم"، في قرية صغيرة منسية بين الجبال،
ولد "راشد بن سُهيد" في ليلةٍ انشق فيها القمر نصفين - أو هكذا حكت العجائز.
كان صبيًا نحيل الجسد،
شعره أسود كسواد ليل الشتاء،
وعيناه بلون الرماد...
لا سوادًا خالصًا ولا بياضًا ناصعًا،
بل خليط حزين يشبه لون الأرض بعد المطر.
---
هاااااه!
صرخة خافتة شقت ظلام الحظيرة.
كان راشد يتدرب في السر مع عصا مكسورة، يقلد بها الفرسان الذين يراهم من بعيد.
يضرب الهواء، يدور حول نفسه، يتعثر، ينهض، يصرخ، يبتسم بغباء طفولي.
في تلك الليلة،
كان حلمه بسيطًا: أن يصبح محاربًا عظيمًا ينقذ قريته الصغيرة من خطر القبائل المجاورة.
---
على الجانب الآخر من القرية،
جلس والده، "سهيد بن حرب"، مع كبار القرية،
وجوههم مشدودة، وجباههم مليئة بالتجاعيد.
> "الوضع خطير..." قال أحد الشيوخ بصوت خافت.
"قبيلة بني السُّمَر تقترب... ونيّتهم ليست البيع أو التجارة."
سهيد ضرب بيده على الطاولة الخشبية بقوة:
> "لو اقتربوا... فسنغرس السيوف في حلوقهم!"
لكن الجميع كان يعلم...
القرية، رغم شجاعتها، فقيرة، قليلة الرجال، بلا دروع، بلا خيول كافية.
---
في تلك الليلة...
بينما كان راشد يحلم بسيف لامع وخيل يطير بين السهول،
كان القدر يشحذ خنجره خلف الأفق...
---
تشششششش...
صوت احتكاك.
بوووم!
دوى صوت انفجار في طرف القرية.
السماء تلونت باللون البرتقالي.
رائحة الدخان غمرت الأنوف قبل أن يدرك الناس ما يحدث.
راشد فتح عينيه، قلبه يدق مثل طبول الحرب.
> (هااااه! هااااه! هااااه!)
ركض خارج الحظيرة،
شاهد النيران تلتهم البيوت،
والخيول تصرخ،
والناس تهرب في كل اتجاه،
وسيوف سوداء تلمع تحت نور القمر المشقوق.
---
والده صاح من بعيد:
> "راااااشد! اهرب! خذ أمك واختك! اذهب إلى الجبال! لا تنظر خلفك!!"
لكن راشد لم يتحرك.
قدماه تجمدتا.
عيناه اتسعتا.
قلبه مزق صدره من الخوف... لكنه لم يهرب.
في تلك اللحظة...
ولد داخله شيء آخر.
ليس الخوف.
بل شيء يشبه... الرماد المحترق.
شيء سوف يتحول مع السنين إلى نار لا تخمد أبدًا.