كل شيء عاد إليّ دفعة واحدة.

الألم، الحزن، الخوف، الغضب، الذعر، وحتى الحب.

كل المشاعر التي كنتُ قد فقدتها في الأيام السابقة عادت لتحرقني الآن.

وكأنني كنتُ ميتة، والآن أُجبرتُ على الشعور بالحياة مجددًا… بطريقة لا تطاق.

رأسي كان يدور، أنفاسي كانت مضطربة، كل شيء من حولي أصبح ضبابيًا…

لكني كنتُ أراه.

كنتُ أرى رافاييل.

كان واقفًا هناك، يراقبني… يبتسم.

كيف يبتسم الآن؟

كيف يستطيع الابتسام بينما أنا أعيش أسوأ لحظاتي؟

كيف يمكنه الوقوف هناك، والاستمتاع بالفوضى التي خلقها؟

شعرتُ بالغضب يشتعل في داخلي… لكنه كان مختلطًا بالحزن، بالخوف، بالضعف الذي لم أكن مستعدة له.

ثم… تحرك.

رأيته يسير نحوي، خطواته هادئة، لكنه كان يبدو… كشبح وسط الدمار.

ككابوس حيّ.

تجمدتُ مكاني، بينما رأيته ينحني أمامي، يركع على ركبتيه، وكأنه كان يقدّم لي احترامًا كاذبًا.

لكن عيناه…

عيناه الأرجوانيتان كانتا مشعتين بالهوس.

لم ينظر إليّ أولًا.

بل نظر إلى سايلوس… المغمى عليه بين ذراعيّ.

ثم… ابتسم أكثر.

"كم هو مثير للاهتمام." تمتم بصوت ناعم، وكأنه كان يهمس لنفسه.

ثم، وبهدوء مريب، رفع يدي المرتجفة إلى شفتيه…

وقبّلها.

شعرتُ ببرودة بشرته، بشيء غريب في لمسته، بشيء لم أستطع تفسيره تمامًا…

لكني لم أستطع حتى التحرك.

كل شيء كان يسير بسرعة تفوق قدرتي على الاستيعاب.

"لا تبكي." همس، صوته كان كالمخدر، ناعمًا، لكن بطريقة خطيرة.

"إنه يؤلمني… أن أراكِ تبكين من أجل رجل آخر."

لم أستطع الرد.

لم أستطع حتى التنفس بشكل طبيعي.

لأنني كنتُ أرى عينيه.

كانتا…

مجنونتين.

شعرتُ بأنني محاصرة تحت نظرته، بأنني أصبحتُ فريسته، بأنني كنتُ مجرد تحفة مكسورة بين يديه.

ثم، فجأة…

رفع يده نحو وجهي.

مرر أصابعه الباردة على خدي، ثم على شفتيّ، وعيناه كانتا تلمعان بشيء لم أكن مستعدة لمواجهته.

هوس.

كان يحدق بي كما لو كنتُ معجزة مسجونة داخل جسد إنسانة.

"كم أنتِ جميلة وأنتِ محطمة، تونه."

همس كلماته الأخيرة، ثم ابتسم…

كالمجنون.

لم أكن أفكر.

لم أكن أتحكم بما أفعله.

كل ما كنتُ أعرفه هو أنني أرفض هذا.

أرفض لمسته.

أرفض ابتسامته.

أرفض كل ما يمثّله.

ورفعتُ يدي… وصفعته.

الصوت ارتدّ في القاعة، صدى الضربة تردد بين الجدران المائية، وشعرتُ بوخز في كفي من شدّة الصفعة.

رافاييل لم يتحرك على الفور.

لم يرفع رأسه حتى.

لكن الصمت الذي ساد المكان… كان قاتلًا.

ثم، فجأة، حدث الانفجار الحقيقي.

الحراس تحركوا.

رأيتهم يندفعون من جميع الاتجاهات، أسلحتهم ارتفعت نحوي، عيونهم كانت باردة، قاسية، مستعدة لقتلي في لحظة واحدة.

لكن قبل أن يتمكن أي منهم من التصرف…

"توقفوا!!!"

صرخة رافاييل مزقت الهواء.

رأيته يرفع يده فجأة، وعيناه الأرجوانيتان كانتا تشتعلان بنيران غضب لم أرها فيه من قبل.

"أنتم ترفعون سلاحكم على من؟"

كان صوته حادًا، غاضبًا، لا يحمل أي أثر للهوس الذي كان يملأه قبل لحظات.

رأيتُ الحراس يتجمدون، أيديهم ترتجف قليلاً، وكأنهم لم يكونوا مستعدين لهذا النوع من الغضب منه.

ثم، بصوت منخفض لكنه مليء بالتهديد، أكمل:

"أنتم ترفعون سلاحكم على قدّيستكم؟"

رأيته ينظر إليهم ببرود قاتل، وكأن مجرد وجودهم كان يزعجه.

"أنتم تجرؤون… على تهديدها؟"

رأيتُ أحد الحراس يبتلع ريقه بصعوبة، ثم خفض سلاحه فورًا، والبقية تبعوه بسرعة.

لكنني لم أكن مهتمة بذلك.

كنتُ فقط أنظر إلى رافاييل.

كان لا يزال راكعًا أمامي، لكن رأسه كان مائلًا قليلًا للجانب، كأنه كان يدرس ملامحي.

وعلى شفتيه…

كانت هناك ابتسامة صغيرة.

"كم أنتِ رائعة، تونه." همس بصوت ناعم، لكنني شعرتُ بشيء خطير خلف كلماته.

ثم، ببطء، لمس مكان الصفعة على وجهه، وكأنها كانت علامة مقدسة، وليست إهانة.

"أتعلمين…؟"

رفع نظره لي مباشرة، ابتسامته الصغيرة تحولت إلى ابتسامة أوسع…

وأخطر.

"هذا يجعلني أرغب بكِ أكثر."

____

لم أهتم به.

لم أهتم بنظراته، بكلماته، بابتسامته التي تحمل هوسًا أكثر مما تحمل أي شيء آخر.

لم أهتم بأي شيء.

كل ما كان يهمني…

هو سايلوس.

خفضتُ نظري إليه، إلى وجهه الشاحب، إلى الدماء التي تلطّخت بها ملابسه، إلى صدره الذي بالكاد يرتفع وينخفض بأنفاس ضعيفة.

"سايلوس…؟"

لم يرد.

"سايلوس، استيقظ… من فضلك، لا تفعل هذا بي."

كان صوتي متحطمًا، هشًّا، مليئًا برعب لم أكن أعرف كيف أتعامل معه.

"أرجوك… افتح عينيك…"

لكن لا شيء.

فقط الصمت.

ثم، فجأة…

شعرتُ به.

الماء تحتنا… نبض.

لم يكن مجرد تموج، لم يكن مجرد حركة خفيفة…

بل كان كأنه كائن حيّ بدأ بالتحرك.

ثم…

تحرّك بعنف.

شعرتُ بالطاقة تنفجر تحتي، دفعة قوية من الماء ارتفعت فجأة، اندفعت نحو الجميع، جعلت كل من كان حولي يطير للخلف بقوة غير مرئية.

حتى رافاييل نفسه.

سمعته يطلق شهقة مفاجئة وهو يتراجع، لم يكن يتوقع أن يتم دفعه بهذا الشكل…

لكن الغريب لم يكن ذلك.

الغريب كان تعبيره.

كان مصدومًا… لكن… كان سعيدًا؟

رأيتُ عينيه تلمعان بإثارة غريبة، وكأن شيئًا كان ينتظر حدوثه منذ وقت طويل… قد حدث أخيرًا.

لكنني لم أكن مهتمة به.

لأنني كنتُ أرى شيئًا آخر.

كنتُ أرى الماء يتحرك حولي.

ليس كالمعتاد، ليس كما كنتُ أتحكم به سابقًا…

بل كان يتحرك من تلقاء نفسه.

كان الماء يتجمع، يحيط بي وبسايلوس مثل قبة شفافة، تفصلنا عن كل شيء حولنا.

ثم، أمام عينيّ…

بدأ الماء يلتف حول جسد سايلوس.

كنتُ أراه… كيف كانت قطرات الماء تلتصق بجلده، كيف كانت تتغلغل في جرحه، كيف كانت تسحب الدماء بلطف، كأنها تعيد تشكيله من جديد.

شعرتُ بأنفاسي تتسارع.

ما الذي يحدث؟

كيف…؟

رفعتُ نظري ببطء، التفتُ إلى رافاييل، رأيته لا يزال واقفًا هناك، لا يتحرك، لا يتدخل…

فقط يراقب.

كان يحدق بي كما لو أنني قد تحولت إلى أعجوبة نادرة، كما لو أنني لم أكن مجرّد كائن عادي بعد الآن.

لكنني لم أهتم بنظراته.

لأنني شعرتُ به.

شعرتُ به يتحرك بين ذراعيّ.

"تونه…؟"

كان الصوت ضعيفًا…

لكنني عرفته على الفور.

"سايلوس؟!"

رأيتُ عينيه الحمراوين تفتحان ببطء، رأيته يرمش مرتين، وكأنه كان يحاول التركيز على وجهي.

ثم، بصوت خافت جدًا، لكنه لا يزال يحمل نبرته المعتادة، همس:

"أميرتي… هل كنتِ تبكين من أجلي؟"

ورغم كل شيء…

رغم الدموع التي لم تتوقف…

رغم كل الفوضى التي كنتُ غارقة فيها…

شعرتُ بأن قلبي ينبض بطريقة لم أشعر بها منذ زمن طويل.

_____

لم أستطع الإجابة.

لم أستطع حتى التنفس بشكل صحيح.

"أميرتي… هل كنتِ تبكين من أجلي؟"

كلماته كانت بسيطة، لكنها ضربت شيئًا عميقًا بداخلي.

لكن الأمر لم يكن مجرد كلماته.

بل ما كنتُ أراه أمامي.

حدّقتُ به، بجسده، بملامحه… ولم أصدق ما كان يحدث.

الطعنة… كانت تختفي.

شعرتُ بعيني تتسعان بينما نظرتُ إلى المكان الذي كان الجرح فيه…

لكن لم يكن هناك شيء.

لا دماء… لا تمزق… لا أثر حتى للطعن.

"مستحيل…" تمتمتُ بصوت مرتعش، يدي لا تزال تمسك بوجهه، لكن الآن، لم يكن شاحبًا كما كان قبل لحظات.

بل كان… بصحة جيدة؟

شعرتُ بيدي تتحرك تلقائيًا إلى صدره، حيث كان الجرح العميق قبل لحظات فقط.

لم يكن هناك شيء.

جلده كان سليمًا تمامًا.

"ما الذي…؟"

حتى خدوشه… آثار القتال التي كانت تغطي يديه ووجهه…

كانت تختفي أمام عينيّ.

التعب الذي كان يثقل ملامحه… الهالات التي كانت تحيط بعينيه… حتى الشحوب في بشرته…

كلها كانت تختفي.

ورأيتُه… كيف كان يشعر بذلك أيضًا.

رأيته يرفع يده، ينظر إلى أصابعه، وكأنه كان يحاول استيعاب الأمر.

ثم، ببطء، أغلق يده في قبضة، وشعرتُ بالطاقة تتدفق منه كما كانت دائمًا… قوية، عنيفة، مدمرة.

لم يكن ضعيفًا بعد الآن.

لم يكن حتى مجروحًا.

لقد عاد إلى حالته الطبيعية بالكامل.

وكأنه لم يُطعن أبدًا.

"كيف…؟" تمتمتُ، وقلبي كان يدق بجنون في صدري، عيناي تتنقلان بينه وبين الماء الذي كان يحيط بنا، الذي كان لا يزال نابضًا بالحياة.

لكنني لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك.

"أوه… هذا مذهل!"

جاء الصوت الذي لم أرغب بسماعه الآن.

التفتُ بسرعة، لأرى رافاييل لا يزال يقف هناك، لكن هذه المرة، لم يكن ساخرًا أو متلاعبًا كعادته.

بل كان… مبهورًا.

"لم أتوقع هذا إطلاقًا!" ضحك، وضع يده على فمه وكأنه كان يحاول احتواء انفعاله، لكن الإثارة كانت واضحة في عينيه اللامعتين.

"لقد توقعتُ منكِ أشياء مذهلة، قدّيستي العزيزة، لكن… هذا؟!" فتح ذراعيه، وأشار نحوي ونحو سايلوس. "هذا شيء خارج عن المألوف تمامًا!"

لم أكن أفهم.

لم أكن أستطيع الفهم.

كل ما كنتُ أعرفه هو أنني كنتُ أجلس هنا، وسط الماء الذي تحرك وحده…

وأمام عينيّ، رجل كان من المفترض أن يكون ميتًا… كان الآن بكامل قوته.

وهذه المرة، لم أكن أنا الوحيدة التي كانت ترتجف.

"لا تقترب!!"

اصرخ عندما اراه يقترب من الحاجز

-

كان صوتي أعلى مما توقعت، مشحونًا بكل الغضب والتوتر والخوف الذي كنتُ أشعر به.

رأيتُ رافاييل يتوقف في مكانه، رافعًا يديه ببطء وكأنه يريد أن يظهر استسلامه، لكنني لم أكن غبية.

كان مستمتعًا.

"حسنًا، حسنًا، لا داعي للصراخ، قُدِّيستي." قالها بصوت مريح، لكن عينيه كانتا تتوهجان بفضول خطير. "كنتُ فقط أريد الاقتراب لأرى هذه الأعجوبة عن قرب…"

لم أسمح له بإكمال جملته.

"إذا اقتربت خطوة أخرى، فسأُغرق هذا المكان كله." قلتُها ببطء، وأنا أشعر بقوة الماء من حولي تتجاوب مع تهديدي.

رفعتُ يدي قليلًا، فرأيتُ كيف تموجت المياه حولنا بعنف، كيف ارتفعت تياراتها وكأنها تنتظر مني الأمر بالهجوم.

رافاييل لاحظ ذلك أيضًا.

لكنه فقط… ضحك.

"أوه، كم أنا فخور بكِ الآن!" هتف، ثم وضع يده على صدره وكأنه تأثر حقًا. "إنها لحظة جميلة عندما تهددينني بتدمير عالمي، قُدِّيستي العزيزة. يجعلني هذا أشعر بأنني قد أديتُ واجبي على أكمل وجه."

كرهتُ الطريقة التي قالها بها.

كرهتُ الطريقة التي كان يبتسم بها وكأن هذا كله لعبة بالنسبة له.

لكنني لم أكن أملك الوقت لأرد عليه.

لأنني شعرتُ بيد دافئة تمسك بيدي الأخرى.

التفتُ فورًا، لأجد سايلوس قد نهض، كان متوازنًا بالكاد، لكن عينيه كانتا ثابتتين نحوي… ومليئتين بالدهشة.

"تونه…" قال بصوت منخفض، وكأنه كان يحاول فهم شيء لا يمكنه تصديقه.

حدّق بي للحظة طويلة، ثم رفع يده الأخرى ولمس وجهي بلطف، وكأنه كان يحاول أن يتحقق إن كنتُ حقيقية.

شعرتُ بيديه تلامسان وجنتيّ، بأصابعه وهي تمسح…

دموعي.

"أنتِ تبكين؟"

بدوتُ وكأنني لم أسمع سؤاله، لأنني كنتُ لا أزال غارقة في اللحظة، في كل المشاعر التي انفجرت داخلي دفعة واحدة.

لكنني رأيتُ صدمته، رأيتُ كيف كانت عيناه تبحثان عن تفسير…

رأيتُ كيف كان يحاول أن يستوعب أنني… استعدتُ مشاعري.

"كيف…؟" تمتم بصوت خافت، وكأنه لا يستطيع تصديق ذلك. "كيف استعدتِ مشاعركِ؟"

أغلقتُ عينيّ للحظة، شعرتُ بأنني أرتجف، ثم همستُ بصوت بالكاد خرج من فمي:

"لا أعلم… لقد حدث كل شيء بسرعة…"

ابتلعتُ ريقي، ثم نظرتُ إليه مجددًا، إلى الرجل الذي كنتُ أعتقد أنني خسرته، إلى الرجل الذي كان بين الحياة والموت قبل لحظات…

إلى الرجل الذي كنتُ مستعدة أن أفقد كل شيء من أجله.

"لقد اعتقدتُ أنني فقدتك…" همستُ، وصوتي كان مزيجًا من الضعف والألم. "لقد اعتقدتُ أنني لن أراك مجددًا…"

رأيتُ كيف تغيّر تعبيره، كيف تحولت الصدمة إلى شيء آخر، إلى شيء لم أستطع وصفه بالكلمات…

لكنني لم أكن بحاجة إلى الكلمات.

لأنني، وبدون تفكير…

ارتميتُ بين ذراعيه.

شعرتُ بذراعيه تلتفّان حولي فورًا، بقوة، كما لو أنه كان يخشى أن أهرب منه، كما لو أنه كان يريد أن يتأكد أنني لا أزال هنا، معه.

"أنا هنا، أميرتي…" همس لي، بينما دفنتُ وجهي في كتفه، بينما كنتُ أشعر بأنني أعود إلى مكاني الصحيح.

شعرتُ به يأخذ نفسًا عميقًا، ثم يمرر يده في شعري ببطء، وكأنه كان يحاول تهدئتي، أو ربما كان يحاول تهدئة نفسه.

لكنني لم أستطع البقاء هنا أكثر.

"أريد أن أخرج من هنا." همستُ بصوت منخفض، وأنا أشعر أن رأسي لا يزال يدور، أنني لا أزال غير قادرة على استيعاب كل شيء حدث.

"أشعر بأنني لستُ بخير، سايلوس… أخرجني من هنا."

شعرتُ به يضغط ذراعيه حولي بقوة أكبر،

التفتُ للحظة، فرأيتُ رافاييل لا يزال يراقبنا، لا يزال يبتسم، لكن هذه المرة…

كانت ابتسامته أكثر هدوءًا.

وكأنه كان يرى شيئًا لم يكن يتوقعه.

لكنني لم أهتم.

لأن كل ما كنتُ أريده…

هو أن أكون بعيدة عن هذا المكان.

شعرتُ به أولًا قبل أن أراه.

الضغط في الماء تغيّر، كأن هناك شيء عظيم قد دخل إلى هذا المكان، كأن البحر نفسه… قد اختل توازنه.

لكن هذا لم يكن كافيًا لإيقاف ما كان يحدث.

"أمسكوهما."

جاء صوت رافاييل واضحًا، حادًا، لا يحمل أي مجال للنقاش.

في لحظة، تحرك الحراس الذين كانوا يحيطون بنا.

كانوا أسرع مما توقعت.

لكن ليس أسرع منا.

شعرتُ بسايلوس يتحرك، رأيته يضعني خلف ظهره بسرعة، رأيتُ كيف تجمعت طاقة سوداء كثيفة حوله، كيف امتلأت عيناه بتلك النظرة التي رأيتها مرات عديدة من قبل.

نظرة الرجل الذي لا يرحم.

"أنتم تقترفون خطأً فادحًا." قالها بصوت خفيض، لكن الصدى الذي حملته كلماته جعل الغرفة بأكملها تهتز.

لم يكن هذا تهديدًا.

كان وعدًا.

تحركتُ بدوري، جمعتُ طاقتي، شعرتُ بالماء يستجيب لي كما لم يفعل من قبل، كأنه كان ينتظرني، كأنه كان يتوق لأن أستخدمه كما يجب.

لكن…

قبل أن نتحرك…

حدث شيء لم يكن في الحسبان.

في لحظة، كأن الظلام قد حلّ فجأة.

لم يكن هذا طبيعيًا.

لم يكن مجرد شعور.

بل كان شيئًا ملموسًا.

رفع الجميع رؤوسهم إلى الأعلى… ليروا ما كان يقترب.

كانت هناك غواصات.

لكنها لم تكن عادية.

لم تكن مجرد مركبات.

بل كانت أسطولًا.

أسطولًا كاملًا.

تحركت ببطء، اخترقت السقف الزجاجي العملاق الذي كان يعلو المدينه المائيه ، لكن بطريقة لم تكسره، لم تدمره… بل كأنها قد فُتحت لها ممرات خاصة.

"ماذا…؟" تمتم رافاييل، عينيه اتسعتا للحظة، وهو ينظر إلى ما يحدث.

لكنني كنتُ أعرف من هو المسؤول عن هذا.

لأنني رأيته…

رأيته يقف هناك، في مقدمة الأسطول، بكامل فخامته.

رأيته وهو يقف بشموخ، مرتديًا زيه العسكري الأسود الداكن، المطرّز بخيوط فضية، والذي كان يلمع تحت الأضواء المائية.

الجنرال الفولاذي… كايلب.

كان يبدو كما لم أره من قبل.

كقائد. كقوة لا يمكن إيقافها. كإعصار من الفولاذ والحسابات الباردة.

لكن أكثر ما لفت انتباهي…

كان السلاح الذي كان يحمله بين يديه.

كان مختلفًا.

لم يكن مجرد سلاح ناري متطور، لم يكن مجرد قطعة معدنية أخرى من ترسانة أسلحته.

كان شيئًا… صُمّم خصيصًا لهذا المكان.

لأنني شعرتُ به.

شعرتُ كيف اهتزّ الماء لحظة أن حمله.

رأيتُ كيف نظر رافاييل إلى السلاح، كيف تغيرت ملامحه للحظة، كيف انعكست عليه لمحة من…

القلق؟

ابتسم كايلب، لكن الابتسامة لم تكن تحمل أي أثر للمرح هذه المرة.

بل كانت… ابتسامة قاتل محترف.

"معذرةً على التأخير،" قال بصوت هادئ، لكنه حمل من السلطة ما جعل الجميع يصمتون.

"لكنني أعتقد أن هذا الحفل قد طال أكثر من اللازم."

ثم، ببساطة، رفع سلاحه…

ووجّهه مباشرة إلى رأس رافاييل.

_____

كان المكان ساكنًا تمامًا.

هدوء قاتل، ثقيل، كأن العالم كله قد توقف للحظة.

لكنني كنتُ أعرف أن هذا لم يكن هدوءًا حقيقيًا.

بل كان… العاصفة التي تسبق الدمار.

كايلب لم يتحرك.

لم يرف له جفن حتى وهو يوجه السلاح إلى رأس رافاييل.

لكن رافاييل…

هو من تغيّر تمامًا.

لم يعد يبتسم.

لم يعد يضحك.

لم يعد ذلك الرجل الدرامي المدلل الذي يتلذذ باستفزاز الجميع.

بل أصبح شخصًا آخر.

شخصًا… خطرًا.

رأيته يرفع بصره قليلًا، ينظر إلى كايلب نظرة لم أفهمها بالكامل، لكنني شعرتُ بها.

كانت… بلا رحمة.

"أنزل سلاحك، كايلب."

كان صوته هادئًا، لكنه حمل شيئًا أكثر ظلامًا مما توقعت.

"وإلا…"

أمال رأسه قليلًا، وعيناه كانتا تلمعان بضوء غريب.

"ستندم على هذا القرار."

لم يتحرك كايلب.

لم يرد حتى.

لكنني رأيتُ كيف اشتدّ فكه قليلًا، كيف ضاقت عيناه وهو يحدق برافاييل كما لو كان يدرسه.

ثم، فجأة…

"حقًا؟"

كانت كلمته الوحيدة… لكنها كانت كافية.

لأنني رأيتُ كيف رفّ جفن رافاييل للحظة، وكأنها لم تعجبه.

لكنه استعاد سيطرته فورًا، ابتسامة صغيرة خطرت على شفتيه، لكنه لم يكن سعيدًا.

"أتعلم، جنرالنا الفولاذي؟" تمتم بصوت منخفض، وهو يخطو خطوة إلى الأمام، غير مبالٍ بالسلاح الذي لا يزال مصوبًا نحو رأسه.

"لا مانع لديّ بتحويل البحار كلها إلى اللون الأحمر اليوم… إن كنتَ ترغب في ذلك."

كان التهديد واضحًا، لا غموض فيه هذه المرة.

ثم، ببطء، التفت نحوي.

"لن أترككِ، قُدِّيستي."

كلماته خرجت ناعمة، لكنها كانت تملؤها القسَم.

"أنتِ تخصّينني… أنتِ تنتمين إلى البحار."

لكن قبل أن أفتح فمي…

قبل أن أتمكن حتى من الرد…

ضحك سايلوس بصوت منخفض.

ضحكة قصيرة، جافة… لكنها حملت شيئًا كاد يجمّد الدم في عروقي.

"هل هذا ما تعتقده، رافاييل؟"

التفتُ بسرعة إليه، ورأيتُ كيف كان يقف بثبات بجانبي، كيف كانت طاقته السوداء تتدفق من حوله كما لو كانت تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

كان جسده هادئًا… لكن عينيه؟

كانتا تحترقان غضبًا.

"أتعلم ما هو المضحك حقًا؟" تابع سايلوس، وهو يميل رأسه قليلًا، وكأنه كان يسخر من كل هذا الوضع.

"أنك تعتقد أنني سأسمح لك بأخذها."

لم تكن كلماته مجرّد تهديد.

كانت حكمًا بالإعدام.

رفعتُ بصري إلى رافاييل، رأيته يرمقه بصمت، ثم فجأة…

ابتسم.

"حسنًا، حسنًا…" تمتم، ثم زفر ببطء وهو يضع يده على خاصرته. "إذن هذا هو الوضع الآن؟"

حرك يده ببطء، أشار نحوي بإصبع واحد، ثم نحو كايلب، ثم نحو سايلوس…

ثم، بابتسامة ماكرة، قال:

"كلاكما… لن تتخلا عنها، أليس كذلك؟"

كان السؤال بلا داعٍ.

لأن الإجابة كانت واضحة جدًا.

رأيتُ كيف تبادل كايلب وسايلوس نظرة قصيرة جدًا، نظرة مليئة بالتفاهم الذي لم يحتاج إلى كلمات.

ثم، معًا…

ثبتا أقدامهما في الأرض.

كايلب، الجنرال الفولاذي، قائد أسطول لا يُقهر…

وسايلوس، سيد الظلال، والرجل الذي جعل العوالم السفلى تركع تحت قدميه.

كلاهما كانا مستعدين للحرب من أجلي.

وكأنني كنتُ… الكنز الذي لا يمكن التخلي عنه.

كان كل شيء يحدث بسرعة.

كايلب لم يُخفض سلاحه.

سايلوس لم يُهدئ طاقته.

رافاييل لم يتراجع.

والتوتر؟

كان يخنق المكان بأكمله.

رأيتُ كيف كانت عيونهم تتواجه، كيف كان كل منهم مستعدًا للقتال حتى النهاية، كيف كان كل شيء على وشك الانفجار.

لكنني لم أكن قادرة على تحمل هذا أكثر.

"توقفوا!"

خرجت صرختي أعلى مما توقعت.

أعلى مما كان يجب أن تكون.

لكنني لم أكن أهتم.

لأنني كنتُ على حافة الانهيار.

رأيتُ كيف التفتت كل العيون إليّ، كيف شعر الجميع بتلك الطاقة التي اندفعت مني بلا تحكم، كيف تماوج الماء حولنا بعنف، كأنه كان يستجيب لمشاعري المنفلتة.

"ما الذي تفعلونه؟!" صرختُ، أتنفس بصعوبة، أشعر بأن كل خلية في جسدي مشحونة بالتوتر والانفعال.

لم يرد أحد.

لكنني لم أكن بحاجة إلى إجاباتهم.

لأنني كنتُ أراهم.

أراهم مستعدين للحرب.

"هل هذا هو ما كنتُ أحاول تجنبه؟" همستُ، لكن صوتي كان يحمل غضبًا، ألمًا، شيئًا أعمق من مجرد سؤال.

رأيتُ كيف توترت ملامح كايلب، كيف ضاقت عينا سايلوس قليلًا، كيف ظلّ رافاييل يحدّق بي وكأنه كان ينتظر ما سأقوله.

"لقد فقدتُ مشاعري." قلتُ، وصوتي كان ثابتًا رغم العاصفة داخلي. "لقد تحولتُ إلى شيء لم أكن أريده… كل هذا، فقط لكي أتجنب الحرب."

شعرتُ بأنفاسي تهتز.

"لكنني أراها الآن أمامي."

رفعتُ يدي، أشرتُ إليهم، إلى هذا الجنون الذي كنتُ غارقة فيه.

"أراكم تستعدون للقتال، وكأن كل ما فعلته لم يكن له معنى."

بللتُ شفتيّ الجافتين، ثم أضفتُ بصوت أكثر حدة:

"أخبروني إذًا، ما كان الهدف من كل هذا؟!"

مرّت لحظة من الصمت.

لكنني كنتُ أعرف أنني قد ضربتُ في العمق.

كايلب كان أول من حرك رأسه قليلًا، عيناه كانتا تحملان شيئًا لم أفهمه، لكنه لم يقل شيئًا.

أما سايلوس…

فقط حدق بي، ثم زفر ببطء، كأنه كان يحاول كبح شيء بداخله.

لكن رافاييل؟

كان الوحيد الذي لم يتأثر.

بل فقط ابتسم، ابتسامة كانت تحمل شيئًا خطرًا جدًا.

ثم، بصوت ناعم، لكنه مليء باليقين، قال:

"لأن الحرب… لم يكن بإمكانكِ تجنبها أبدًا، قُدِّيسَتي."

كانت كلماته كالسيف الذي مزق كل شيء حاولتُ بناءه.

لكن....

لم يكن أحد مستعدًا لما حدث بعد ذلك.

ارتجاج ....

الارتجاج الأول كان خفيفًا… بالكاد ملحوظًا.

الارتجاج الثاني؟

كان كابوسًا حيًا.

شعرتُ بالأرض تحت قدمي ترتجف بعنف، كما لو أن البحر نفسه قد بدأ ينهار من الداخل.

سمعتُ هديرًا… ليس مجرد اهتزاز طبيعي، بل نبض ضخم، وكأن العالم بأكمله كان على وشك الانهيار.

رفعتُ بصري إلى الأعلى…

ورأيتُ الفوضى الحقيقية.

المخلوقات البحرية التي كانت تسبح بانسيابية قبل لحظات، تحولت إلى أسراب مذعورة، تتحرك بشكل عشوائي، وكأنها تحاول الفرار من شيء غير مرئي.

رأيتُ أسماكًا عملاقة تصطدم بالمباني، كائنات مائية نادرة تطلق أصواتًا مرعبة، المياه نفسها كانت تغلي، كما لو أن شيئًا ما كان يسحبها إلى الجنون.

ثم…

بدأت المباني تنهار.

تصدعت الأعمدة الضخمة، الزجاج المقاوم للضغط تشقق، الأنوار النيونية انطفأت واحدة تلو الأخرى…

كان هذا أكثر من مجرد خلل بسيط…

كان هذا انهيارًا كاملًا.

لكنني لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك.

"مستحيل…"

همس رافاييل، منخفضًا، لكنه حمل رعبًا لم أسمعه من قبل.

التفتُ ببطء، ورأيتُه.

رافاييل.

لأول مرة منذ أن قابلته… لم يكن مغرورًا. لم يكن مستمتعًا. لم يكن ساخرًا.

بل كان… خائفًا.

عيناه الأرجوانيتان كانتا متوسعتين بصدمة نادرة، يحدق في الفراغ أمامه وكأنه رأى شبحًا.

أو بالأحرى… كأنه رأى نهاية عالمه.

"ما الذي…" همس، لكن صوته كان بالكاد مسموعًا وسط الضوضاء. "ما الذي يحدث؟!"

لم يمنحه أحد إجابة.

لأن لا أحد كان يعرف.

لكنني رأيتُ كيف تغير وجهه في لحظة.

تحول الرعب إلى إدراك… ثم إلى شيء أسوأ.

"الغرفة المقدسة."

همس بصوت لا يحمل أي عاطفة، ثم…

انطلق.

لم ينتظر تفسيرًا، لم يتوقف للحظة، بل استدار واستخدم سرعته الغير بشرية ليختفي في الاتجاه الآخر.

لكنني لم أكن الوحيدة التي لاحظت ذلك.

"اتبعوه!" صرخ أحد القادة، وبسرعة، تحركت مجموعة من الحراس ذوي المكانة العالية، الأشخاص المسؤولون عن الغرفة المقدسة، يركضون خلفه وكأن حياتهم تعتمد على ذلك.

ورغم كل شيء…

رغم الفوضى…

رغم كل الدمار الذي كان يحدث حولنا…

لم أستطع منع نفسي من التفكير…

إذا كان رافاييل نفسه قد فقد هدوءه…

فما الذي ينتظرنا هناك؟

ركضتُ.

لم أفكر، لم أتردد… فقط ركضتُ.

أصوات التحذيرات خلفي كانت تتلاشى وسط هدير المياه وانهيار المباني.

سمعتُ سايلوس ينادي باسمي، شعرتُ بطاقة كايلب تحاول إيقافي، لكنني لم أتوقف.

شيء ما بداخلي كان يدفعني للأمام.

شيء… أعمق من مجرد الفضول.

كان الخطر، كان الخوف الحقيقي…

وكان عليّ أن أرى السبب بنفسي.

وصلتُ إلى الغرفة المقدسة، أنفاسي متسارعة، جسدي مشحون بطاقة لا أفهمها.

لكني ما إن دخلتُ… حتى تجمدتُ.

كانت لا تزال واسعة… وبيضاء بالكامل… لكنها لم تكن مقدسة بعد الآن.

رأيتُ الجدران، كيف كانت مليئة بالتشققات العميقة، كيف كان الضوء الأزرق الخافت الذي يملؤها دائمًا… يخفت شيئًا فشيئًا، كأنه يحتضر.

لكن الأسوأ لم يكن ذلك.

بل كان…

الحفرة.

بالقرب من المذبح المركزي، في الزاوية حيث يفترض أن يكون قلب الغرفة…

كان هناك ثقبٌ هائل، مظلم، بلا قاع.

رأيتُ الجميع يقفون حوله، في حالة صدمة مطلقة.

رأيتُ رافاييل، لأول مرة في حياته، بلا كلماته السخيفة، بلا سخريته المعتادة…

فقط… صامتًا.

رأيتُ شفتيه تتحركان ببطء، كأنه كان يحاول نطق شيء ما…

لكن لم يكن هناك صوت.

فقط الرعب في عينيه.

"ما هذا…؟"

كان هذا صوتي، لكنه بالكاد خرج كنبرة مسموعة.

لم أحصل على إجابة.

لأن الجميع كانوا لا يزالون يحاولون استيعاب الكارثة.

الغرفة المقدسة لم تكن مجرد مكان.

كانت الركيزة التي تحفظ توازن كل شيء.

كانت القوة التي تبقي البحار والمحيطات تحت السيطرة، تمنعها من الانقلاب، من محو اليابسة بالكامل.

لكن الآن…

نصفها قد دُمّر.

ثم…

حدث ذلك.

بدأ الهواء يثقل.

بدأتُ أشعر بطاقة غريبة تزحف على جلدي، شيء لم يكن ينتمي لهذا المكان.

شيء…

كان يخرج من الحفرة.

ثم، فجأة…

خرجت يد.

يد ضخمة… مغطاة بالحراشف… ذات مخالب سوداء طويلة…

خرجت من الحفرة كأنها تسحب نفسها من العدم.

لم أكن الوحيدة التي شهقتُ.

رأيتُ سايلوس يقبض يده بقوة، كايلب يتراجع خطوة للخلف، بينما أحد كبار المسؤولين عن الغرفة انهار على ركبتيه وهمس بصوت مرتجف:

"لا… مستحيل… إنه هو…"

2025/03/22 · 7 مشاهدة · 3905 كلمة
Fatima
نادي الروايات - 2025