173 – يأس (2)

في المرّة التالية التي استيقظ فيها الفتى أدهم، كانت بقبو مظلم لا يعلم أين يقع، أو ماذا فيه، أو ماذا سيحدث له به. كان أدهم مجرّد فتى بعمر خمس سنين، ولكنّه كان هادئا بالرغم من الموقف الذي هو عليه، ولكنّه كان هادئا عند التفكير بنفسه، امّا بالتفكير في أخته الصغرى، كان يكاد يجنّ وحاول تحرير نفسه من السلاسل التي تقيّده مرارا وتكرارا.

جرّ وجرّ، ثم جرّ فجرّ، فجرّ وجرّ. أصبحت يداه مليئتان بالدماء وكادتا تُقتلعان من مكانهما. كان مجرد طفل، لكنّ عزيمته كانت مدهشة للغاية. كان حقّا فتًى مختلفا للغاية عن باقي الفتيان، ولم يبدُ عليه ذرّة من الاستسلام.

بدأ يستخدم الدم الذي يغطّي يديه حتّى يمرّرهما من القيود بسلاسة أكبر، واستحمل كلّ تلك الآلام التي ستجعل من رجل بالغ يصيح. وبالطبع، صرخ الفتى كذلك من الآلام أثناء معاناته من أجل تحرير نفسه، ولكنّه لم يتوقّف أبدا حتّى جعل يده الأولى تتحرّر، وحدث هذا فقط بعدما كُسِرت.

استمرّ في فعل نفس الشيء ليده الأخرى حتّى تحرّرت بعدما كُسِرت هي الأخرى. كان هذا الفتى غير طبيعيّ بتاتا، وكان هوسه بإنقاذ أخته لا حدود له.

"هاهاها." فجأة دخل شخص ما بينما يضحك. كان ذلك رئيس العائلة النبيلة. حدّق إلى الفتى أمامه ثمّ تكلّم: "لا يمكنني إرسالك هكذا. ستُفسِد سمعتي على هذا الحال."

حالما رأى الفتى الرجل الكبير أمامه، انقضّ عليه بكلّ ما يملك من قوّة متبقّية، لكنّه لم يبلغه للأسف بسبب القيود التي كانت على قدميه أيضا. صرّ الفتى أدهم أسنانه وأظهر غضبا وحقدا من عينيه تجاه الرجل الكبير حتّى جعل هذا الأخير يقشعرّ منه.

اقترب الرجل الكبير من أدهم وضرب ذقنه بعكّازه. وفي اللحظة التي ظنّ فيها رئيس العائلة أنّه ضرب الفتى، وجده يقبض العكّاز بأسنانه. قضم أدهم العكّاز بكلّ قوّة يملكها وحدّق إلى الرجل الكبير بنفس النظرات مستفزّا إيّاه.

صرخ الرجل الكبير: "أفلت العصى أيها البرغوث. ستلوّث عكّازي." سحب رئيس العائلة عكّازه ولكن كان ذلك بدون فائدة.

"بصق ! "

بصق الفتى في نفس الوقت الذي أفلت به العكّاز. فسقط بصاقه على الرجل الكبير الذي فقد توازنه بعد ذلك ساقطا على مؤخرته صارخا من الألم. وقف بسرعة بعد ذلك ونظر إلى عينيْ الفتى أمامه فشعر بإحساس مريب، فاستدار وغادر.

وقف عند الباب ثم التفت إلى الفتى وقال: "ستُرَوَّض هنا جيّدا حتّى تصبح كلبا مطيعا، وبعد ذلك سأسلّمك." لمس الرجل الكبير ذقنه ثم أكمل بابتسامة عريضة: "لا تقلق. لن تكون وحيدا. سوف أروِّض أختك أيضا في جهتي. يمكنك التفكير في ذلك والارتياح بأنّك لست الوحيد الذي سيمرّ بوقت عصيب."

كان فم الفتى مليئا بالدم بسبب العكّاز سابقا، وعندما سمع كلام الرجل الكبير، صرخ مرّة أخرى بينما يبصق الدم دون قصد منه: "سأقتلك أيها الوغد ! حتما سأجعل من جثتك معرضا. سأقتلك، سأقتلك، سأقتل..."

صرخ الفتى باستمرار، ولكنّه أُسكِت فجأة من قبل أحد الحرّاس. سقط الفتى مغميا عليه، ولم يمر عليه يوم بعد ذلك إلّا وحمل معه عذابا لا يقدر على تحمّله رجال أشدّاء. ومع ذلك، كلّ ما كان يردّده الفتى أثناء كل تلك الأيام التي مضت هو "أريحا". حتّى عندما خارت قوّته وكاد يفقد عزيمته، أعاد نطق اسم أخته الصغرى مرارا وتكرارا فجدّد من عزيمته وانتظر لتتجدّد طاقته حتّى يستحمل لوقت أطول.

لم يعلم كم عدد الأيام التي مرّت وهو في ذلك الظلام، وكل ما كان ينيره هو التفكير في أخته الصغرى، ولكنّ ذلك النور كان يأتي بظلال حالكة. كلما فكّر في أخته تذكّر كلام وأفعال رئيس العائلة النبيلة، فعاد عليه الأمر عكسيّا. كاد يفقد عقله مرّات عديدة، ولولا تميّزه منذ الصغر لكان قد أصبح عبدا لهم منذ وقت طويل.

مرّت شهور، ولكنّ الفتى كان لا يزال لم يخضع. وفي يوم من الأيّام، أتى الرجل الكبير مرّة أخرى بينما يحمل نظرات قبيحة من الغضب. دخل إلى القبو ثم ضرب الفتى بشدّة بينما يصرخ: "أيها البرغوث، هيّا اخضع وخلّصنا من كلّ هذه المعاناة معك ! "

لم يعد الفتى أدهم في تلك اللحظات يستطيع حتّى النظر إلى رئيس العائلة النبيلة، وكانت عيناه فارغتين، وكلّ ما كان ما يزال بداخله كان أخته الصغرى، فاستمرّ في ترديد اسمها دون توقّف: "أ..ري..حا".

سمعه الرجل الكبير ثم حدّق إلى أتباعه، فقال أحدهم بسرعة: "إنّه على هذه الحال طوال الوقت. لم يعد يستجيب لضرباتنا حتّى، ويبقى يردّد ذلك الاسم طوال الوقت فقط."

"أريحا، أريحا." بقي الرجل الكبير يفكّر لقليل من الوقت، فبدا كأنّه تذكّر شيئا أخيرا، فقال بينما يحمل نظرات غاضبة: "أما تزال تتذكّر أختك كلّ هذا الوقت بعد كلّ هذه المعاناة. أنا نفسي ونسيتها."

رفع الفتى أدهم رأسه بصعوبة وببطء شديد، ثم نظر إلى الرجل الكبير أمامه، لا يعلم مقصده.

حدّق إليه رئيس العائلة النبيلة ثم تكلّم بسخرية: "أعتذر، أعتذر. ذلك خطئي لأنّني لم أخبرك." اقترب الرجل الكبير من الفتى أدهم وأمسك ذقنه الصغير، ثم حادثه بينما ينظر إليه عن قرب شديد: "لقد نسيتها تماما لذا لم أخبرك بهذا، ولكنها ماتت قبل حوالي خمسة أشهر على ما أذكر. لم أتوقّع أنّها ستنكسِر في شهرها الأوّل فقط. ولكن لا يمكنك لومها على ذلك، فلقد كنت تلك المرّة متحمّسا أكثر على غير العادة بما أنّها كانت تحمل نفس أوصاف أميرة الأمواج الهائجة."

كانت عينا الفتى أدهم فارغتين تماما، وعندما سمع كلام الرجل الكبير، أصبحتا بدون حياة فيهما. وفي اللحظة التالية، وجد الرجل الكبير أنفه غير موجود بمكانه، فصرخ بشكل مريع وكاد يفقد عقله من الألم.

فتح عينيه بينما يمسك المكان الذي اعتاد أنفه التواجد به، فرأى أنفه ذاك في فم الفتى أدهم. فبدا هذا الأخير في تلك اللحظة كوحش صغير، وجعل كلّ شخص في الغرفة يرتعد ممّا فعله على حين غرّة.

لقد كان الفتى خاليا من الحياة تماما، وكان ساكنا لفترة من الوقت بعدما انتهاء رئيس العائلة من تحدّثه، فلم يتوقّعوا أن يحدث ما حدث. كلّهم أصيبوا بالفزع من شدّة الوضع، وخصوصا أولئك من عذّبوا هذا الفتى لأشهر. فحمِدوا ربهم على سلامتهم.

وقف الرجل الكبير أخيرا على رجليه بعدما كان ساقطا، وصرخ: "أيها الحثالة، يا قمامة العالم. لقد ولدت فقط لتسلّي وتلبّي رغبات مالكي هذا العالم. كيف تجرأ؟ لقد سئمت أمرك. سأقتلك." أخذ الرجل الكبير سيفا من أحد أتباعه وبدأ يقترب نحو الفتى الذي بدا غير مهتمّ بأيّ شيء على الإطلاق. كانت عيناه لا تزالا خاليتيْن من الحياة، ولم يبالِ بموته من حياته.

وصل الرجل الكبير إلى الفتى أدهم مرّة أخرى وأكمل حديثه: "كان عليك أن تكون كلبا كما كانت أمّك التي أخبرتنا عنكما. لربّما كنت ستنجو من هذا العذاب كلّه على الأقل. ولكن بالتفكير في كلّ شيء الآن، لربّما كان عليّ استخدما تلك المهقاء لجعلك تخضع من الأوّل. عادتي غلبتني."

هرع أحد الأتباع فجأة إلى القبو بينما يصرخ: "يا سيّدي، يا سيّدي، يجب أن نهرب بسرعة. هناك كارثة حلّت علينا. لا أعلم ما ذاك، ولكنّهم أفظع من الوحوش حتّى. إنّهم يغزون مدينتنا."

التفت الرجل الكبير إلى تابعه الذي أبلغه الخبر، ثم صرخ في وجهه: "لا تقاطعني الآن. لا يهمني ما يحدث للمدينة ولا لأي شيء آخر. تكلّفوا بذلك واتركوني لوحدي مع هذا البرغوث حتّى أرضى."

تمتم التابع الذي أتى حاملا الخبر: "ولكن يا سيّدي..."

التفت الرجل الكبير ورمى التابع فجأة بالسيف الذي كان في يده. اختُرِق ذلك التابع في صدره وسقط ميّتا. نظر بعد ذلك رئيس العائلة إلى أتباعه الآخرين ولم ينبس ببنت شفة، فتحرّكوا كلّهم بسرعة كما أمروا وتركوا له سيفا آخرا.

قطع رئيس العائلة النبيلة ملابسه ليضمّد وجهه بها. وقف بعد ذلك أمام الفتى أدهم وصنع ابتسامة عريضة، ونطق أخيرا بينما يقرّب سيفا من ذراع الفتى: "سنرى كم يمكنك أن تتحمّل حتّى تموت."

جرح الفتى بذراعه أوّلا، فم يتلقّى أيّ استجابة، فزاد الجرح الثاني، والثالث... حتّى أصبح الفتى مليئا بعشرات الجروح بجسده وفقد دما كثيرا، وبدأ يفقد وعيه. كاد الرجل الكبير يفقد عقله من ذلك، ولم يرد أن يفقد الفتى وعيه قبل أن يجعله يصرخ ولو لمرّة واحدة على الأقل.

بدأ يجرحه بسرعة كبيرة آملا في النجاح قبل فوات الأوان، فسمع صراخا أخيرا بعدما أصبح متعبا نفسيّا وجسديّا. ولمّا رفع رأسه نحو الفتى وجده يحدّق إليه بنفس العينين الفارغتين، فعلم أنّ الصراخ لم يكن منه. كان الصراخ قادما من خارج القبو. علم في ذلك الوقت جدّية الموقف الذي تحدّث عنه تابعه ذاك.

انتصب ثم قال بهلع: "سأكون في مأمن هنا. هذه غرفة سحرية من المستوى الخامس. لن يحدث لي مكروه."

حدّق إلى الفتى أدهم وأراد إكمال ما كان يفعله. فمع أنّه سمع أتباعه يُقتلون إلّا أنّه كان شخصا مهووسا لا يترك شيئا إلّا بعدما يبلغ مراده.

حرّك سيفه مرّة أخرى مستعدّا لإكمال عمله.

*باام*

فجأة، صُنِع ثقب في سقف القبو وسقط شيء ما، وعندما التفت رئيس العائلة النبيلة ليرى ماذا حدث، وجد شخصا يقف هناك بينما يحملق إليه بعينين صفراوان تشرقان في الظلام، ولمّا اقترب هذا الشخص أخيرا واتّضح شكله بأشعة الشمس التي تدخل عبر الثقب في القبو، ارتعد الرجل الكبير من شكله وصرخ: "من أنت؟ ما أنت؟"

كان هذا الشخص غريبا للغاية. كان له قرنان صغيران ذهبيان بجبهته، وأذنان حادّتان بالجزء الأفقيّ والسفليّ، وأنياب كالتي لدى مصاصي الدماء في الأساطير، وعينان صفراوان. كان يرتدي معطفا أسودا مغلقا بحيث لا يمكن رؤية جسده.

وقف هذا المخلوق أمام الرجل الكبير بهيبة تجعل الجبال ترتجف والبحار تهيج. تحدّث هذا المخلوق فجأة: "أنا جالب اليأس. أنا اليأس." كان صوته مثل صوت البشر، كان له صوت عميق لذكر، وعندما تحدّث به، جعل الروح المليئة بالحياة والأمل تيأس كما لو أنّها جابهت الموت الحتميّ.

لم يعلم الرجل الكبير ما يتحدّث عنه هذا المخلوق أمامه، ولكنّه لم يستطع التحرّك أيضا. لا، كان جسده يتحرّك في الواقع، ولكن هذا إن كان الارتجاف والاهتزاز بقوّة من الرعب يُحتَسب تحرّكا.

تكلّم المخلوق مرّة أخرى بصوته العميق: "لقد جذبني يأس إلى هنا. يأس لم أصنعه أنا أو أحد أتباعي. يأس لا يبلغه الكثير من الأشخاص. يأس أفضّله وأريده."

حدّق إلى الرجل الكبير أمامه ثم صرّح: "ليس أنت." وجّه نظره إلى الفتى المعلّق ثم أشرقت عيناه الصفراوان كأنّهما نجمان في الفضاء المظلم. قال بصوت متفاجئ وسعيد جدّا: "إنّه أنت."

نظر المخلوق مرّة أخرى إلى الرجل الكبير، فعلم ما كان يحدث هنا. اقترب بعد ذلك منه، وقال بنظرة جعلته يشعر أنّه يحدِّق إلى هاوية العالم وتحدّق إليه: "أظنّني سأمنحك موتا سريعا بما أنّك ساهمت في بلوغه هذه المرحلة."

*بششخ*

لم يعلم الرجل الكبير متى مات حتّى، وكان قد أصبح مجرّد لطخة من الدم على الأرض دون أيّة بقايا. اقترب ذلك المخلوق من الفتى أدهم بعد ذلك، ثم رفع رأس الفتى ونظر إلى عينيه عن قرب مباشرة، قائلا: "اجعل اليأس موطنك، ولن تيأس مرّة أخرى. لا تحمل أملا، ولن تتحمّل ألما. سأمنحك شيئا جيّدا عليك استغلاله بطريقة صحيحة، وسأعود إليك عندما يحين الوقت المناسب."

وفي تلك اللحظة التي سمع بها الفتى أدهم كلام المخلوق أمامه، عاد الضوء إلى عينيه اللتين لم تعودا فارغتين بعد آنذاك.

كانت تلك هي أول مرّة يقابل فيها الفتى أدهم اليأس الحقيقيّ.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/08/02 · 980 مشاهدة · 1682 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024