224 – أريحا (2)
كلّ أثر خلّفه ظلّ الشيطان وراءه، ما لمسه، وما حرّكه، كيف فعل ذلك، كم من الوقت احتاج، كلّ شيء بات واضحا لباسل في حالته تلك. كانت روحه تتعذّب وجسده يُقطع لكنّه واصل العمليّة دون تردّد، وبعد وقت طويل ابتسم وبدا كما لو أنّه وصل لنتيجة ما.
اختفى عالم الحكيم فجأة وتوقّف القرصان حول حدقتي عينيه عن الدوران فانجلت الكرات الكونيّة الفضّية فوق رأسه واختفت النجوم من عينيه، فسقط ممدّدا على الأرض بينما تتقطّر دماؤه من كل أنحاء جسده ببطء.
"لقد فهمت. هوهوهو، طبعا ستفعلها هكذا يا إبلاس، والآن قد ازداد اهتمامي أكثر بالكنز الذي سمح لك بالتنقّل بين العوالم هكذا."
كان إبلاس يستخدم كنزا عتيقا من أجل التنقّل من عالم إلى آخر، لكن يبدو أنّه ليس قادرا على فعل ذلك بسبب ختم العوالم. كانت الطريقة المصرّح بها هي بوّابة العالم، أو بوّابات العالم التي توجد في العوالم الرئيسيّة، لكنّ كلّ هذه البوّابات كانت متّصلة ولو انتقل شخص ما عبرها فسيدري حارس بوّابة العالم الأصليّ مباشرة.
كان يستخدم إبلاس هذا الكنز حتّى لا تُكشف تحرّكاته ويظلّ دائما متقدّما عن أعدائه بخطوات عدّة. وحاليا، بدا كما لو أنّ باسل اكتشف شيئا آخر متعلّقا بهذا الكنز العتيق.
ارتاح لأيّام حتّى تعافى كلّيّا من الأضرار التي سبّبها استخدام الحكمة السياديّة، فقد كان ليموت لولا قدرات شفائه الذاتي الاستثنائيّة، وحتّى بهذه القدرات استغرق أيّاما كي يُشفى تماما.
وقف عندئذ ثمّ عاد ليجلس عند الطاولة البسيطة، وحمل صورة أريحا مبتسما، فصرّح: "لم أرَ بشكل أعمق كما يجب."
علم باسل من خلال بصيرته السحيقة وتحليلاته الشاملة أنّ الصورة هي المفتاح الذي يبحث عنه، لكنّه عندما حاول بكلّ جهد الرؤية عبر أسرارها وفكّ أحاجيها، لم يتمكّن من تحقيق ذلك بالوسائل العادية. لقد تطلّب الأمر منه أكثر من الملاحظة والمراقبة العاديتين؛ احتاج أن يستخدم الحكمة السياديّة مرّة أخرى.
ظهرت الكرات الكونيّة من جديد وأحيط بعالم الحكيم فشغّل قدرتيْ البصيرة الحكيمة السحيقة والتحليل الحكيم الشامل، لكنّه عضّ شفته كونه علم أنّ هاتين القدرتين غير كافيتين هذه المرّة.
لم يكن يجب عليه المراقبة والتحليل فقط، وإنّما التحكم بشكل خالٍ من العيوب في كلّ سرّ من أسرار هذه الصورة.
ابتسم وانغمس في عمله الذي كان أحد أفضل الأشياء التي يفضّلها إلى جانب المغامرة، ألا وهو حلّ أعقد الأحاجي والألغاز.
تفعيل الدرجة الثالثة: التحكّم الحكيم السليم!
كانت الصورة مجرّد صورة في البداية، لكنّها صارت تبعث أشعّة من الإطار المحيط بها بتوهّج من النمط المرسوم عليه. وللدّقة، لم يكن هناك نمط مرسوم ولا أشعّة منبعثة، لكنّ باسل كان قادرا على رؤية هذه الأشياء المخفية بعينيه الحكيمتين.
لم يمكن الشخص العادي ملاحظة هذه الأشعّة أو الأنماط المرسومة إذْ كانت مطموسة عبر مصفوفات سكنت تلك الصورة، كما لو كان للصورة فضاءً خاصّا فيه عالم معزول.
تحرّكت طبقات الضوء في اتّجاهات مختلفة بينما تحمل معها حروفا رونيّة غيّرت قوانين العالم وجعلت الواقع وهما والعكس صحيح. علم باسل ما حقيقة تلك الحروف الرونيّة وبدأ يتحكّم بها.
"لحسن الحظ، لديّ تجربة في التحكّم بالمصفوفات الروحيّة وأنا بمستويات الربط، وبخبرة الحكمة السياديّة وقدراتها سأفكّ لغز كلّ المصفوفات التي تبني هذا العالم وتجعله يتّخذ هذه الصورة شكلا له، أو على الأقلّ مدخلا له."
يبدو أنّ صورة أريحا قد كانت عالما ثانويّا في الواقع!
كان باسل قد تدرّب مع معلّمه على النقوش الروحيّة قبل أن يخترق إلى قسم مستويات الربط الثاني، فكان شعوره وإحساسه مألوفين. كانت تنقصه المعرفة الحاسمة سابقا لكنّه يملكها الآن بفضل تضحية إدريس الحكيم.
تحسّر باسل ولم يسعه سوى أن يتفوّه بحزن: "لقد كسب حكمته السياديّة من أرض الوهب والسلب العتيقة بعد عناء دام لسنوات عديدة، إلّا أنّه مرّرها لي مضحّيّا بروحه، وسلّم لي عن طريقها كلّ المعرفة التي ملكها. لقد كنت أعلم أنّه كان الأفضل، لكن هذا فاق كلّ توقّعاتي."
وبينما يحلّ لغز أريحا تجوّل في عقله لقليل من الوقت مفكّرا في الألغاز التي سعى إدريس الحكيم إلى حلّها، ومن بينها كان لغز الأربعة عشر، ولغز المختارين، وألغاز عديدة لا يمكن للعقل البسيط التفكير فيها كأصل العوالم الأساسيّة.
أراد باسل أن يعلم عن هذه الأشياء ويكتشفها بقدر ما أراد تحقيق غايات معلّمه الموروثة إليه، ولكن بعدما تغلّب على نيّة السلطان ذو الطغيان بسبب تضحية إدريس الحكيم، اكتشف منها بعض الأشياء التي جعلت كلّ تلك الألغاز تزداد تعقيدا فقط لا غير.
كان يعلم أنّ لغز الأربعة عشر الذي بحث فيه معلّمه لا يُقصد به الأربعة عشر المختارين، فكلا اللغزين كانا مفترقين، ولكن نوعا ما لاحظ أنّ حلَّ واحدٍ يجعل حلّ الثاني سلسا وأكثر سهولة، وكذلك كان الحال مع باقي الألغاز.
كلّ هذه الألغاز كوّنت شبكة جعلت باسل غير قادر على تجاهل فكّها، وإلّا سيكون مجرّد حشرة وقعت في شراكها بينما تنتظر موتا بطيئا.
قال بعزم بعد وقت طويل من التفكير: "لأبلغنّ الأصل!"
لقد كانت عزيمته أشدّ ممّا كانت عليه في أيّ وقت: "لا آبه بكم سيستغرقني هذا الأمر، عشرات أو مئات السنين، أو حتّى ألفيات لا تُحصى، فسأفكّ عقدة تلو الأخرى وأجعل الشبكة حبلا مستقيما يخلو من الغموض. ذاك مساري الروحيّ!"
أمضى بعد ذلك وقتا طويلا، ولربّما كان أيّاما، حتّى غدا أخيرا قادرا على تمييز كلّ نمط وطريقة فكّه. لقد كان هذا العالم الثانويّ مصنوعا بطريقة معقّدة استحال على أيّ أعين أن ترى عبرها إلّا إذا كانت لها حكمة متناهية أو قادرة على تمييز الحقيقة من الوهم ولو في براثن الظلام.
اجتاحت طاقة روحيّة عالم الحكيم وجعلته يهتزّ فأثّر ذلك على روح باسل وجسده، فحتّى لو كان قادرا على فتح هذا العالم الثانويّ كانت السيطرة عليه أمرا مختلفا تماما، وخصوصا بمستواه الحالي، ولولا التحكّم الحكيم السليم لكان في عداد الموتى بسبب كمّيّة الطاقة الروحيّة الهائلة التي كانت لتُفجِّر بحر روحه مرّة واحدة بعد فتح العالم الثانويّ.
سيطر على تدفّق الطاقة الروحيّة وتحكّم في النقوش الروحيّة والحروف الرونيّة ثمّ وضع كلّ ما يملك من تركيز على تسخير كلّ قواه في قمع تلك النيّة الشرسة التي تحاول إبعاده ومنعه من الولوج إلى أريحا.
كانت النيّة تبعث هالة تُيئِّس البشر وتغرقهم في ظلامها اللانهائيّ قبل أن تقتحم أرواحهم وتلتهمها كتغذية لها.
عبس باسل واستجمع ما ملك من قوّة. لقد كان في حالة يرثى لها بعدما استخدم الحكمة السياديّة لهذا الوقت الطويل وأجبر بحر روحه على التلاعب بتلك النقوش الروحيّة والقوانين العالميّة، ومع ذلك، كان مصرّا على إكمال عمليّته ووضع كلّ شيء في هذه المرحلة الأخيرة التي فرضت عليه مجابهة نيّة العالم الثانويّ وقمعها مؤقّتا حتّى لو لم يهزمها كلّيّا.
توهّج جسده كما حدث تماما للصورة، فاكتمل بينهما الاتّصال أخيرا وتفوّق على النيّة بمهارة، فتحوّل إلى خيط من الضوء واختفى بداخل ذلك العالم الثانويّ.
وفي اللحظة التي أبصر بها تجلّت بحيرة أمامه معتدلة الحجم، وكانت محاطة بغابة صغيرة طُوِّقت بدورها بجبال شامخة. بدت هذه المنطقة كحصن طبيعيّ غنيّ بالموارد السحريّة.
كانت كثافة الطاقة السحريّة قويّة أكثر حتّى من تلك التي في أرخبيل البحر العميق، وبسبب ذلك كانت هناك العديد من الأعشاب السحريّة النادرة، والأزهار ذات العبق الزكيّ، والعبير الذي بعثته البحيرة.
تمتّع باسل بالجوّ هنا، فحدّق إلى السماء الحالكة ولاحظ البدر هناك، لكنّه علم أنّه كان مجرّد تجسيد من طاقة العالم الثانويّ لا غير، وفي حقيقته هو مجرّد إضاءة مصطنعة.
قال بوجه جدّيّ: "اليوم نيّتك يا إبلاس، وغدا روحك!"
تقدّم نحو البحيرة، فلاحظ نتوءا على سطحها. كان ذلك الشيء البارز يتحرّك بشكل حلزونيّ في البحيرة بينما يطلق هالة شرسة ونيّة قتل يسعها التهام أيّ شيء بشراهة مرعبة.
لاحظ أنّ النتوء كان في الحقيقة زعنفة قرش يسبح باستمرار حتّى يبلغ حدود البحيرة ويعود من جديد بينما يسبح حول البحيرة بشكل حلزونيّ حتّى يبلغ المركز. كان يكرّر العمليّة دون توقّف أو اهتمام بمرور الزمن.
حدّق باسل إلى الزعنفة ثمّ جلس بينما يتأمّل في البحيرة أيضا. لقد كان هناك شيئا خاصّا بالقرش والبحيرة؛ أراد أن يعلم عن السبب الذي يجعل قرشا يسبح في البحيرة بتلك الطريقة كما لو كان ذلك الهدف من وجوده.
مرّ بعض الوقت قبل أن يشعر باسل بإحساس مألوف ينبعث من البحيرة، فعلم عن ماهيّته فتسارعت ضربات قلبه قليلا ووقف مباشرة: "إنّه شعور مشابه للّذي بعثه قرص بحيرة المائة الفضّيّ آنذاك! حسنا، لا يمكن أن تكون هذه هي تلك البحيرة، لكنّني أفهم أخيرا كيف استطاع إبلاس تجميع مثل هذه الطاقة الهائلة وتكوين هذا العالم الثانويّ الغنيّ بهذه الطاقة السحريّة."
"كما توقّعت، المفتاح هو الكنز العتيق الذي يسمح له أن يتلاعب بالفضاء. ظننت في الأوّل أنّه كنز يسمح له بالتنقّل عبر العوالم، لكنّه أيضا وفّر له القدرة على تكوين فضاء خاصّ. يبدو أنّه سخّر قرص البحيرة المائة الفضّيّ حتّى يستخلص الطاقة اللازمة من بحيرة المائة نفسها كي يصنع هذا العالم."
"قد يكون عالما ثانويّا ضئيلا، لكنّ صنعه ليس بشيء بسيط وحتما توجّب على الشخص امتلاك مستوى خارق أو كنز عتيق يعوّضه عن نقص قوّته. وأخيرا بعيني الحقيقة خاصّتيه، أمكنه التلاعب بقوانين عالميّة سرّيّة وأنشأ هذا العالم، من أجل تدريب ظلّ الشيطان، هدّام الضَّروس."
أخذ باسل بضع خطوات إلى الأمام فاقترب من البحيرة، وما أن حاول لمسها حتّى هاج القرش واتّجه نحوه مباشرة بسرعة خاطفة. كان واضحا أنّ القرش وحش سحريّ، والآن تأكّد باسل من مستواه. لقد كان في قمّة المستوى الرابع عشر.
ابتعد باسل واضعا بينه وبين القرش مسافة آمنة، ثمّ قال: "أفترض أنّه اكتسب بعض خواصّ بحيرة المائة بعدما أمضى وقتا طويلا في هذه البحيرة التي نُسِخت من الأولى. لن يكون بمشكلة في العادة، لكنّني مرهق تماما حاليا. سأركّز على التعافي قبل أن أبدأ في اكتشاف البحيرة وهذا العالم الثانويّ كلّه."
جلس باسل متدبّرا، واضعا جلّ تركيزه على استعادة طاقته وشفاء جسده، بينما يتغذّى من الطاقة السحريّة لهذا المكان، والتي شكّلت ثقلا على بحر روحه بكثافتها ونقاوتها الاستثنائيّتيْن.
تمتّع هذا المكان بسكون يحمل معه السكينة، فاستمتع باسل بذلك وترك نفسه يندمج مع العالم الثانويّ حتّى ينتفع أكثر فأكثر.
فتح عينيه فجأة وقال: "لا شكّ في أنّ إبلاس قد علم أنّ أحدا قد دخل إلى عالمه الثانويّ، لكن لحسن الحظّ لا يمكنه فعل شيء الآن بما أنّ العوالم مختومة عن بعضها."
حتّى لو كان باسل في قرارة نفسه يرغب في قتل إبلاس الآن، فهو لا يمكنه تحقيق ذلك بمستواه الحالي، ولم يسعه سوى أن يحمد ربّه ويشكر الشخص وراء هذا الختم.
"عسى أن ترقد روحك في سلام يا أيّها السابع."
***
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.