215 - تسلّق الشجرة العظيمة، حياة

215 – تسلّق الشجرة العظيمة، حياة

التفت باسل إلى لمياء وباقي الحكّام ثمّ أخبرهم: "إن كنتم تعلّمتم الدرس فلن أصعّب الأمور عليكم، لكن إن كانت هناك بعض الرؤوس التي تحتاج إلى الطرق أكثر حتّى تستيقظ فلكم ذلك."

كان حاكم المياه قد فتح عينيه أخيرا، واستمع إلى ما قاله باسل، فرأى ما حدث لكنّ غضبه كان كبيرا فصرخ: "يا لـ..."

توقّف فجأة عن التكلّم لمّا رأى باسل يحرّك يده ويحملق إليه بعينين صارمتين، وأصبح وجهه شاحبا فأجبر تعبيره القاسي على أن يلين ويتشكّل كابتسامة، قبل أن يكمل كلامه السابق بصوت أهدأ: "يا لطيف، يا محترَم، نعم فهمنا الدرس ولا حاجة للطرق على الرأس."

"همف!" تنهّد باسل بخيبة أمل وقال: "أظنّ أنّه لن يمكنني طرق بعض الرؤوس أكثر، أليس كذلك يا جماعة؟" حدّق هذه المرّة إلى لمياء والحاكمين الآخريْن.

هزّ ثلاثتهم رؤوسهم وانضمّ إليهم حاكم المياه أيضا في فعل ذلك، ثمّ تساءلت لمياء: "يا سيّدي باسل،" كانت لهجتها معه في قمّة الاحترام: "هل هذا كلّ شيء؟ ألن يكون هناك عقاب لنا على خيانتنا ثقتك؟"

"همم؟" استغرب باسل ثمّ أجاب: "ألم أنجز العقاب الذي صرّحتُ به بالفعل؟"

كان باسل قد أخبرهم أنّ سيطرق رؤوسهم الصلبة قبل المعركة، لكنّهم فهموها كتعبير مجازيّ فقط، فهُم كانوا يحاولون قتله بكلّ ما لديهم، لذا كان غريبا ألّا يتلقّوا أيّ عقوبة قاسية.

ألحّت لمياء: "ولكن يا سيّدي، يبقى الأمر..."

"هيّا، هيّا." لوّح باسل يده وقال: "لم يكن لديّ علم أنّكِ تهتمّين بهذا النوع من الألعاب؟"

احمرّ وجه لمياء من الإحراج فسكتت ونظرت إلى الأرضيّة عاجزةً على النظر إلى عينيْ باسل، والذي حدّق إليها مبتسما وقال: "على كلّ، أنا لست مهتمّا بذلك النوع من الألعاب مع امرأة أحدهم." تفقَّد بعد ذلك الأرجاء فلمح أبهم يقف فوق أحد الجبال يراقب سرّا، فأشار له بيده حتّى يأتي إلى مكانهم.

نظر لمدّة طويلة بعد ذلك إلى الشجرة العظيمة التي يلتصق بها ذلك الحاجز، ثمّ أخبرهم بعدما قدم أبهم: "حسنا، سأتوجّه إلى قمّة حياة كما أخبرتكم آنفا. عودوا أدراجكم وانتظروا عودتي."

نظر إليه الحكّام الأربعة يحلّق نحو الشجرة العظيمة 'حياة' بتعجّب، ووصلتهم نيّة باسل الحسنة أخيرا. لقد كان يمكنه الذهاب وتسلّق الشجرة كما يريد ولن يقدر أحد على إيقافه، لكنّه مرّ من خلالهم واستأذنهم قبل ذلك، فإن لم تكن تلك حسن نيّة فماذا تكون عندها؟ لقد كانوا هم الأشخاص الذين أساؤوا الظنّ به واتّهموه بالشيطنة، فماذا يكونون عندها؟ ندموا على أفعالهم تلك وخصوصا حاكم الميّاه، فأحنوا رؤوسهم الظاهرة على الأرضيّة قليلا باحترام وتقدير.

لقد كان ذلك الوريث الشرعيّ الذي انتظروه لسنين عديدة، ويجب أن يكون هذا خبرا مفرحا لهم، فأخيرا، سيستطيعون تحقيق رغبتهم الموروثة جيلا عن جيل، ألا وهي إيقاظ الوحش النائم.

كان هناك معانٍ عدّة وراء لقب "الوحش النائم" هذا، فعندما مثلا وعد باسل لمياء سابقا بمساعدتهم على إيقاظ وحشهم النائم لقاء تركه يتسلّق الشجرة العظيمة، كان يقصد الوحش النائم الذي يقبع بداخلهم لا أباهم الروحيّ.

كانت هناك ثلاث أشياء يشار إليها بالوحش النائم، فكان أوّلها الأب الروحيّ للوحوش النائمة، وكان ثانيها الوحوش النائمة أنفسها إذْ نودِي كلّ عضو من هذه القبائل بالوحش النائم، وأخيرا استُعمِل هذا اللقب كوسيلة لتسمية الإمكانيّة التي يخبِّئها كلّ واحد من الوحوش النائمة.

كانت لمياء آنذاك متفاجئة للغاية كون باسل فهم كلّ هذه الأشياء السرّيّة وحتّى أنّه أخبرها أنّه يستطيع مساعدتهم على إخراج تلك الإمكانية، أو بصيغة أخرى، إيقاظ وحشهم النائم.

قيل أنّ أباهم الروحيَّ وحشٌ نائمٌ حقّا، وهم وحوش نائمة لأنّ إمكانيتهم الحقيقيّة لم تستيقظ بعد.

أتى أبهم بعد وهلة وساعد لمياء على النهوض بعدما فُكّ قيدها وقيود الحكّام الآخرين، فحدّقت لمياء إلى أبهم لمدّة طويلة بينما كان هو يحدّق إلى باسل، لذا عندما لاحظ نظراتها المركّزة عليه خجل وأزال يده عن يدها بسرعة.

ابتسمت لمياء ثمّ قالت له: "إنّك تنظر إليه بتطلّع حقّا، أستطيع رؤية درجة احترامك له، وبالطبع أتفهّم ذلك كلّيّا وخصوصا بعد ما حدث."

أجاب أبهم بشكل جدّيّ: "بالتأكيد، لطالما كنت أتجنّب المشاكل وأتصنّع الجبن حتّى لا أولّد الأحقاد تجاهي، لكنّ تفكيري تغيّر عندما قابلت سيّدي باسل. لقد كان الأمر صعبا في البداية، لكنّني شعرت كما لو أنّني تحرّرت من شيء ما كان يقيّدني طوال حياتي." ابتسم وأكمل: "لديه جاذبيّة تجعل الناس يرغبون في اتّباعه تلقائيّا."

حدّقت لمياء إلى باسل البعيد وصرّحت: "معك حقّ، حتّى عندما فعلنا كلّ ذلك تجاهه لم يرد علينا بالمثل، رجل عظيم ورحيم."

أومأ أبهم قبل أن يقول: "ولكن يا لمياء، عليك أن تتذكّري أنّ سيّدي باسل فعل ذلك فقط من أجلكم؛ لقد ساعدتم في الحرب الشاملة وتعزيزاتكم كانت كافية لقلب المعركة رأسا على عقب آنذاك، لذا هو يقدّر ذلك كثيرا."

نظرت لمياء إلى أبهم وقالت باهتمام: "يبدو أنّك تفهمه جيّدا."

"أفهمه؟" ضحك أبهم وأجاب: "أنا بعيد كلّ البعد عن فهمه صراحةً. أنا فقط أعلم أنّه يقابل الخير بالخير، والشرّ بالشرّ. إنّه يعلم تماما أنّه ليس في عالم لطيف حيث يواجه كلّا من الخير والشرّ بالخير، ولفعل ذلك يحتاج الشخص لعزم وحسم كافييْن لحمل أيّ ثقل."

نظرا إلى باسل مرّة أخيرة وانحنيا قليلا احتراما.

عمّ الصمت بينهما بعد ذلك، فأراد أبهم أن يفتح موضوعا ما، ولشدّة توتّره لم يسعه سوى أن يسأل عن أوّل شيء أتى إلى عقله، بما أنّ ذلك الشيء كان يثير اهتمامه في الواقع: "أأنت مهتمّة بذلك النوع من الألعاب؟"

حملقت إليه لمياء متفاجئة: "هاا؟"

***

كلّما اقترب باسل إلى الشجرة العظيمة خمدت حواسّه الخمس وثُبِّطت حاسّته السادسة، زاد وزنه كثيرا وعجز التحرّك بأريحيّة، قُيِّد جريان طاقته السحريّة وقُمِع بحر روحه، وكلّ ذلك جعل يشعر بالراحة كما لو أنّه يختبر سكينةَ حياةٍ أبديّةٍ، إذْ لم يعد يشعر بمرور الوقت أو الإحساس بالوجود نفسه، فقط أصل الحياة جعله ينغمس في سلام.

لو لم يكن للشخص قلب اختبر عقبات المسار الروحيّ غير المحدودة وروح يمكنها أن تتغلّب على كلّ الرغبات التي تطلبها النفس، مكتسبًا بذلك سلاما داخليّا، فمصيره سيكون الخضوع لسلام هذه الشجرة العظيمة والغدوّ جزءا من حياتها المديدة.

هدّأ باسل نفسه، وركّز على مساره الروحيّ، والمسار الروحيّ الذي اتّبعه معلّمه وأورثه إيّاه، وحاول مقاومة إرادة ونيّة الشجرة العظيمة أوّلا ثمّ مجابهة قوّتها الهائلة، إلّا أنّه لم ينجح في ذلك مهما حاول؛ فبالرغم من أنّه يملك إرادة حديديّة موروثة عن معلّمه وقلبا صافيا من الشوائب التي يمكنها أنّ تُضعِفه أمام سلام 'حياة'، إلّا أنّ كلّ ذلك لم يكن كافيا.

في الواقع، لم يكن حتّى إدريس الحكيم نفسه لينجح لو قدم إلى هنا. لقد كانت هذه الشجرة غامضة كثيرا ودُعِّمت من الوحش النائم الأكثر غموضا. من يعلم ما كان المستوى المطلوب حتّى يتغلّب الشخص على نيّتها وإرادتها وقوّتها؟

حام باسل في السماء بينما يفكّر: "حسب تقديراتي، حتّى بمستوى الإمبراطور لا يمكن مقارعة هذه الشجرة، وربّما حتّى مستويات عليا ولا جدوى. على كلّ، يختلف كلّ هذا بالنسبة للوريث الشرعيّ."

كان باسل يقمع الرخصة في دمه والسلطة في بحر روحه اللتين منحتهما تلك النيّة له، لكنّه أطلق عنانهما الآن، فإذا بكلّ شيء كان يقيّده بسبب حياة يختفي، فأكمل مساره كما كان.

كان لدى الوحوش النائمة الرخصة والسلطة الكافيتين اللتين تخوّلاهما أن يقتربا كفاية من الشجرة العظيمة والانتفاع من خيراتها، لكنّ الوريث الشرعيّ هو الشخص الوحيد الذي أمكنه تسلّق الشجرة وبلوغ قمّتها حسب الأقاويل.

لمس باسل جذع حياة فغمرته طاقة سحريّة هائلة لكنّها لم تجعله يمرّ بوقت عصيب مثل طاقة العالم، بل حامت وتركته يستخلصها بلطف حتّى ينتفع منها جيّدا ولا يحتاج إلى تنقيتها من الشوائب، مع العلم أنّ طاقة هذه الشجرة السحريّة كانت نقيّة للغاية.

حدّق إلى أعلاها لكنّه لم يلمح نهايتها أبدا، فعزم على البدء في تسلّقها. لقد وجب على الشخص أن يصعد إلى الأعلى بينما يربط بحر روحه بهذه الشجرة العظيمة وإلّا لن يصل مهما حاول بشتّى الطرق، بالطبع ما لم يكن مخلوقا خارقا.

كلّ وثبة على هذه الشجرة العظيمة جعلت باسل يحسّ بثقل السنين التي اختبرتها طوال فترة حياتها، وفي كلّ مرّة احتاج إلى أن يصعد فيها أكثر صرف كلّ ما يملك من قوّة حتّى ينجح في ذلك؛ فحتّى لو كان الوريث الشرعي، ذلك يعني أنّ القيود الصارمة تختفي فقط ولا يعني أن نيّة وإرادة وقوّة 'حياة' تختفي هي الأخرى، بل تبقى ممّا يجعل الشخص مُجهدا كلّيّا قبل أن يفوت المائة متر حتّى.

كان يعلم باسل جيّدا أنّ الحلّ هنا ليس هو استخدام السحر أو القوّة الجسديّة لبلوغ تلك القمّة، وإنّما ربط القلب والروح مع الشجرة حتّى يصبح جزءا منها، فما أن يفعل ذلك حتّى يكون قد بلغ مراده قبل أن يدري.

وبالنسبة لباسل، كان ذلك كأكل قطعة من الكعك، كونه قد فعل نفس الشيء قبل ثلاثة أيّام بالفعل، وحتّى أنّه أمضى الأيّام الثلاثة التالية كلّها مرتبطا بهذه الشجرة العظيمة، وبالإضافة إلى رخصة وسلطة الوريث الشرعيّ، صارت مسألة وقت لا غير.

أحس باسل بعد وقت طويل أنّه يغرق في بحر لا قعر له، لذا كلّ ما احتاج إلى فعله هو السباحة في هذا البحر صعودا من أعماقه إلى نور الشمس الذي يشعّ على السطح. كان ذلك البحر عالما مظلما بحد ذاته، لكنّه نور تلك الشمس كان يصنع طريقا للسبّاح بحيث لا يضيع طريقه أبدا، والشرط كان أن يكون السبّاح ماهر، أو بمعنى آخر، أن يكون الشخص مرتبطا بالشجرة العظيمة بشكل عظيم حتّى يتمكّن من تتبّع طريق الضوء ذاك.

ظهر في طريقه نحو الأعلى مظاهر خرافيّة، من جبال علت واخترقت السماء، وأشجار اخترقت جذورها العوالم وربطتها ببعضها، ومخلوقات مدهشة تطير وتجري وتسبح بين تلك العوالم. كانت نظرة حياة للحياة مذهلة وجعلت النفس تأنس.

افترق باسل عن العالم الواهن ولم يعلم أين هو آنذاك، وبعد مرور مدّة لا يعلم أحد عن طولها، بلغ باسل القمّة أخيرا فوجد نفسه في مكان غير متوقّع تماما. لقد كان يعلم أنّ قمّة الشجرة اتخذت شكلا دائريا، و من محيطها امتدت أغصان شرسة و أصيلة نحو الأعلى بمئات الأمتار ثم التقت بالمركز في السماء مكونة بذلك غطاءً طبيعيا هائلا، إلّا أنّه ما كان أمامه مختلف عن ذلك.

كان هناك فقط سماء زرقاء، وامتدّا مساحة ما رآه أمامه لمسافة لا تُحصى، وكلّها كانت أرضا صحراويّة. ولم يكن هناك شيء غير ذلك الشيء الطويل الأسود الغريب، إذ ارتفع إلى أعالي السماء واخترقها. وعندما اقترب منه أكثر وجد أنّه شيئين في الواقع.

لقد كانت حقيقة الشيء الطويل الأسود هي نخلة عتيقة حتّى أن جذعها يبدو هشّا كثيرا، فبدت كأنّها ستسقط في أيّ لحظة، لكنّ التاريخ الطويل الذي حملته على عاتقها كان يُشعر الشخص بعظمتها.

أمّا عن الشيء الثاني، فقد كان صحنا بجانب قاعدة النخلة. كان هذا الصحن عاديا إذْ كان خشبيّا وعاديا لدرجة كبيرة. لم يبدُ كأنّه كنز ما أو سلاحا روحيّا أسطوريّا. كان مجرّد صحن خشبيّ فقط.

كان هناك شيء بداخله، لكنّه كان مغطًّى بخرقة بيضاء لكنّها كانت متّسخة بغبار هذه الصحراء الشاسعة. وبالرغم من مرور كلّ تلك العصور على هذا الصحن الخشبيّ وتلك الخرقة، إلّا أنّهما ظلّا في مكانهما بجانب قاعدة النخلة الشاهقة.

كان باسل يعلم ما يجب فعله بسبب نيّة الوحش النائم، لذا اقترب من ذلك الصحن وكشف غطاءه، فإذا بسبع أشياء سوداء بطول أصبع الخنصر تظهر. كانت هذه الأشياء غير نادرة بالنسبة للعالم الواهن كونها وُجدت في العديد من المناطق وخصوصا في أرض إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة الشماليّة، والتي لُقِّبت بالأرض الحمراء.

ولكن، كان باسل يعلم تماما ما هي القيمة العظيمة لهاته الأشياء السبع، ومدى اختلافها عن باقيها، وكم هي متميّزة وفريدة في العوالم كلّها. لم يسعه سوى أن يبتسم ويصرّح: "تمر الحياة الجديدة! يا له من شيء لا تسمع عنه سوى في الأساطير! والآن يمكنني فعلها قبل فوات الأوان."

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/05/06 · 961 مشاهدة · 1767 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024