14 - فلنذهب الى الجحيم معا

كنتُ أحدّق في اللانهائية البيضاء التي تحيط بنا.

الأرض تحت أقدامنا كانت ناعمة، كأنها مصنوعة من الغيوم نفسها. الضوء ساطع لكنه ليس مؤلمًا للعينين، كل شيء هنا كان يحمل طابعًا غير حقيقي، وكأننا نسير داخل حلم لا يمكن الاستيقاظ منه.

لم يكن هناك سماء فعلية، فقط مساحات بيضاء تتدرج بين النور والظل. وكأننا محاصرون في لوحة لا تنتهي.

"إلى متى سنظل نسير هنا؟" تمتم سايلوس بضجر، صوته كان مشوبًا بنبرة ساخرة. "إذا كان هذا هو العالم السماوي، فأنا أشعر بخيبة أمل."

"هذا ليس العالم السماوي بعد." أجاب رافاييل وهو يسير أمامنا بخطوات واثقة، نظرته متقدمة للأمام. "نحن في الممر الفاصل، منطقة غير مأهولة تربط عالمنا بعالم النور السماوي. ما زلنا في منتصف الطريق."

"وأين هذا الطريق تحديدًا؟" سأل كايلب بصوته الجاد.

"أمامنا." قال رافاييل وهو يشير بإصبعه إلى نقطة بعيدة بالكاد تظهر وسط الضباب الأبيض. "البوابة هناك. لكنها ليست سهلة العبور."

لم أكن مضطرة للسؤال عن السبب، فقد شعرت بشيء ثقيل في الهواء، كأنه يراقبنا. شيء لم يكن طبيعيًا.

"ما الذي يعنيه هذا؟" تمتمتُ، وأنا أراقب نظرة رافاييل الجدية.

"البوابة محمية بدرع الأطياف. قوة غير مرئية تحرسها من أي متطفل."

"أوه، بالطبع هناك درع." قال سايلوس وهو يرفع يديه في الهواء بإحباط مصطنع. "لأننا لم نعانِ بما يكفي للوصول إلى هنا."

"درع الأطياف ليس مجرد حاجز عادي." تابع رافاييل بنبرة هادئة. "إنه محروس بثلاثة عمالقة أثيريين. كائنات قديمة ذات قوة لا توصف. إذا أردنا العبور، يجب علينا مواجهتهم… أو إقناعهم."

"إقناعهم؟" رفع كايلب حاجبه بريبة. "وكيف بالضبط سنقنع عمالقة أثيريين؟"

ابتسم رافاييل، ابتسامة كادت تبدو مغرورة. "أوه، لدي طرق خاصة لذلك. لكن المسألة تعتمد على ما إذا كانوا راغبين بالاستماع أم لا."

"أعتقد أن هذا هو الوقت المناسب لكشف أساليبك السحرية، يا ساحر البحار." قال سايلوس بسخرية وهو يتقدم خطوة للأمام، عيناه الحمراوان تراقبان كل حركة حولنا.

"لنذهب إذًا." قلتُ، دون أن أحاول إخفاء توتري.

كلما اقتربنا، كانت الأرضية تحت أقدامنا تصبح أثقل، كأن الهواء نفسه يقاوم حركتنا. بدأتُ أشعر بأن أنفاسي تصبح أبطأ وأثقل، كأنني أغوص تحت الماء.

ثم…

رأيتهم.

ثلاثة عمالقة أثيريين. أجسادهم كانت شبه شفافة، لكن أشكالهم كانت واضحة ومخيفة. كل واحد منهم كان يرتدي درعًا براقًا، كأنه مصنوع من الضوء الصلب. وجوههم خالية من الملامح تقريبًا، سوى عينين لامعتين كالشعلتين.

وقفوا هناك، يحرسون بوابة ضخمة تبدو كأنها مصنوعة من زجاج متوهج، تنبض بطاقة نقية لا يمكن وصفها.

"من يجرؤ على الاقتراب من درع الأطياف؟" دوى صوت عميق، وكأنه ارتجاج يهزّ المكان نفسه.

"نحن." قال رافاييل بثقة، وهو يقف بجرأة أمام العمالقة. "جئنا طالبين العبور إلى عالم النور السماوي."

"عبوركم ممنوع." قال العملاق الأول، صوته كان يشبه انهيار جبل.

"ما لم يكن لديكم إذن مقدس." أضاف العملاق الثاني، صوته كان أشبه بصدى غريب.

"أو قوة تستحقون بها المرور." ختم العملاق الثالث، الذي كان صوته يتحدث وكأنه يتردد من جميع الاتجاهات.

"حسنًا، هذا متوقع." قال سايلوس وهو يشبك ذراعيه بلامبالاة. "لديكم إذن أم يجب أن نبدأ القتال؟"

"لا يمكنكم العبور إلا بإثبات جدارتكم." تابع العملاق الثاني. "كل منكم يجب أن يجتاز اختبارًا خاصًا."

"اختبار؟" سألتُ وأنا أشعر بشيء ثقيل يضغط على قلبي.

"ثلاثة اختبارات." قال العملاق الثالث. "واحد لكل واحد منكم. إذا اجتزتم جميعًا الاختبارات، سيسمح لكم بالعبور. وإن لم تنجحوا…"

"ستموتون هنا، وتصبحون جزءًا من درع الأطياف إلى الأبد." أكمل العملاق الأول بنبرة كالصقيع.

"رائع." تمتم سايلوس بتهكم. "إذاً علينا أن نثبت أننا أقوياء بما يكفي لندخل عالم النور السماوي."

"يبدو أن هذا هو التحدي." قال كايلب بصوت ثابت، لكنه كان يحمل توترًا خفيًا.

"هل أنتم مستعدون؟" سأل رافاييل وهو ينظر إلينا.

نظرتُ إلى سايلوس ثم إلى كايلب. كلاهما كانا متوترين، لكنهما لم يتراجعا.

"لنبدأ." قلتُ بحزم، رغم أن قلبي كان ينبض بشدة.

ابتسم رافاييل، ثم نظر إلى العمالقة. "نحن مستعدون لاختباراتكم."

"لتبدأ الاختبارات." قال العملاق الأول بصوته المدوي.

"كل واحد منكم سيواجه اختباره الخاص."

التفتت تونه إلى سايلوس بنظرة قلقة، لكنه فقط ابتسم بثقة مزيفة.

" يا له من ملل." تمتم، ثم نظر إلى تونه وأضاف: "لا تقلقي، أميرتي، لا يوجد اختبار يمكن أن يهزمني."

علق كايلب ببرود: "لنأمل أن يكون هذا صحيحًا، وإلا ستفشل في إثارة إعجابك بنفسك."

ردّ سايلوس بابتسامة جانبية: "لا شيء سيمنعني من البقاء الأفضل هنا، كايلب."

أطلق كايلب زفرة ضيق. "أحيانًا أعتقد أن تعليقاتك السخيفه هي التي ستقتلنا جميعًا."

ردّ سايلوس بابتسامة جانبية: "لكنها لم تفعل، أليس كذلك؟"

أطلق رافاييل ضحكة صغيرة، وهو يميل رأسه للجانب بينما يلعب بخصلات شعره البنفسجي ويقول بصوت مدلل: "هيا، أرونا ما لديكم. فأنا على وشك أن أموت من الملل."

لكن صوت العملاق التالي قطع حديثهم.

"اختبروا قوتكم… أو استسلموا للأبد."

اختبار سايلوس: -

شعر سايلوس بأرضية تسحب من تحته. الضوء تلاشى، ولم يتبق سوى العدم.

ثم…

صوت المطر.

فتح سايلوس عينيه ليجد نفسه ملقىً على أرضية موحلة، وسط أزقة العالم السفلي الرطبة. المكان الذي يعرفه جيدًا… بل يعرفه جيدًا جدًا.

كان المطر يهطل بغزارة، مختلطًا برائحة العفن والدم.

شعر بأن جسده يرتعش من البرد، وعندما نظر إلى نفسه… تجمد للحظة.

"ما هذا بحق الجحيم؟" تمتم بصوت خافت، وعيناه تتسعان بذهول.

يداه صغيرتان، جلده رقيق ومليء بالكدمات.

كان طفلًا في الثامنة من عمره.

"لا… لا لا لا." حاول تحريك قواه المعتادة، أن يستدعي الظلام الذي رافقه طوال تلك السنين. لكن لا شيء. فقط فراغ قاتل.

"أين هي قوتي؟ لماذا لا أستطيع استخدامها؟"

عبثًا حاول استدعاء طاقته، لكنه كان مجرد طفل ضعيف.

"يا له من اختبار سخيف… هل عليّ أن أعيش كل هذا مجددًا؟"

لكن مهما كان ما يشعر به من ضجر أو غضب… هذا هو الواقع الآن.

وإن كان يريد الخروج منه، فعليه النجاة أولًا.

بدأ يسير بين الأزقة القذرة، خطواته الصغيرة تضرب الأرضية الموحلة، وصوت المطر يغرق كل شيء من حوله.

كان يشعر بضعفه الشديد. جسده لم يكن كما هو الآن. عضلاته القوية واستقامته الأنيقة أصبحتا مجرد ذكرى.

"حسنًا، ليس لدي أي قوة… رائع." تمتم بسخرية، ثم أكمل وهو يسير: "يا له من اختبار عديم الذوق."

لم يمض وقت طويل حتى وجد نفسه محاطًا.

ثلاثة رجال ضخام، وجوههم مشوهة وعينهم مليئة بالشر.

"ماذا لدينا هنا؟" قال أحدهم بنبرة متوحشة. "طفل صغير ضائع؟"

"أظنه سيكون وجبة سهلة، أليس كذلك؟" قال آخر وهو يلعق شفتيه.

لكن سايلوس لم يبد أي خوف. بدلًا من ذلك، رفع حاجبه وهو يحدق بهم بملل.

"بجدية؟ هذا أفضل ما تستطيعون فعله؟ الهجوم على طفل؟"

ضحك أحدهم بصوت عالٍ. "يبدو أن الصغير يملك لسانًا طويلًا."

أمسكه أحدهم من ياقة قميصه، ورفعه بسهولة عن الأرض.

"هذا ما سيحصل عندما تكون أحمقًا بما يكفي لتتجول وحدك في هذا المكان، أيها الصغير."

شعر سايلوس بالغضب يتصاعد داخله. حاول مرة أخرى أن يستدعي قوته… لكن لا شيء.

"تبا. حسنًا… إذًا سأفعلها بالطريقة القديمة."

بسرعة، أدار رأسه نحو كتف الرجل الذي يمسكه، وعضّه بقوة دون تردد.

صرخ الرجل وتركه يسقط على الأرض.

"أيها اللعين!"

لم ينتظر سايلوس، انطلق راكضًا في الأزقة، حتى عثر على قطعة حديدية مهملة، حادة ومدببة.

"أها! حسنًا… على الأقل لم أفقد ذكائي."

أمسك العصا الحديدية بإحكام، ثم التفت نحو الرجال الذين كانوا يطاردونه.

"أيها الوغد، ستدفع الثمن!" قال أحدهم وهو يقترب بسرعة.

"ربما عليك أن تحاول أفضل من ذلك!" صاح سايلوس، ثم اندفع نحوهم بكل سرعته، جسده الصغير يركض بلا خوف.

ضرب أول رجل في ركبته بالعصا الحديدية بكل ما أوتي من قوة. صرخ الرجل وسقط على الأرض متألمًا.

أما الآخر، فقد ألقى بلكمة نحو سايلوس، لكنه تحرك بسرعة ومهارة، ينحني ويتفادى الضربة، ثم غرس العصا في فخذه.

"يا إلهي… كيف أستطيع القتال هكذا وأنا طفل؟" تمتم سايلوس بسخرية وهو يقف متفاديًا الضربات التالية.

الرجل الأخير، الأكثر ضخامة، كان يقترب وهو يحمل سكينًا.

"سأقتلك أيها الصغير!"

لكن سايلوس لم يكن خائفًا.

"حسنًا، هذا سيكون ممتعًا."

اندفع نحو الرجل، متجنبًا السكين في اللحظة الأخيرة، ثم قفز عاليًا وغرس العصا الحديدية في كتفه.

صرخ الرجل وسقط أرضًا.

تنفس سايلوس بعمق، يلهث بشدة بينما ينظر إلى الفوضى التي أحدثها.

"حسنًا… لقد كنت أفضل بكثير في ذلك الوقت مما أتذكر."

وقف بصعوبة، ينظر إلى جسده الصغير المليء بالكدمات والخدوش.

"آه… لا أستطيع الانتظار لأخرج من هذا الاختبار المزعج."

يصرخ بصوت عالي .

و فجاة ...

يغمض عينيه بسبب الالم

.

ثم يفتحها ببطئ ليجد نفسه واقفًا وسط الفوضى. جسده صغير، ضعيف، بالكاد يبلغ عمره عشرة أعوام. يداه الصغيرتان ترتجفان، مغطاتان بالدماء الدافئة التي لطالما كرِهَ ملمسها.

حول جسده النحيل تتناثر جثث الرجال، أجسادٌ ضخمة لرجال ذوي عضلات بارزة وملامح صارمة. كانوا وحوشًا يومًا ما، لكنه... الطفل الصغير الذي لا يمتلك شيئًا سوى إرادة قاسية، وقف بينهم كمنتصر.

حذاؤه القديم غارق في الدم، وملابسه رثة، بالكاد تغطي جسده النحيل. لكن عيناه... كانتا تحملان شيئًا أكبر بكثير من جسده الصغير.

كانت ذكرى اخرى...

يتذكر هذا اليوم. كيف له ألا يتذكره؟ كان ذلك اليوم الذي قرر فيه رئيس العصابة المعروف بـ"العين الذهبية" اختبار ولائه.

كان يجلس بعيدًا، على كرسي ضخم مصنوع من جلد أسود، كأنه عرش في مملكة من الخراب.

رجل سمين بجسد عملاق وعين واحدة فقط، والأخرى مخفية تحت رقعة سوداء. سيكارة ضخمة تتدلى من شفتيه، يخرج منها دخان كثيف برائحة التبغ الرديء. وعندما يضحك، تظهر أسنانه المطلية بالذهب بوميضٍ مفزع.

"أحسنت، أيها الفتى الصغير." قال "العين الذهبية"، وضحكته تتردد بين الجدران المتصدعة. "لم أتوقع منك أن تقتلهم جميعًا. لكنك فعلتها."

أخذ سايلوس نفسًا مرتجفًا. آنذاك، كان طفلًا ضائعًا لا يملك سوى كراهيته للعالم. عالم حرمه من كل شيء. وعندما مد له هذا الرجل السمين يده، لم يكن لديه خيار سوى أن يقبل.

"لم أقتلهم لأنني أردت ذلك." قالها بصوتٍ مهزوز، يكاد يختنق.

"بل قتلتهم لأنك كنتَ خائفًا. والخوف هو أعظم دافع في هذا العالم."

حدقت عين سايلوس الصغيرة في وجه "العين الذهبية"، تتأرجح بين الرفض والقبول. كان يعلم أن الرجل أمامه ليس سوى وحش آخر، لكنّه كان أيضًا المنقذ الوحيد الذي منحه مأوى وطعامًا.

"هؤلاء الرجال... كانوا سيقتلونك لو لم تفعل. لقد نجوت لأنك كنتَ أذكى وأسرع منهم. هذه هي الحياة، يا فتى. إما أن تقتل أو تُقتل."

كان ذلك الدرس الأول الذي تعلّمه سايلوس على يد هذا الرجل. الرجل الذي سيصبح فيما بعد هدفه الأول على سلم السلطة.

ومع ذلك، لم يكن هذا مجرد ذكرى. كان اختبارًا.

شعر سايلوس أن عقله الحالي محاصر في جسد الطفل الصغير الذي كانه يومًا ما. وعيه ناضج، قوي، لكن جسده لم يكن سوى جسدٍ ضعيف غير قادر على المواجهة.

"هذا ليس حقيقيًا..." تمتم سايلوس، وعيناه تبحثان عن مخرج. "مجرد اختبار. مجرد ذكرى."

"ذكرى؟" جاء صوت "العين الذهبية" كهمسة ملوثة بالتحدي. "لا شيء هنا مجرد ذكرى. كل شيء هنا هو حقيقتك. حقيقتك التي لن تستطيع الهروب منها."

أغمض سايلوس عينيه، محاولًا تجاهل الصوت الذي يغرقه في الماضي. لكن العالم من حوله لم يتبدد.

فتح عينيه مجددًا، وإذا به يجد نفسه يمسك بسكين صدئ بيديه الصغيرتين. كانت هناك عينان تحدقان به، عينان لطفلٍ آخر يبكي في رعب.

"اقتل أو تُقتل." كان صوت "العين الذهبية" يدوّي في عقله مثل صاعقة.

شعر سايلوس أنفاسه تتسارع. قلبه الصغير ينبض بعنف، وكأن جسده يسعى للهرب بينما عقله يأمره بالوقوف بثبات.

لكنه لم يكن ذلك الطفل الضعيف بعد الآن.

"هذا مجرد اختبار." تمتم لنفسه. "لقد قتلتك بالفعل، يا صاحب العين الذهبية. لقد هزمتك في الماضي، وسأهزمك الآن."

شعر بحرارة تتدفق في عروقه، قوة لم تكن جزءًا من ذكرياته، بل جزءًا من كيانه الحالي. قوة اكتسبها عبر سنوات من الألم والكفاح.

تلاشى العالم من حوله، تاركًا وراءه صوت ضحكة "العين الذهبية" يتردد في أذنه، لكن هذه المرة لم يكن لها تأثير.

"لقد قتلتك بالفعل." قالها بصوت ثابت، وعيناه تتوهجان بالغضب الذي لم يعد يتحكم به.

"والآن، حان الوقت لأن أمضي قدمًا."

---

اختبار كايلب .....

---

لم يكن كايلب أبدًا من النوع الذي يُظهر ضعفه. تعلم منذ صغره أن يخفي مشاعره، أن يبني قناعًا من القوة يجعله لا يُهزم. لكن هنا، في أعماق عقله، لم يكن بإمكانه الاختباء.

فتح عينيه ليجد نفسه صغيرًا . طفلًا بالكاد يبلغ السادسة من عمره. كان يرتدي ملابس رثة وممزقة، وجسده الصغير يرتعش من البرد في محطة فضائية بعيدة، عائمة بين النجوم الميتة.

كانت عائلته من المرتزقة، هاربين من قوانين منظمة الأمن الفضائي. حياتهم لم تكن سوى فوضى دائمة، معارك لا تنتهي من أجل البقاء. لكنه أحبهم. كان يعلم أنهم يعيشون في ظلال القوانين، لكنهم كانوا عائلته، وكان ذلك كل ما يحتاجه.

"كايلب، ابقَ هنا. لا تتحرك."

كانت كلمات والدته الأخيرة. صوتها المرتجف، عيناها المتوسلتان، نظرة الرعب التي لم تغادر ملامحها وهي تدفعه نحو زاوية الغرفة.

كانوا هناك. جنود منظمة الأمن الفضائي. رجال بزي أسود، خوذات تغطي وجوههم وأسلحة ضخمة تتدلى من أيديهم.

كايلب اختبأ في زاوية ضيقة بين الألواح المعدنية، أنفاسه متقطعة وهو يشاهد والديه يقفان في مواجهة المستحيل.

"لا نريد القتال." قال والده، صوته خشن ومتهدج. "أتركونا وشأننا."

لكن الرد كان سخرية باردة من قائد الجنود. "أنتم حثالة الفضاء. لا مكان لكم هنا."

ثم انطلقت الطلقات.

كايلب كان صغيرًا جدًا على الفهم، لكن كل شيء حدث ببطء، كأن الزمن قرر أن يعذبه بجعله يشاهد كل تفصيلة.

رصاصات تخترق الأجساد. دماء تتناثر على الجدران. صرخات الألم تتحول إلى همسات ضعيفة.

وكل شيء صامت من حوله... إلا أنفاسه المضطربة.

ثم، حدث ما كان يحاول نسيانه طوال حياته.

صرخة. صرخة خرجت من أعماق روحه، من مكان لا يعرفه، مكان لم يكن يعلم أنه موجود.

لم تكن صرخة خوف أو ألم. كانت شيئًا أعمق. شيئًا وُلِد من الفقدان والكراهية واليأس.

عيناه تحولتا إلى اللون الأبيض، كأنه فقد صلته بالعالم المادي. وصرخته امتدت كأمواج غير مرئية، تجتاح المكان كإعصار.

تردد الصوت كصدى مرعب بين الجدران المعدنية للمحطة، ولم يستطع أحد الهروب.

الجنود... والديه... الجميع سقطوا.

لكن لم يكن الجميع.

كان هناك رجل يقف عند زاوية الغرفة، غريب المظهر حتى وسط كل هذا الخراب. عيون جاحظة، شعر أشعث، نظراته تنبض بجنون لا يمكن كبحه. كان أحد العلماء الذين رافقوا الجنود. عالِمٌ أُرسل لدراسة التكنولوجيا البدائية التي كان يستخدمها المرتزقة.

لكنه لم يمت.

لم يتضرر حتى.

بل وقف هناك مشدوهًا، كأن الصرخة لم تؤثر فيه كما أثرت على الآخرين. وعندما رأى كايلب وعيناه المشتعلتان باللون الأبيض، ضحك ضحكةً مخيفة.

"ما هذه القوة؟" تمتم العالم المجنون، وعيناه تتلألآن بحماسة هستيرية. "شيء كهذا لا يمكن أن يُترك هنا ليُهدر... لا! يجب أن أراه يُصقل. يجب أن أراه ينمو!"

كايلب لم يكن واعيًا تمامًا لما يحدث. كان جسده يرتعش، عقله غارق في صدمته. لم يكن يعي أن كل من حوله قد مات... كلهم باستثناء هذا العالم المهووس.

كانت تلك اللحظة نقطة تحول في حياة كايلب.

العالِم الذي عرف فيما بعد باسم "مورياس"، حمله معه كأنما كان يمسك بكنزٍ لا يُقدّر بثمن. كان مورياس رجلًا بلا ضمير، لا يرى العالم إلا كحقلٍ للتجارب.

وحينها، كان والد تونه يبحث عن أشخاص مميزين، أولئك الذين يمتلكون قوى غير مألوفة. أشخاص يستطيع تدريبهم ليصبحوا أتباعه المخلصين.

وكان مورياس يعرف أن كايلب كان المثال المثالي.

أحضره إلى والد تونه، قدمه كعينة نادرة، قوة لم يرَ مثيلًا لها من قبل.

وكان والد تونه ذكيًا بما يكفي ليعرف أن هذا الطفل الصغير يمتلك شيئًا لا يُقدّر بثمن.

وهكذا، بدأت رحلة كايلب. من طفلٍ صغير فقد كل شيء في صرخة، إلى محاربٍ درّب نفسه على كتم قوته وإخفاءها خوفًا من تكرار ما حدث في ذلك اليوم.

استفاق كايلب من الذكرى، أنفاسه متسارعة وعيناه تومضان بضوء خافت.

"هذا مجرد اختبار." قال بصوت أجش، لكنه كان يعلم أن الأمر أعمق من ذلك.

"القوة التي أخفيها... هي ذاتها التي تحاول افتراسي."

أغمض عينيه، يحاول السيطرة على نبضات قلبه المتسارعة. كان يعلم أن اللحظة التي يخشى مواجهتها هي ذاتها التي ستقوده إلى النجاة.

"عليّ أن أتحكم بها. أن أكون سيدها... لا عبداً لها."

.

كان يقف وسط الظلام، قلبه ينبض بعنف وكأنه على وشك الانفجار. أدرك أن هذا الاختبار ليس مجرد ذكرى. إنه تكرار متواصل للمأساة، يُعاد عرضه أمامه مرارًا وتكرارًا حتى يتفكك عقله.

للمرة الألف، أو ربما أكثر، وجد نفسه يقف في زاوية الغرفة الضيقة، يشاهد والديه يموتان أمام عينيه. الدماء، الصرخات، صدى الألم. كل شيء يتكرر بلا نهاية.

لكنه بدأ يلاحظ شيئًا مختلفًا. كلما تكرر المشهد، كان الظل يقترب أكثر فأكثر. ذلك الظل المظلم الذي يبدو وكأنه نسخة مشوهة منه.

في البداية، كان كايلب يهرب من مواجهته. كان يصرخ محاولًا الاستيقاظ من هذا الكابوس، لكن لا شيء كان يجدي.

ثم، في إحدى المرات التي عايش فيها الذكرى، شعر بأن الظل يراقبه بصمت، وكأنه ينتظر منه شيئًا.

"لماذا لا تقتلني؟" صاح كايلب في الظل الذي كان يحدق به بعينين بيضاوين باردتين.

"أنا لست هنا لقتلك." همس الظل، صوته كان كالصدى الذي يتردد في عقله. "أنا هنا لأحررك."

"تحررني؟" قال كايلب بسخرية مريرة. "أنت مجرد وهم. جزء مني يجب أن أدمّره."

"لا، كايلب." رد الظل، ابتسامته المخيفة تتحول إلى شيء أشبه بالحزن. "أنا جزء منك، نعم. لكنني لست عدوك."

كايلب شعر بالغضب يتصاعد داخله. "أنت القوة التي قتلت الجميع. أنت الوحش الذي أحاول قمعه."

"أنت مخطئ." قال الظل، صوته مليء بالهدوء الغريب. "أنا القوة التي أنقذتك. بدون صرختي، كنت ستكون ميتًا الآن. كنتَ ستلحق بوالديك."

تراجع كايلب خطوة إلى الوراء. كان كلام الظل صحيحًا، لكنه لم يرغب في الاعتراف بذلك.

"لكنني لا أريدك." قال كايلب بصوتٍ متحشرج. "أريد أن أكون طبيعيًا. أعيش حياتي دون خوف من قتلي للآخرين."

"لا يمكنك إنكار ما أنت عليه، كايلب." تابع الظل، متقدمًا نحوه بهدوء. "أنا لست هنا لأؤذيك. أنا هنا لأمنحك القوة التي تحتاجها للنجاة. لكنك اخترت أن ترفضني، أن تدفنني في أعماق عقلك. وها أنا أعود الآن، لأنك لا تستطيع المضي قدمًا دون مواجهتي."

كانت كلماته كخناجر تخترق عقله. هل كان هذا هو الاختبار؟ أن يعترف بوجود قوته ويقبلها بدلًا من قمعها؟

"ما الذي تريده مني؟"

"أريدك أن تقبلني." قال الظل، صوته ينساب كالماء الهادئ. "أنا لست الوحش الذي تظنه. أنا قوتك. جزء من روحك. إن حاولت القضاء عليّ، ستقتل نفسك أيضًا."

كايلب شعر بيديه ترتجفان، لكنه أجبر نفسه على الثبات. كان يعلم أن ما يقوله الظل صحيح. كل تلك السنوات التي قضاها في قمع قوته لم تفعل شيئًا سوى زيادة خوفه منها.

"إن كنتَ جزءًا مني... فعليّ أن أقبلك." قال كايلب ببطء، كأن الكلمات تحرره من سلاسل غير مرئية.

توقف الظل عن التقدم، وملامحه تحولت من السخرية إلى الهدوء. "هذا هو المطلوب، كايلب. القبول. فقط عندما تتصالح مع نفسك ستتمكن من استخدام قوتك دون أن تفقد السيطرة."

كايلب أغلق عينيه، يتنفس بعمق. سمح للظل بالاقتراب منه، ولأول مرة لم يشعر بالخوف. كان هذا الظل جزءًا منه، شيء يجب أن يتعلم احتواءه بدلًا من قتاله.

عندما فتح عينيه مجددًا، كان الظلام قد تلاشى، وحل محله نور دافئ يشع من داخله.

"لقد اجتزت الاختبار." تمتم كايلب، وعيناه تلمعان بتصميم جديد. "هذه القوة لي، ولن أدعها تسيطر عليّ مرة أخرى."

---

فتح كايلب عينيه ببطء. تنفسه كان ثقيلاً، لكنه كان مختلفًا هذه المرة. كان عميقًا ومليئًا بالحياة.

وجد نفسه واقفًا في ذلك المكان الأبيض الواسع، عالم يشبه الضباب الكثيف الذي يبتلع كل شيء ما عدا بوابة عملاقة تشع بوميض أزرق شاحب. بوابة الأطياف.

مرر كايلب يده على وجهه كأنه يتأكد أنه حقيقي، ليس مجرد وهم أو بقايا كابوس. كان جسده ثابتًا، قوته تهمس له بهدوء جديد. لم يعد هناك صراع داخلي يمزقه.

"لقد اجتزت الاختبار..." تمتم، وعيناه تتجولان حوله.

ثم رآهم.

كانوا يقفون هناك، على مسافة قصيرة منه، لكنهم لم يتحركوا. تونه، سايلوس، ورافاييل. جميعهم طافون في الهواء بشكل طفيف، أجسادهم تحوم بشكل غير ثابت كأنهم محاصرون بين عوالم مختلفة.

كانت عيونهم مغلقة، وجوههم متجمدة كأنهم في سبات عميق. لكن أكثر ما لفت نظره كان تعبيراتهم. كل واحد منهم كان يعبر عن شيء مختلف.

وجه تونه بدا متشنجًا، كأنها تقاتل شيئًا لم يظهر بعد. جبينها معقود، أنفاسها متسارعة، وكأنها تحاول الهروب من شيء يمزق روحها.

أما سايلوس، فرغم ملامحه الهادئة المعتادة، كانت شفتاه مضمومتين وكأنهما تحاولان كتم صرخة ألم. كايلب لاحظ أن يداه كانتا متصلبتين، وكأنهما تحاولان الإمساك بشيء لا يُرى.

ثم رافاييل، بنظرته الأنثوية الساحرة، بدا كأنما يحلق في عالم بعيد عن كل شيء. لكن ملامحه كانت مرهقة، وعيناه تتحركان بشكل عصبي تحت جفنيه المغلقين.

"لا يزالون عالقين..." همس كايلب، وصدى كلماته يتلاشى في الفراغ الأبيض.

أدرك حينها أنه كان أول من نجح في اجتياز الاختبار. كان أول من تجرأ على مواجهة ظله وقبوله بدلًا من قمعه.

لكن ماذا عن الآخرين؟

نظر إلى بوابة الأطياف. كانت ضخمة بشكل مرعب، مصنوعة من ضوء متحرك كأنه ماء ينبض بالحياة.

"تونه..." لفظ اسمها وكأن ذلك سيوقظها، لكن لا شيء حدث.....

__

اختبار رافاييل ......

___

---

عندما فتح رافاييل عينيه، لم يكن في مملكته. او في العالم السماوي .. لم يكن في ذلك العرش المتلألئ باللؤلؤ أو محاطًا بخدمه المخلصين. كان في مكان آخر... مكان نسيه منذ زمن بعيد.

أرضية من حجر بارد، وأسوار من معدن صدئ، وضوء خافت يتسلل من فوقه كأنه يسخر من ظلامه. كان ذلك المكان الذي عاش فيه قبل أن يصبح ملكًا، قبل أن يكون شيئًا ذا أهمية.

"ما هذا الهراء؟" تمتم بصوتٍ غاضب، محاولة استدعاء قوته. لكن لا شيء. لا أمواج، لا سلطة، لا شيء سوى عزلته القديمة.

تقدم بخطوات متعثرة، محاولًا تذكر هذا المكان. كان ذاكرته ترفضه، كأنها جرح لم يلتئم تمامًا.

ثم سمع الصوت.

"أيها النصف بشري... هل ما زلت تظن نفسك ملكًا؟"

التفت بسرعة، عيناه تلمعان بغضب. أمامه كان يقف شبح من ماضيه، وجهٌ مغطى بالندوب وابتسامة ساخرة على شفتيه.

"هايدن..." تمتم رافاييل، وشيء من الرعب القديم يعود ليغمره.

هايدن، سيد العبيد في قصر النصف بشريين، المكان الذي وُلد فيه رافاييل، المكان الذي عُومل فيه كشيء أقل من حيوان لأنه لم يكن نقي الدماء.

"ألم تصبح ملكًا الآن؟ أين قوتك؟ أين أمواجك التي تتبجح بها؟" قال هايدن وهو يضحك ضحكةً قاسية.

"أنا لست عبداً بعد الآن." رد رافاييل بصوتٍ قاسٍ، يحاول الحفاظ على كبريائه.

"أوه، بالطبع. لكنك كنت كذلك. وكان عليك أن تقتل لتصبح ما أنت عليه، أليس كذلك؟"

تردد رافاييل، ذكرى قديمة تعود لتطعن قلبه. كان مجرد طفل عندما قتل هايدن للمرة الأولى. غضبٌ مكبوت تفجّر في لحظة من الجنون. كان دمه يُلطخ يديه بينما جسد هايدن البالغ كان يسقط أرضًا بلا حياة.

"هذا ما كان يجب أن أفعله." قال رافاييل بصلابة، محاولًا تجاهل الخوف الذي يزحف إلى قلبه.

"ربما. لكنك لم تصبح ملكًا بسبب قوتك فقط. لقد كنت دومًا تبحث عن شيء آخر. شيء لم تستطع امتلاكه."

"لا أحتاج إلى أي شيء."

"أنت تكذب على نفسك."

تقدم هايدن نحوه، عينيه الجاحظتين تحدقان في رافاييل كأنهما ترى كل ضعف بداخله.

"أنت ملك؟ لكنك مجرد كائن مكسور يبحث عن شيء يعطيه معنى."

شعر رافاييل بشيء يخنقه. لم يكن الخوف هو ما يعذبه، بل الحقيقة. الحقيقة التي حاول تجاهلها طوال حياته.

لكنه لم يصبح ملكًا فقط ليحكم البحار. لم يكن يبحث عن القوة من أجل السيطرة. كان يبحث عن شيء أعمق... عن قيمة حقيقية لوجوده.

"هل تريد أن تعرف ما الذي جعلك ما أنت عليه؟" همس هايدن بابتسامة مشؤومة.

ثم، وبلا مقدمات، تغير المشهد من حوله. وجد رافاييل نفسه في مكان آخر، غرفة مضاءة بضوء أزرق مقدس. جدرانها مزخرفة بنقوش قديمة وأرضيتها مغطاة برموز سحرية متوهجة.

الغرفة المقدسة.

تلك الغرفة التي وُلدت فيها تونه.

تذكر ذلك اليوم جيدًا. كان حاضرًا حينها، بأمر من كبار حكماء البحار السبعة، لحراسة الغرفة من أي تهديد. كانوا يعرفون أن ولادة ذلك الطفل ستكون لحظة مقدسة، لحظة قد تغير توازن العوالم.

"لماذا أراك هذه المرة؟" قال رافاييل بصوت مرتعش، وشيء من الغموض يعمي أفكاره.

"لأنها اللحظة التي قررت فيها كل شيء."

كان يقف هناك، يراقب أمواج القوة تتدفق من الغرفة المقدسة عندما أطلقت تونه صرختها الأولى. شعر بتلك الطاقة تلامس روحه كعاصفة ناعمة، قوة بريئة لكن لا مثيل لها.

لم يكن هوسه بها بسبب رغبة في السيطرة. كان أكثر عمقًا، وأكثر جنونًا. كان شيئًا يقترب من القداسة.

تونه لم تكن مجرد فتاة بالنسبة له. كانت رمزًا لحلم بعيد، شيء لم يكن بإمكانه الوصول إليه.

"لهذا السبب لم أتمكن من تركها." همس رافاييل وكأن عقله يحاول تبرير ما لا يمكن تبريره.

"أنت تحميها، لكنك لا تريدها. ليس كما تظن." قال هايدن بصوت يشوبه شيء من السخرية.

"لا أفهم."

"إنها تُمثل لك ما لم تستطع الحصول عليه. النقاء، البداية الجديدة. أنت لست مهووسًا بها بقدر ما أنت مهووس بما تمثله."

كان كلام هايدن كضربة موجعة للحقيقة. لم يكن هوسه بتونه مجرد رغبة في حمايتها أو امتلاكها. بل كان يسعى لإيجاد نفسه من خلالها، لتعويض تلك الطفولة المكسورة التي لم يستطع أبدًا الهروب منها.

"إذا كنت ملكًا حقًا، فعليك أن تدرك أن مملكتك ليست هي ما تعطيك القيمة. بل ما تختاره أنت أن تكون."

فتح رافاييل عينيه، ورأى هايدن يبتسم بسخرية قبل أن يتلاشى في الهواء.

---

عاد رافاييل إلى وعيه كأنه يرتفع من أعماق المحيطات إلى سطح الوجود. صوت المياه يهمس في أذنيه رغم أنه لم يكن هناك ماء. كان ضوء أبيض خافت يلفّه، يشبه الضباب الذي يبتلع كل شيء.

فتح عينيه ببطء، يشعر ببرودة الهواء تحيط به. أدرك أنه عاد إلى ذلك المكان الغريب، عالم الفراغ الأبيض الذي يشبه الحلم.

تأمل يديه اللتين كانتا ترتجفان قليلاً. لم تكن تلك الرجفة ناتجة عن الخوف، بل عن إدراكه لحقيقة جديدة. حقيقة أنه لم يكن يبحث عن القوة وحدها، بل عن شيء يمنحه معنى يتجاوز عرشه وجبروته.

أخذ نفسًا عميقًا وهو ينظر حوله، ووجد نفسه واقفًا أمام بوابة الأطياف. كانت ضخمة ومرعبة في آنٍ واحد، مصنوعة من ضوء متحرك كأنه ماء ينبض بالحياة.

لكن ما لفت انتباهه كان الشخص الواقف أمام البوابة، ينظر إليه بنظرة مليئة بالدهشة والارتياح.

"كايلب؟" قال رافاييل بصوتٍ بدا أكثر ثباتًا مما شعر به.

"رافاييل..." قال كايلب وهو يرفع حاجبيه بدهشة. "أنت استيقظت؟"

ابتسم رافاييل، لكنه لم يستطع إخفاء الإرهاق في ملامحه. "أجل. ويبدو أنني نجوت من هذا الهراء."

أومأ كايلب برأسه، وعيناه تتفحصان رافاييل وكأنه يحاول التأكد من أنه لم يفقد عقله خلال الاختبار. "هل كان اختبارك صعبًا؟"

ضحك رافاييل ضحكةً قصيرة. "لقد كان... مثيرًا للسخرية. كل هذا لمجرد إخباري بشيء كنت أعرفه طوال الوقت."

"وهل تقبلت ذلك؟"

"ربما." رد رافاييل، عيناه تلمعان بشيء جديد، كأنه أدرك شيئًا لم يكن يعرفه من قبل. "لكنني لم أعد أهتم إن كنتُ ملكًا أو مجرد كائن مكسور. المهم هو ما أفعله بنفسي، وليس ما أملكه."

كايلب ابتسم بخفة. "يبدو أنك اجتزت الاختبار حقًا."

"وأنت؟ هل كان اختبارك ممتعًا؟" سأل رافاييل، وهو يحاول إخفاء فضوله بلهجة مرحة.

"ممتع؟ لا. لكنه كان ضروريًا." رد كايلب بجدية، وكأنه لا يرغب في الخوض في التفاصيل.

التفت رافاييل نحو البوابة، يتأمل الضوء المتراقص الذي ينبعث منها. "وماذا عنهم؟"

أشار كايلب إلى تونه وسايلوس، اللذين كانا لا يزالان طافيين في الهواء، مغمضي العينين، وأجسادهما تتحرك بشكل طفيف كأنهما يتأرجحان بين الواقع والاختبار.

"يبدو أنهما لا يزالان عالقين." قال كايلب بصوت منخفض.

"غريب..." قال رافاييل، وهو يشعر بالقلق يتسلل إلى قلبه. "لم أتوقع أن تكون أنت اول من يستيقظ."

"أنت لست الوحيد الذي تفاجأ." قال كايلب بابتسامة ساخرة.

"أتعلم؟" قال رافاييل وهو يضع يديه على خاصرته كأنه يتحدث عن شيء تافه. "هذا المكان مزعج. فكرة أنني أجبرت على مواجهة ماضيّ لم تعجبني على الإطلاق."

"لكنك اجتزت الاختبار."

"لأنني أعظم من هذا الهراء." قال رافاييل بثقة مبالغ فيها، لكن عيناه كشفتا شيئًا أعمق.

كايلب اكتفى بالنظر إليه، وكأنه يحاول تحليل ما يقوله. ثم قال: "علينا أن ننتظرهم الآن. لا يمكننا تركهم عالقين هنا."

أومأ رافاييل برأسه، وعيناه تتجهان نحو تونه. كانت ملامحها مشدودة وكأنها تعاني من كابوس لا تستطيع الهروب منه.

"تونه..." همس رافاييل لنفسه، وشعر بشيء عميق يحثه على الانتظار، على التأكد من أنها ستكون بخير.

---

اختبار سايلوس

----

---

كان سايلوس لا يزال محاصرًا في جسده الصغير. يداه ملطختان بالدماء، وجسده النحيل يرتعش من أثر المعركة التي انتهت لتوها.

كانت الرائحة الثقيلة للدم والبارود تملأ أنفه. لكن الأصوات كانت قد خفتت. كل شيء أصبح ساكنًا وموحشًا.

كان يقف هناك، في نفس الغرفة المظلمة التي قابل فيها ذلك الوحش السمين للمرة الأولى. العين الذهبية.

الرجل الذي أعطاه القوة، ثم حاول سحقه.

كان يجلس على كرسيه الضخم، فمه مفتوح بشكل بشع، والسيكارة الضخمة التي كانت دائمًا تتدلى من شفتيه سقطت بجانب قدمه.

لكن سايلوس كان قد قتله. تمامًا كما كان عليه أن يفعل.

"لقد فعلتها." قال سايلوس بصوت أجش، يحاول أن يقنع نفسه بأنه فعل الشيء الصحيح.

لكنه لم يشعر بأي ارتياح. كان جسده يرتجف، ليس من الخوف، بل من شيء آخر. شيء أعمق.

"أهذا هو كل شيء؟"

التفت سايلوس بسرعة نحو الصوت الجديد. صوت طفل.

هناك، في الزاوية المظلمة من الغرفة، كان هناك طفل آخر، عيناه الواسعتان تحدقان به بذعر.

"من أنت؟" سأل سايلوس، وهو يشعر بأنفاسه تتسارع.

"أنا أنت." قال الطفل، صوته يرتجف لكنه كان يحمل صدقًا مؤلمًا. "أو ربما... أنا ما تحاول قتله منذ زمن طويل."

"هراء." رد سايلوس بحدة، وعيناه تتفحصان المكان كأنه يبحث عن تهديد جديد.

"أنت قتلتهم جميعًا، أليس كذلك؟" قال الطفل، وهو يخطو إلى الأمام. "هؤلاء الرجال الذين كنت تعتقد أنهم أقوى منك. قتلتهم جميعًا، حتى ذلك الرجل الذي جعلك ما أنت عليه."

"لقد كان يستحق الموت."

"حقًا؟" قال الطفل بابتسامة حزينة. "أم أنك فقط تحاول إقناع نفسك بذلك لأنك لا تريد أن تعترف بأنك أصبحت مثله؟"

تصلب سايلوس، وشعر بشيء يخنقه. "أنا لست مثله. أنا لست وحشًا."

"لكن هذا هو ما كنت عليه طوال هذا الوقت، أليس كذلك؟ تستخدم العنف للسيطرة. تقتل لتثبت نفسك. تظن أن القوة هي كل شيء."

"القوة هي ما يجعلني على قيد الحياة." قال سايلوس، وعيناه تلمعان بتحدٍ غاضب.

"لكنها لا تجعلك إنسانًا." قال الطفل، ونبرته تحولت إلى شيء يشبه الشفقة. "أنت تظن أن قتل رئيسك القديم كان ما جعلك قويًا. لكنه كان مجرد نقطة البداية. النقطة التي بدأت فيها بالتخلي عن نفسك."

"لا أفهم."

"أنت قتلت ذلك الرجل لأنه كان يحاول التحكم بك. لكن في الحقيقة... كنت أنت من يحاول التحكم بنفسك. تقتل كل جزء إنساني بداخلك، معتقدًا أن ذلك سيجعلك لا تُقهر."

صمت سايلوس للحظة. كلمات الطفل كانت كالخناجر التي تمزق كبرياءه.

"إذا كنت أنا... فلماذا أراك الآن؟"

"لأنك لم تتقبلني أبدًا." قال الطفل، وصوته كان مليئًا بالألم. "أنا الجزء منك الذي حاولت قتله. الطفل الذي خسر كل شيء. كلما كنت تحاول إثبات قوتك، كنت تدفنني أكثر."

شعر سايلوس بقبضتيه ترتجفان. كان يدرك شيئًا لم يرغب في الاعتراف به.

"ماذا تريدني أن أفعل؟"

"لا شيء." قال الطفل بابتسامة حزينة. "فقط... تقبلني. لا أريدك أن تكون ذلك الوحش الذي صنعه الآخرون. أريدك أن تكون نفسك."

سايلوس شعر بأن قلبه ينبض بقوة. كل ذلك الوقت الذي أمضاه في بناء قوته، لم يكن سوى هروب.

أغمض عينيه، وأخذ نفسًا عميقًا.

"أنت لست ضعفي. أنت جزء مني."

وعندما فتح عينيه مجددًا، كان الطفل قد اختفى. لكن الشعور بالسلام لم يكن مجرد وهم. كان حقيقيًا.

---

---

فتح سايلوس عينيه فجأة، كمن يستيقظ من كابوس ثقيل. الهواء كان باردًا ونقيًا، لكن شيئًا من الدفء تسلل إلى صدره. شعور لم يعرفه من قبل، كأنه استطاع أخيرًا أن يتنفس بحرية.

كان يقف وسط البياض الشاسع، الضباب الكثيف الذي لا يُرى فيه سوى شيء واحد: بوابة الأطياف.

كانت ضخمة ومهيبة، مصنوعة من ضوء ينبض كالماء، كأنها كيان حي يتنفس وينتظر.

لكن ما جذب انتباهه حقًا لم يكن البوابة. بل الشخصين الواقفان أمامها.

"حسنًا، حسنًا، انظروا من عاد إلينا!" قال رافاييل بصوته المسرحي المعتاد، وذراعاه مفتوحتان كأنه يستقبل بطلًا عائدًا من معركة أسطورية.

"سايلوس..." تمتم كايلب بصوت منخفض، نظراته تدرس سايلوس وكأنه يحاول أن يرى التغيير الذي حدث له.

"ألم أكن آخر شخص يتوقع أن أستيقظ بعدكما؟" قال سايلوس بابتسامة نصفها ثقة ونصفها استهزاء.

"أنت تُفاجئنا جميعًا." رد كايلب بابتسامة صغيرة، لكن عيناه كانتا مليئتين بالحذر والفضول.

"إذن، هل كان اختبارك ممتعًا؟" سأل رافاييل بنبرة ساخرة وهو يرفع حاجبه الأرجواني.

"لنقل إنه كان... مزعجًا." قال سايلوس، وعيناه تتجهان نحو البوابة. "لكنني تجاوزته. وهذا هو كل ما يهم."

أومأ كايلب برأسه ببطء، كأنه يقيم الكلمات. ثم قال: "يبدو أننا الآن بانتظار تونه فقط."

تحولت نظرة سايلوس إلى تونه. كانت لا تزال هناك، طافية في الهواء بعينين مغمضتين، جسدها يتأرجح بشكل طفيف كما لو كانت محاصرة في حلم لا تستطيع الهروب منه.

وجهها كان مشدودًا، وشيء من الألم يتسلل إلى ملامحها.

"إنها تعاني." قال سايلوس بصوت خافت، عيناه لا تفارقان وجهها.

"مثلما عانينا جميعًا." رد كايلب، لكن نبرته كانت تحمل تعاطفًا أكثر مما تحمل قسوة.

"هي قوية." قال رافاييل، لكن صوته هذه المرة كان جادًا، بلا سخرية. "إنها أقوى مما تظن. لكن السؤال هو: هل ستتمكن من مواجهة نفسها؟"

كان سايلوس يعلم أن هذا الاختبار لم يكن مجرد معركة ضد الأعداء. كان شيئًا أعمق بكثير. شيء يجبرك على مواجهة حقيقتك، قبول ما تحاول إنكاره، أو الهلاك.

"سوف تجتاز الاختبار." قال سايلوس بحزم، وكأنه يحاول إقناع نفسه قبل أن يقنع الآخرين.

"أتمنى ذلك." تمتم كايلب، وعيناه لا تزالان تراقبان تونه.

"والآن، ماذا نفعل؟ هل ننتظرها حتى تستيقظ، أم نتقدم نحو البوابة؟" سأل رافاييل وهو ينظر إلى البوابة المتلألئة وكأنها قطعة من كنز غامض.

"لن نتركها." قال سايلوس دون تردد، صوته كان حازمًا بشكل لا يقبل النقاش.

"هذا ما كنت أتوقعه منك." قال رافاييل بابتسامة ساخرة، لكنه لم يعارض.

كايلب لم يقل شيئًا، لكنه وقف بجانب سايلوس ورافاييل، منتظرًا بصبر.

لقد اجتازوا اختباراتهم. لكن كان هناك شيء يخبرهم جميعًا أن ما ينتظرهم خلف بوابة الأطياف سيكون أصعب بكثير مما واجهوه حتى الآن.

"تونه...." يهمس سايلوس بقلق وهو ينضر الى تونه ...

---

اختبار تونه ...

---

------

كانت تونه تطفو في الظلام، جسدها خفيف كأنه مجرد فكرة عابرة. لا أرض تحت قدميها، ولا سماء فوقها. مجرد فراغ بارد، يخلو من كل حياة أو شعور.

ثم بدأ الألم.

لم يكن ألمًا جسديًا، بل شيئًا أعمق. شيء ينبع من ذكريات قديمة، مطمورة تحت جبال من الإنكار والخداع.

وفجأة، بدأ الظلام يتشقق. كأن شظايا الذاكرة تتساقط من السماء، تُظهر مشاهد متفرقة من حياتها.

---

المشهد الأول: طفولة ضائعة

كانت تونه صغيرة، بالكاد تبلغ الثامنة من عمرها. تقف في ساحة قاسية، أرضها من معدن بارد خشن، وجدرانها تحاصرها كزنزانة بلا مخرج.

"أنتِ ضعيفة!" صوت والدها يتردد كصاعقة تصفعها. كان يقف بعيدًا، عيناه تلمعان بالقسوة والانضباط. "الضعف لا مكان له في هذا العالم. إن لم تتعلمي كيف تقاتلين، فسوف تموتين."

كانت تقاتل ضد آلات متوحشة صُممت لاختبار صلابتها. أسلحة تحاول اختراق دفاعاتها، وصدمة كهربائية في كل مرة تخطئ فيها حركة.

كانت تبكي. لكن دموعها لم تكن تشفع لها، بل كانت تزيد من قسوة والدها.

وفي كل مرة كانت تسقط، كان والدها يأمرها بالنهوض. لا رحمة، لا شفقة. مجرد تدريب قاسي لا ينتهي.

كان تدريبها قاسيًا، كأنه مصمم ليكسرها بدلًا من تقويتها. لا رحمة، لا حب. مجرد أوامر وتعليمات صارمة.

ضربات، سكاكين، نيران تحيط بها، وكانت تُجبر على تجاوز كل ذلك دون شكوى. كان يريدها أن تكون قوية. لا... كان يريدها أن تكون سلاحًا.

---

المشهد الثاني: الفقدان

كانت في العاشرة من عمرها حينما علمت أن والدتها وأخيها قد اختفيا.

أخبرها والدها أنهم ماتوا. هكذا ببساطة. دون أن يعطيها فرصة لرؤيتهم أو توديعهم.

"لماذا؟ لماذا لم تدعني أراهم؟" صرخت في وجهه وهي تبكي بحرقة.

"لأن الضعف لا ينفعكِ." قال والدها ببرود. "الحزن ليس سوى عائق. موتهم هو درس. إن كنتِ تريدين النجاة، فعليكِ التخلص من هذه المشاعر السخيفة."

ذلك اليوم، شعرت أن شيئًا ما داخلها قد تحطم إلى الأبد. لكن شيئًا آخر وُلد أيضًا. قوة غاضبة بدأت تنمو في أعماقها، كأن الألم يغذيها بدلًا من أن يكسرها.

---

المشهد الثالث: كايلب - الرفيق والأخ

كان كايلب هو الوحيد الذي بقي بجانبها وسط كل ذلك الجنون.

رفيقها في التدريب، في الألم، في الانتصارات الصغيرة والهزائم الساحقة. كان يعلّمها كيف تستخدم غضبها كطاقة بدلًا من أن تدعها تلتهمها.

"تعلمين يا تونه... القوة لا تأتي من التدريب وحده. إنها تأتي من رغبتكِ في البقاء. رغبتكِ في حماية نفسك ومن تهتمين لأمرهم." قال كايلب ذات يوم بينما كانا يضمدان جروح بعضهما بعد تدريب قاسٍ.

كان بالنسبة لها أخًا لم تعرفه من قبل. شخصًا استطاعت أن تعتمد عليه حينما كان العالم يحاول كسرها.

---

المشهد الرابع

كانت قد أصبحت مراهقة، عيونها أصبحت باردة كأنها تخشى أن تُظهر أي ضعف.

كانت في إحدى رحلاتها إلى كوكب بعيد، تؤدي مهمة لوالدها عندما اصطدمت بسايلوس لأول مره..

.

كان اللقاء الأول عنيفًا، مواجهات لا تنتهي بين قوتها وقدرته على التخفي والمكر.

لقاء بدأ كعداء شرس، كمعركة لم تكن تعرف كيف ستنتهي. لكنه كان مختلفًا عن كل من قابلتهم. لم يكن مجرد خصم، بل لغز أرادت فهمه.

ببطء، تحول الصراع إلى شيء آخر. شيء أعمق.

كانت تشعر بالأمان معه، بشيء لم تشعر به حتى مع كايلب. كان يراها كما هي، بدون أقنعة أو قيود.

كان سايلوس بالنسبة لها هو الشيء الوحيد الذي استطاع أن يُشعرها بأنها حرة، وأنها تستطيع أن تكون شيئًا غير السلاح الذي أراد والدها صنعه.

ثم، تحول الفضول إلى صداقة. والصداقة إلى شيء أعمق بكثير.

تذكرته وهو يبتسم بسخريته المعتادة، كلماته اللاذعة التي تحمل خلفها عاطفة لم يعترف بها أبدًا.

تذكرته وهو يقاتل إلى جانبها، كأنهما ثنائي لا يُقهر.

ثم تذكرته وهو يقول لها:

"مهما كان ما ستختارينه، سأكون إلى جانبك. حتى وإن كان عليّ تدمير العالم من أجلكِ."

رأت نفسها معه، في لحظات قليلة من السعادة التي كانت تظن أنها مستحيلة. كان يكسر جدرانها ببطء، يجعلها تشعر بأنها ليست مجرد سلاح، بل شخصًا له الحق في أن يحب ويُحب.

-----

المشهد الخامس :

عندما اكتشف والدها علاقتها بسايلوس، كان كمن اكتشف خيانة عظمى.

"ذلك الصعلوك؟ شخص مثله لا يستحقكِ. لا يمكنني السماح لكِ بإضاعة نفسكِ من أجله." قالها والدها بصوتٍ غاضب كأنه بركان على وشك الانفجار.

لكنها كانت قد قررت. لم تعد تريد أن تكون مجرد دمية يتلاعب بها.

"هذه حياتي، وليس لديك الحق في التحكم بها." قالت له بعينين تتوهجان بالغضب والتحدي.

---

المشهد السادس:

لكن والدها لم يكن ليسمح لها بالحرية. كان رئيس منظمة الأمن الفضائي. لديه السلطة، والوسائل، والإرادة لفعل ما يريد.

، قرر أن يعاقبها بأبشع طريقة ممكنة.

"إن لم تكوني أداةً مثالية، فأنتِ لا تستحقين البقاء في هذا العالم."

كانت كلماته تتردد في عقلها كتعويذة لعينه. ثم كان هناك الألم.

أجهزة غريبة، تقنيات متقدمة تستخدم لمحو ذاكرتها. إعادة تشكيلها، إعادتها إلى الصفر.

ثم وضعها في عالم مزيف. حياة كاذبة عاشتها لخمس سنوات دون أن تدري من تكون حقًا.

كانت سجينة لعالم لم يكن لها. مجرد شخصية في قصة كتبها والدها بيد من حديد.

---

الآن، كانت تونه تقف في وسط الظلام، تشاهد كل تلك المشاهد تتكرر أمامها لمئات المرات ، كأنها مسرحية مأساوية لا نهاية لها.

ألمها كان عميقًا لدرجة يكاد يخنقها. لكن مع الألم كان هناك شيء آخر.

قوة.

تونه لم تكن ضحية. لم تكن مجرد فتاة تحاول النجاة. كانت محاربة، وماضيها لم يعد مجرد جرح، بل سلاح.

نظرت إلى كل تلك الصور المتحركة أمامها. والدها، كايلب، سايلوس، والدتها، وأخوها. كلهم كانوا جزءًا منها.

لكن الأهم من ذلك، كانت هي نفسها.

"أنت لم تصنعني." قالت بصوت مليء بالعزم، مخاطبة والدها حتى وإن لم يكن موجودًا.

"لقد حاولت أن تكسرني، أن تجعلني أداة بلا مشاعر. لكنني ما زلت هنا. أقوى من أي وقت مضى."

كانت تشعر بتلك القوة تتدفق بداخلها، تمزق كل القيود التي وضعها والدها حولها.

---

كان الظلام لا يزال يحيط بتونه، لكنه لم يعد مخيفًا كما كان. بل أصبح أشبه بخلفية باهتة، مجرد صدى قديم لم يعد يتحكم بها.

أخذت نفسًا عميقًا، وشعرت بقوة تتدفق في عروقها، كأنها شلال ماء نقي يغسل كل ضعف وألم. لم تكن مجرد فتاة مكسورة، ولا مجرد سلاح صنعه والدها. كانت شخصًا صنع نفسه بنفسه.

"لقد حاولت تحطيمي، لكنك جعلتني أقوى." همست تونه بصوت مفعم بالعزم. "كل ما مررت به... لم يكن سوى طريق إلى ما أنا عليه الآن."

تلاشى الظلام من حولها، واختفت الصور البشعة التي كانت تطاردها. حل محلها ضوء نقي يشع من داخلها، كأنه طاقة لا نهاية لها.

ثم... عادت.

---

فتح كايلب عينيه فجأة وهو يشعر بتموج الطاقة حوله. لم يكن بحاجة إلى النظر ليتأكد مما حدث.

"أخيرًا..." تمتم بصوت مفعم بالارتياح.

بجانبه كان يقف رافاييل، ينظر إلى تونه بدهشة غير معتادة. عيناه الأرجوانيتان كانتا تلمعان بشيء أشبه بالإعجاب، أو ربما الفخر.

"واو، لا أصدق أنها فعلتها." قال رافاييل بمرح، لكن صوته كان يخفي قلقًا خفيفًا.

ثم كان هناك سايلوس.

عيناه الحمراوتان تركزان على تونه بحدة، كأنما يفتش في ملامحها عن أي دليل على الألم. لكن ما رآه كان شيئًا آخر.

تونه كانت تقف بثبات، أنفاسها هادئة، ووجهها لا يحمل سوى التصميم. كأنها وُلدت من جديد.

"تونه..." قال سايلوس، صوته كان خافتًا، كأنه يخشى أن يكون ما يراه مجرد وهم.

نظرت تونه إليه، وابتسمت بخفة. لم تكن ابتسامة يأس أو سخرية، بل ابتسامة حقيقية، صادقة.

"أخبرتك أنني سأعود." قالت بنبرة مرحة، كأنها تحاول تخفيف التوتر.

لكن سايلوس لم يستطع إخفاء ارتياحه. كان شيئًا عميقًا يتسلل إلى قلبه، كأن العالم عاد إلى مكانه الصحيح.

"لا أحد يشكك في قوتكِ، عزيزتي." قال رافاييل بابتسامة واثقة. "لكن يجب أن أعترف، لم أتوقع أن تكوني الأخيرة."

"حقًا؟ لأنني أعتقد أنني كنت الأذكى." ردت تونه بسخرية وهي ترفع حاجبيها.

ضحك رافاييل، وتبادل نظرة مع كايلب الذي بدا أكثر ارتياحًا مما كان عليه منذ فترة طويلة.

"إذاً... الجميع اجتاز الاختبار." قال كايلب، وعيناه تتجهان نحو بوابة الأطياف.

البوابة كانت تلمع بضوء أزرق متراقص، كأنها تنتظرهم لتخطو نحوها.

"هل تعتقدون أن ما ينتظرنا خلفها سيكون أسهل؟" سألت تونه وهي تنظر إلى البوابة بشيء من التحدي.

"بالتأكيد لا." قال رافاييل وهو يضحك. "لكنني لم أكن يومًا من محبي الأشياء السهلة."

"ولا أنا." أضاف سايلوس، عينيه تلمعان بثقة هادئة.

"إذن، لنذهب." قال كايلب، وبدأ بخطوته الأولى نحو البوابة.

تونه نظرت إليهم، أصدقاؤها؟؟ ....

كايلب الذي كان بالنسبة لها أخًا وحاميًا.

سايلوس الذي منحها الحب والحرية.

ورافاييل الذي كان أشبه بمصدر لا ينتهي من المفاجآت.

لم تحدد من هو العدو ومن هو الصديق ..

لكنها ....

أخذت نفسًا عميقًا، وأمسكت بيد سايلوس دون تردد.

"مهما كان ما ينتظرنا، سنواجهه معًا." قالت بصوت ثابت، وابتسامة على شفتيها.

"هذا ما أحب سماعه." قال سايلوس وهو يشد على يدها بلطف، ثم خطوا معًا نحو الضوء.

----

---

كانت بوابة الأطياف تلمع بضوءها الغامض، تتراقص أمامهم كأنها تدعوهم لعبورها. لكن شيئًا ما كان يمنعهم. شيء ثقيل، أشبه بجدار غير مرئي يقف حائلًا بينهم وبين العبور.

"ما الذي يحدث؟" تمتمت تونه، تشعر بشيء من الخوف يتسلل إلى قلبها.

"لا أظن أن الطريق مفتوح لنا بعد." قال كايلب بجدية، وعيناه لا تفارقان البوابة.

"ربما لأن أصدقاؤنا هنا لا يرغبون في السماح لنا بالمرور." قال رافاييل بابتسامة ساخرة، يشير بإصبعه نحو الأشكال الثلاثة التي كانت لا تزال تقف أمام البوابة.

العمالقة الثلاثة.

الذين أرسلوا كل واحد منهم إلى اختباره الخاص. ومن وضعوا القيود أمامهم ليواجهوا ماضيهم، قوتهم، ومخاوفهم.

لكن هذه المرة، كان العمالقة مختلفين.

بدأت أجسادهم تتغير، كأنما استجابوا لقوة النجاح التي عادت مع كل منهم. تحولوا إلى تجسيدات تعكس أعماق الشخصيات التي يقفون ضدها.

---

العملاق الأول: تجسيد الظلام - خصم سايلوس

العملاق الأول، الذي كان يقف أمام سايلوس، تحوّل إلى كيان مرعب. جسده أصبح مغطى بدرع أسود لامع، وعيناه تتوهجان بلون أحمر دموي. كان شكله يعكس العنف والقسوة اللذين طالما استخدمهما سايلوس ليبني قوته.

"أنتَ كنت دائمًا تبحث عن الظلام، أليس كذلك؟" قال العملاق بصوت يتردد كالرعد. "لكن هل تظن أنك قادر على السيطرة عليه؟"

لم يتردد سايلوس. أطلق العنان لقوته الكامنة، ظلال سوداء بدأت تلتف حول جسده كأفعى شرسة.

الوشوم النارية رسمت نفسها على جسده بالكامل، وعيونه الحمراء تحولتا إلى لون أحمر ناري كأنها جمرة من الجحيم.

"السيطرة؟ لا... أنا أصبحت الظلام ذاته." قال سايلوس بابتسامة وحشية قبل أن ينقض على العملاق.

---

العملاق الثاني: تجسيد المحيط - خصم رافاييل

العملاق الثاني الذي واجه رافاييل تحوّل إلى شيء أشبه بمخلوق بحري أسطوري. جسده مغطى بأصداف متلألئة، وعيناه الأرجوانيتان تلمعان بدهاء يشبه مكر أعماق المحيطات.

"أيها الملك الصغير... هل تعتقد أن عرشك يجعلك قويًا؟ هل تعتقد أن سلطتك شيء حقيقي؟"

رفع رافاييل حاجبيه بسخرية، لكن عينيه كانتا مشتعلة بالحماس. "الملك؟ أنا أكثر من ذلك."

جسده بدأ يلمع كأنما مصقول بألماس ولؤلؤ. كان يتلألأ ببريق ساطع، كأنما البحر ذاته قد انصهر داخله.

"هيا، أرني قوتك الحقيقية." قال رافاييل بصوتٍ واثق، وأمواج قوته اندفعت نحوه كطوفان لا يُوقف.

---

العملاق الثالث: تجسيد الصرخة - خصم كايلب

أما العملاق الثالث، الذي وقف أمام كايلب، فقد تحول إلى صورة مخيفة تعكس قوته الخاصة. عيناه كانتا بيضاوين كعيني كايلب عندما يستخدم قوته، وجسده كان مغطى باللون الأسود كأنه تجسيد لصرخة مكتومة لا تنتهي.

"لقد واجهت نفسك، لكن هل تظن أن قبولك لها يعني أنك أصبحت قويًا حقًا؟" قال العملاق بصوت غامض، كأنه ينبع من أعماق الهاوية.

شعر كايلب بقوته تتفاعل معه بشكل لم يشعر به من قبل.

كتفه الأيمن وذراعه بالكامل أصبحا أسودين، كأن الظلام قد اندمج معه. عينه اليمنى تحولت إلى اللون الأبيض النقي، متوهجة كأنها شعلة من النور وسط الظلام.

"هذه القوة ليست لعنة." قال كايلب بثبات، وصوته كان قويًا كأنما يحطم كل ما يقف أمامه. "إنها ما يجعلني أنا."

ثم انقض على العملاق، وقوته تتفجر حوله كعاصفة لا يمكن كبحها.

---

بينما كان الآخرون مشغولين بمعاركهم، وقفت تونه أمام بوابة الأطياف.

شيء ما في أعماقها كان يخبرها أن مهمتها مختلفة. لم يكن عليها أن تقاتل، بل أن تتواصل.

كانت تسمع أصواتًا تتردد في عقلها. أصواتًا من عالم آخر. عالم الأحلام والأكوان المتشابكة.

"هذه ليست مجرد بوابة. إنها رابط." قالت تونه بصوت خافت، وهي تمد يديها نحو البوابة المتلألئة.

أغمضت عينيها وركّزت طاقتها، طاقة لم تكن مجرد قوة مادية، بل شيء أعمق بكثير. كانت طاقة الأحلام، القوة التي وُلدت بها.

شعرت بالبوابة تستجيب لها، ضوءها يصبح أكثر سطوعًا، كأنها تتعرف عليها وتدعوها للدخول.

________

✨ مرحبا ✨

. انتهى التنزيل اليومي...

سيكون تنزيل الفصول من الان فصاعدا كل يوم جمعه

2025/03/23 · 7 مشاهدة · 7070 كلمة
Fatima
نادي الروايات - 2025