غادرَت مجموعة الصَّيد مع مطلع الفَجر، فقد كان المَلك يرغب في أن يتناول خنزيرًا بريًّا في مأدبة اللَّيلة. خرجَ الأمير چوفري مع أبيه، فسُمِحَ لروب بالانضمام إلى الصيَّادين بدوره، ومعهم خرجَ العم بنچن وچوري وثيون جرايچوي والسير رودريك، وحتى شقيق المَلكة الصَّغير الغريب.

كان هذا صيدهم الأخير على كلِّ حال، وفي الغد يبدأون التحرُّك جَنوبًا.

تُرِكَ بران في وينترفل مع چون والفتاتين وريكون، لكن ريكون كان مجرَّد طفلٍ صغير، والفتاتان مجرَّد فتاتين، بينما لا أثر لچون وذِئبه. لم يُحاوِل بران أن يبحث عنه كثيرًا، وخطرَ له أنه غاضبٌ منه. في الحقيقة كان چون يبدو حانقًا على الجميع هذه الأيام، وبران يجهل السَّبب. إنه ذاهب مع العم بن إلى "الجِدار" لينضمَّ إلى حَرس اللَّيل، وهذا في حدِّ ذاته يكاد يدعو للابتهاج كالذِّهاب إلى الجَنوب. كان روب هو الوحيد الذي سيظلُّ في مكانه بلا حراك، وليس چون.

منذ أيامٍ وبران يكاد لا يطيق صبرًا حتى تبدأ رحلتهم جَنوبًا. سيقطع طريق الملوك على متن حصانٍ خاص به، ليس حصانًا قزما بل حصانًا حقيقيًّا، وسيُصبِح أبوه يَدَ المَلك ويقيمون جميعًا في القلعة الحمراء في كينجز لاندنج، القلعة التي شيَّدها سادة التَّنانين. كانت العجوز نان قد قالت له إن ثمَّة أشباحًا تعيش هناك، وزنازين جرَت فيها أشياءَ مريعة حقًّا، ورؤوس تنانين معلَّقة على الجدران. كان بران يرتجف لمجرَّد التفكير في هذا، لكنه لم يكن يَشعُر بالخوف... وأنَّى له أن يخاف؟ سيكون أبوه معه، والمَلك بكلِّ ما لديه من فُرسان ومُقاتِلين.

سوف يصير بران نفسه واحدًا من فُرسان الحَرس المَلكي ذات يوم.

إنهم أبرع مبارزين في البلاد كلها كما قالت العجوز نان. لم يكن هناك غير سبعة منهم، يرتدون الدُّروع البيضاء وليس لهم زوجات أو أبناء، وإنما يعيشون لخدمة المَلك فحسب. كان بران يعرف كلَّ القصص التي تُروى عنهم، وأسماؤهم كان لها وقع الموسيقى على أُذنيه... سروين ذو التُّرس المرآة... السير ريام ردواين... الأمير إيمون الفارس التنِّين... التَّوأمان السير إريك والسير آريك، اللذان ماتَ كلٌّ منهما بسيف الآخَر منذ مئات السِّنين، عندما قاتلَ الأخ أخته خلال الحرب التي أطلقَ عليها المغنُّون اسم "رقصة التَّنانين"... الثَّور الأبيض چيرولد هايتاور... السير آرثر داين سيف الصَّباح... باريستان الباسِل.

اثنان من الحَرس المَلكي جاءا مع المَلك روبرت إلى الشَّمال، وقد راقبَهما بران بافتتانٍ دون أن يجرؤ مرَّةً على التحدُّث إليهما. كان السير بوروس رجلًا أصلع ذا لُغد كبير، والسير مرين ذا عينين كئيبتين ولحية بلون الصَّدأ. أمَّا السير چايمي لانستر فبدا كالفُرسان الذين تحكي عنهم القصص. هو أيضًا كان من فُرسان الحَرس المَلكي، لكن روب قال إنه قتلَ المَلك المجنون بيده، ولذا لا ينبغي أن يُحسَب كواحدٍ منهم. كان أعظم فارس موجود على قيد الحياة الآن هو السير باريستان سلمي، باريستان الباسِل، قائد الحَرس المَلكي. كان أبوه قد وعدَ بأنهم سيلتقون بالسير باريستان لدى بلوغهم كينجز لاندنج، وهكذا ظَلَّ بران يُحصي الأيام على جِدار غرفته وكله لهفة على أن يُغادِر ويرى العالم الذي يَسكُن أحلامه ويبدأ حياةً يكاد لا يتخيَّلها.

على أن شعورًا بالضَّياع انتابَه فجأةً مع حلول اليوم الأخير، فوينترفل كانت الوطن الوحيد الذي يعرفه. كان أبوه قد قال له إن عليه أن يُوَدِّع من يرغب في توديعهم اليوم، ولقد حاولَ بالفعل. بعد خروج مجموعة الصَّيد تجوَّل بران في أرجاء القلعة وذِئبه إلى جانبه، وفي نيَّته أن يزور كلَّ من سيظلُّ هنا... العجوز نان... جايچ الطَّاهي... ميكِن الحدَّاد في ورشته... هودور صبي الاسطبل دائم الابتسام الذي يعتني بحصانه القزم، ولا يقول شيئًا أبدًا غير كلمة "هودور"... عامل الدَّفيئة الزُّجاجيَّة الذي كان يعطيه حبَّةً من التوت الأسود كلما ذهبَ لزيارته.

لكن شيئًا آخَر حدثَ بدلًا من ذلك. ذهبَ بران إلى الاسطبل أولا، ورأى حصانه القزم في مربطه كما اعتادَ أن يفعل، مع الفارِق هذه المرَّة أنه لم يَعُد حصانه القزم، لأنه سيحصل على حصانٍ حقيقي ويَترُك الحصان القزم هنا. على حين غِرَّةٍ انتابَت بران الرَّغبة في الجلوس في مكانه والانفجار في البكاء، فدارَ وهُرِعَ مبتعدًا من أمام هودور وبقيَّة صبيان الاسطبل قبل أن يرى أيهم دموعه. كانت هذه نهاية جولة الوداع، وبدلاً من القيام بها قضى بران الظَّهيرة وحده في أيكة الآلهة محاولاً –بلا طائل-أن يُدَرِّب ذِئبه على أن يأتي له بالعِصِيِّ التي يُلقيها. كان الذِّئب الصَّغير أذكى من كلِّ الكلاب في وَجار كلاب أبيه، وكان بران ليُقسِم أنه يستوعب كلَّ كلمةٍ يقولها له، لكنه أبدى القليل جدًّا من الاهتمام بمطارَدة العِصِي.

كان لا يزال يُحاوِل الاستقرار على اسمٍ للذِّئب. روب أطلقَ على ذِئبه اسم جراي ويند لسرعته الكبيرة في العَدو، وأطلقَت سانزا على ذِئبتها اسم ليدي، بينما سمَّت آريا ذِئبتها على اسم المَلكة السَّاحرة القديمة التي تَذكُرها الأغاني، وسمَّى ريكون ذِئبه شاجيدوج، وهو الاسم الذي اعتبرَه بران شديد السُّخف بالنِّسبة لذِئبٍ رهيب. ذِئب چون ذو اللون الأبيض كان اسمه جوست، ولقد تمنَّى بران لو أنه فكَّر في هذا الاسم أولا، على الرغم من أن ذِئبه لم يكن أبيضَ. منذ أسبوعين كاملين وهو يُفَكِّر في مئة اسم، ولا اسم منها بدا صالحًا على الإطلاق.

في النِّهاية شعرَ بالسَّأم من لعبة العِصِي وقرَّر أن يذهب للتسلُّق. إنه لم يتسلَّق البُرج المكسور منذ أسابيع مع كلِّ ما يدور هنا، وقد تكون هذه فُرصته الأخيرة.

انطلقَ يقطع أيكة الآلهة، مختارًا أن يَسلُك الطَّريق الأطول ليتلافى البِركة التي تَنبُت منها شجرة القلوب. لطالما أخافته تلك الشَّجرة. ليس من المفترَض أن تكون للأشجار عيون، أو أوراق تبدو كالأيدي. انطلقَ ذِئبه في أعقابه، وعند بلوغهما قاعدة شجرة الحارس الواقعة بالقُرب من جِدار مستودع السِّلاح قال له بران آمرًا: "ابقَ هنا... نعم، هكذا... اجلس". أطاعَ الذِّئب الأمر، وحكَّه بران وراء أُذنيه، ثم دارَ ووثبَ ليتعلَّق بفرعٍ منخفض من شجرة الحارس، ثم دفعَ نفسه إلى أعلى. كان قد تسلَّق الشَّجرة حتى منتصفها تقريبًا وأخذَ يتحرَّك بسهولةٍ من فرعٍ إلى آخَر، عندما نهضَ ذِئبه على قوائمه وبدأ يعوي.

نظرَ بران إلى أسفل، فصمتَ ذِئبه وحدَّق فيه بعينيه الصَّفراوين المشقوقتين، وشعرَ بران بقشعريرةٍ تسري في جسده. ثم إنه بدأ يتسلَّق من جديد، ومن جديد بدأ الذِّئب يعوي، فصاحَ فيه: "اصمت! اجلس في مكانك! أنت أسوأ من أمي!". طاردَه العواء وهو يتسلَّق الشَّجرة حتى قمَّتها، إلى أن وثبَ منها أخيرًا على سَطح مستودع السِّلاح وغابَ عن الأنظار.

كانت أسطُح الأبنية في وينترفل بيت بران الثَّاني. كثيرًا ما كانت أمه تقول إنه تعلَّم التسلُّق قبل أن يتعلَّم المشي، وبران لم يكن يَذكُر متى بدأ يمشي، لكنه لم يكن يَذكُر متى بدأ يتسلَّق كذلك، فافترضَ أن ما تقوله صحيح. بالنِّسبة لولدٍ في سنِّه كانت وينترفل متاهةً من الأحجار الرماديَّة، من أسوارٍ وأبراجٍ وساحات

وأنفاقٍ تمتدُّ في جميع الاتِّجاهات. في الأجزاء الأقدم من القلعة كانت القاعات والغُرف مائلةً إلى أعلى وأسفل بحدَّةٍ تجعلك لا تعرف في أيِّ طابِقٍ تقف بالضَّبط. أخبرَه المِايستر لوين ذات مرَّةٍ أن المكان قد نما على مَرِّ القرون كشجرةٍ عملاقةٍ من حَجر، فروعها كثيفة متشابكة وجذورها تَبلُغ أعماق الأرض.

عندما يَخرُج من المتاهة ويصعد إلى أعلى ليصير قاب قوسين أو أدنى من السَّماء، كان بران يرى وينترفل كلها بنظرةٍ واحدة. كان يُحِبُّ كيف تبدو منبسطةً من تحته، ولا شيء غير الطُّيور يدور فوق رأسه، بينما تمضي الحياة بوتيرتها المعتادة في القلعة في الأسفل، فيقضي ساعاتٍ جاثمًا بين الكراجل عديمة الشَّكل التي أبلتها الأمطار وهي تُطِلُّ على هذه المنطقة من وينترفل المعروفة باسم "القلعة الأولى"، تُراقِب كلَّ شيء: الرِّجال يتمرَّنون بالفولاذ والخشب في السَّاحة، الطُّهاة يعتنون بالخضروات في الصُّوب الزُّجاجيَّة، الكلاب الضَّجِرة تجري هنا وهناك في أوجِرتها، صمت أيكة الآلهة، الفتيات يتهامسنَ ويتبادلنَ النَّميمة عند بِئر الغسيل. كان المشهد يُشعِره بأنه سيِّد هذه القلعة على نحوٍ لا يستطيع روب نفسه تصوُّره أبدًا.

هكذا تعلَّم بران أسرار القلعة. لم يُمَهِّد البناؤون التُّربة حتى، فبدا كأن وينترفل تحوي تلا ووديانًا كاملةً وراء أسوارها. كان هناك جسر مغطَّى يمتدُّ من الطَّابق الرَّابع في بُرج الجرس عَبر الطَّابق الثَّاني في المِغدفة. 11

كان بران يعرف هذا، ويعرف أيضًا أنك تستطيع أن تَدخُل السُّور الدَّاخلي من البوَّابة الجَنوبيَّة، ثم تصعد ثلاثة طوابق وتجري حول وينترفل كلها في نفقٍ ضيِّقٍ محفور داخل أحجار السُّور، ثم تَخرُج منه في الطَّابق الأرضي عِند البوَّابة الشَّماليَّة وفوقك سور يرتفع مئة قدم. كان بران مقتنعًا بأن المِايستر لوين نفسه لا يعرف ذلك.

كانت أمه دائمة الخوف من فكرة مجيء يومٍ يَسقُط فيه بران من فوق أحد الأسوار ويَقتُل نفسه. أكَّد لها أن ذلك لن يَحدُث لكنها لم تُصَدِّقه، وفي مرَّةٍ جعلته يعدها بأن يظلَّ على الأرض ولا يتسلَّق أبدًا، وطوال أسبوعين تقريبًا استطاعَ الحفاظ على وعده وهو يَشعُر بالبؤس مع كلِّ يومٍ يمضي، إلى أن خرجَ من نافذة غُرفته ذات ليلةٍ وإخوته نيام. في اليوم التَّالي تغلَّب عليه الشُّعور بالذَّنب واعترفَ بجريمته، فأمره اللورد إدارد بالذِّهاب إلى أيكة الآلهة لتطهير نفسه، ووقفَ الحُّراس ليتأكَّدوا من أنه قضى ليلته في التَّفكير في عصيانه. في الصَّباح التَّالي كان بران قد اختفى، وبعد بحثٍ طويل عثروا عليه أخيرًا وقد غابَ في نومٍ عميق فوق أعلى أفرُع أعلى شجرة حارس في الأيكة.

على الرغم من غضبه لم يسع أباه إ أن يضحك، وقال لبران عندما أنزلوه: "أنت لست ابني، أنت سنجاب. ليكن، إذا كان عليك أن تتسلَّق فتسلَّق، لكن حاول ألا تدع أمك تراك". وبذلَ بران قصارى جهده كي يُخفي عنها حقيقة أنه لا يزال يتسلَّق، لكنه لم يحسب قَطُّ أنها انخدعَت حقًّا. هكذا، وبما أن أباه لم يمنعه من التسلُّق، سعَت أمه لطلب المساعَدة من الآخَرين. حكَت له العجوز نان عن ولدٍ صغيرٍ سيِّئ الخُلق تسلَّق عاليًّا جدًّا فصعقَه البَرق، وكيف جاءَت الغِربان بعدها لتفقأ عينيه. لم تؤثِّر الحكاية فيه على الإطلاق. أعشاش الغِربان كانت كثيرةً فوق البُرج المكسور، حيث لم يكن أحد سواه يذهب، وأحيانًا كان يملأ جيوبه بالذُّرة قبل أن يتسلَّق، وكانت الغِربان تأكلها من يده مباشرةً، ولم يُبد أحدها أدنى رغبةٍ في فقئ عينيه.

بعدها صنعَ المِايستر لوين ولدًا صغيرًا من الفخَّار ووضعَ عليه ملابس بران، ثم ألقى به من فوق السُّور إلى السَّاحة في الأسفل، ليشرح له ماذا سيَحدُث إذا سقطَ هو. كانت التَّجربة مسلية حقًّا، لكن بران اكتفى بأن رمقَ المِايستر قائلا باستهانة: "إنني لستُ مصنوعًا من الطَّمي، وعلى كلِّ حالٍ أنا لا أسقطُ أبدًا".

ثم لفترةٍ كان الحُراس يُطارِدونه إذا رأوه فوق الأسطُح ويُحاوِلون إنزاله، وكان هذا أمتع الأوقات على الإطلاق. كان كأنه يلعب لعبةً مع إخوته، مع فارِق أنه كان الفائز الدَّائم. لم يكن أيٌّ من الحُراس يتمتَّع بنِصف براعة بران في التسلُّق، ولا حتى چوري. لم يكن أحدهم يلمحه أغلب الوقت على كلِّ حال، فالنَّاس لا يَنظُرون إلى أعلى أبدًا، وكان هذا من الأشياء التي يُحِبُّها في التسُّلق، أنه يكاد يجعله خفيًّا.

كان يُحِبُّ شعور التسلُّق نفسه كذلك، كيف يرفع نفسه أعلى جِدارٍ ما حَجَرًا حَجَرًا، وأصابع يديه وقدميه غائصة في الصُّدوع الصَّغيرة بين الأحجار. كان يخلع حذاءه دائمًا ويتسلَّق حافي القدمين، وكان هذا يُشعِره كأنه يملك أربع أيدٍ بدلًا من اثنتين. كان يُحِبُّ الوجع العميق العذب الذي يظلُّ في عضلاته بعدها، ويُحِبُّ أن على هذا الارتفاع للهواء مذاق بارد حُلو كالخوخ الشِّتوي. أحبَّ الطُّيور كذلك، الغِربان في البُرج المكسور، والعصافير الصَّغيرة التي اتَّخذَت من الشُّقوق بين الأحجار أعشاشًا لها، والبومة العجوز التي تنام في الشُّرفة المغبَّرة فوق مستودع السِّلاح القديم.

كان بران يعرف كلَّ تلك الطُّيور.

لكن أكثر من أيِّ شيءٍ آخَر، كان بران يُحِبُّ الذِّهاب إلى الأماكن التي لا يستطيع غيره الذِّهاب إليها، ومشاهَدة وينترفل الممتدَّة من تحته كما لا يراها أحد آخَر، ولهذا كانت القلعة كلها بمثابة مخبأ بران السرِّي.

وجهته المفضَّلة كانت البُرج المكسور، الذي كان ذات يومٍ أطول بُرج حراسةٍ في وينترفل كلها. منذ زمنٍ طويل، قبل مئة عامٍ أو أكثر من مولد أبيه نفسه، هوَت صاعقة على البُرج وأشعلَت فيه النِّيران، وانهار ثُلثه العلوي إلى الدَّاخل، ولم يُعَد بناؤه بعدها. أحيانًا كان أبوه يُرسِل صيَّادي الجرذان إلى قاعدة البُرج، لتنظيفه من الأوكار التي كانوا يجدونها دومًا بين غابة الأحجار السَّاقطة والدَّعائم المحترقة، لكن بخلاف بران والغِربان لم يكن هناك من يصعد إلى القمَّة الخَرِبة الآن.

كان يعرف سبيلين إلى هناك. يُمكنك أن تتسلَّق جانِب البُرج نفسه إلى أعلى، لكن الأحجار كانت مخلخلةً أكثر من اللازم وقد استحالَ المِلاط الذي ثبَّتها معًا إلى ترابٍ منذ زمنٍ طويل، وبران لم يكن يُحِبُّ أن يضع كامل ثِقله عليها. السَّبيل الأفضل يبدأ من أيكة الآلهة، حيث تتسلَّق شجرة الحارس الطَّويلة هناك، ثم تَعبُر من سطحٍ إلى سطحٍ فوق مستودع السِّلاح وقاعة الحَرس وأنت حافي القدمين كي لا يسمعونك فوق رؤوسهم. يُفضي بك هذا إلى البُقعة العمياء من القلعة الأولى، الجزء الأقدم من وينترفل الذي يضمُّ حِصنًا صغيرًا أكثر ارتفاعًا مما يبدو. لا يعيش هناك الآن غير الجرذان والعناكب، لكن الأحجار لا تزال صالحةً للتسلُّق، ويُمكنك أن تصعد مباشرةً إلى حيث تُطِلُّ الكراجل العمياء على المساحة الفارغة في الأسفل، ثم تتأرجح من كرجل إلى آخَر حول الحِصن حتى تَبلُغ جانبِه الشَّمالي، ومن هناك تمدُّ يدك تمامًا وتسحب نفسك إلى البُرج المكسور الذي يميل في هذه البُقعة. الخطوة الأخيرة تتلخَّص في تسلُّق أحجار العُش المسودَّة التي ترتفع عشرة أقدامٍ لا أكثر، ثم ستجد الغِربان في استقبالك تتساءل إن كنت قد أحضرت معك بعض الذُّرة.

كان بران ينتقل من كرجل إلى آخَر بالسَّلاسة التي علَّمتها إياه الممارَسة الطَّويلة، عندما سمعَ الأصوات.

كانت المفاجأة قويَّةً لدرجة أنه كاد يَسقُط فعلا، فطوال حياته وهو يعلم جيِّدًا أن القلعة الأولى خاوية دائمًا.

كان هناك صَفٌّ من النوافذ تحته، والصَّوت يَخرُج من آخِر نافذةٍ على هذا الجانب، وكانت ثمَّة امرأة تقول: "كلُّ هذا لا يروق لي على الإطلاق.

من المفترَض أن تكون أنت اليَد".

أجابَ صوت رجلٍ بنبرةٍ كسول: "حاشا للآلهة! إنه شرف لا رغبة لديَّ فيه، وعمل أكثر مما أحبُّ أن أمارِس".

تعلَّق بران في مكانه مصغيًا وقد اعتراه الخوف فجأةً من الاستمرار، فمن الوارد أن يلمح أحدهما قدميه وهو يمرُّ بالنَّافذة.

قالت المرأة: "ألا ترى الخطر الذي يضعنا هذا فيه؟ روبرت يُحِبُّ هذا الرجل كأخ".

- "روبرت يكاد لا يهضم أخويه الحقيقيَّين، ولا ألومه في الحقيقة.

ستانيس وحده كفيل بإصابة أيِّ أحدٍ بعُسر الهضم".

- "لا تتظاهَر بالحماقة. ستانيس ورنلي شيء، وإدارد ستارك شيء آخَر تمامًا. روبرت سوف يُصغي لأيِّ شيءٍ يقوله له ستارك... عليهما اللَّعنة معًا! كان ينبغي أن أصرَّ على أن يُنَصِّبك أنت، لكني كنتُ متأكِّدةً من أن ستارك سيَرفُض".

- "ينبغي أن نَعُدَّ أنفسنا محظوظين. كان من الجائز أن يُنَصِّب المَلك أيًّا من أخويه بسُّهولة، أو حتى ذلك المأفون الإصبع الصَّغير. أعطيني أعداءً شُرفاء بدلًا من الطَّموحين، وسيكون نومي ليلًا أكثر راحة".

أدركَ بران أنهما يتكلَّمان عن أبيه، وأرادَ أن يسمع المزيد. بضعة أقدام أخرى... لكنهما سيريانه إذا وثبَ من أمام النَّافذة لا شكَّ.

قالت المرأة: "علينا أن نُراقِبه بحَذر".

أجابها الرجل بصوتٍ ملول: "أفضِّلُ أن أراقبكِ أنتِ. عودي إلى هنا".

- "لم يَحدُث أبدًا أن اهتمَّ اللورد إدارد بأيِّ شيءٍ يجري جَنوب "العُنق"، أبدًا أؤكِّدُ لك. إنه ينوي التحرُّك ضدنا، وإلا فلمِ يَترُك معقل قوَّته؟".

- "لمئة سبب... الواجب، الشَّرف، ولربما يتوق لأن يكتب اسمه بحروفٍ بارزةٍ في كُتب التَّاريخ، أو أنه يريد الفرار من زوجته، أو للسَّببين معًا. لعلَّه يرغب في أن يَشعُر بالدِّفء لمرَّةٍ في حياته".

- "زوجته أخت الليدي آرن. من العجيب أن لايسا لم تكن موجودة هنا لتُحَيِّينا باتِّهاماتها".

نظرَ بران إلى أسفل. كان هناك إفريز ضيِّق أسفل النَّافذة، لا يتَّسع لأكثر من بوصاتٍ معدودة. حاولَ أن يُدَلِّي نفسه نحوه، لكن لا، إنه بعيد جدًّا ولن يستطيع بلوغه أبدًا.

- "إنكِ تقلقين أكثر من اللازم. لايسا آرن ليست إ بقرة خائفة".

- "تلك البقرة الخائفة كانت تُشارِك چون آرن مضجعه".

- "لو كانت تعرف أيَّ شيء، لكانت قد ذهبَت إلى روبرت قبل فرارها من كينجز لاندنج". - "

بعد أن وافقَت بالفعل على أن ينشأ صبيُّها السَّقيم هذا في كاسترلي روك؟ لا أظنُّ، فهي تعرف أن حياة الصَّبي كانت لتُصبِح رهينة صمتها، لكنها قد تصير أكثر جرأةً الآن وهي آمنة على قمَّة "العُش"".

- "يا للأمَّهات!"، قال الرجل بلهجةٍ جعلت الكلمة تبدو كشتيمة. " أعتقدُ أن الولادة تفعل شيئًا ما بعقولكنَّ. كلكنَّ مجنونات حقًّا"، وأطلقَ ضحكةً لاذعةً ثم قال: "دعي الليدي آرن تتجرَّأ قدر ما تريد. أيًّا كان ما تعرفه، أيًّا كان ما تحسب أنها تعرفه، فليس لديها دليل"، وصمتَ لحظةً قبل أن يضيف: "أم أن لديها دليلا؟".

- "

هل تحسب أن المَلك سيحتاج دليلاً؟ أقولُ لك إنه لا يُحِبُّني".

- "وخطأ مَن هذا يا أختي العزيزة؟" تطلَّع بران إلى الإفريز... من الممكن أن يثب إليه... كان أضيق من أن يَنزِل عليه، لكن إذا أمكنه أن يقبض عليه وهو يَمُرُّ به، ثم يدفع نفسه إلى أعلى... مع أن هذا سيُصدِر ضجَّةً تجذبهما إلى النَّافذة. لم يكن متأكِّدًا من معنى ما يُقال، لكنه كان يعرف أنه ليس من المفترَض أن يسمعه.

- "أنت أعمى كروبرت".

- "إذا كنتِ تَقصِدين أني أرى الأشياء نفسها، فما أراه هو رجل يُفَضِّل الموت على خيانة مَلكه."

- "لقد خانَ مَلكًا بالفعل، أم أنك نسيت؟ نعم، لا أنكرُ أنه مُخلص لروبرت، هذا واضح... لكن ماذا سيَحدُث بعد أن يموت روبرت ويَجلِس چوف على العَرش؟ ومن الأفضل أن يَحدُث هذا عمَّا قريب كي نكون جميعًا في أمان. زوجي يزداد ضجرًا مع كلِّ يومٍ يَمُرُّ، ووجود ستارك إلى جانبه سيجعل الأمور أسوأ. إنه ما زال واقعًا في غرام الأخت، تلك الصَّغيرة عديمة اللَّون والطَّعم التي ماتت منذ ستة عشر عامًا. كم من الوقت إذن قبل أن يُقَرِّر أن يطرحني جانبًا من أجل ليانا جديدة؟" كان الخوف قد تملَّك بران تمامًا الآن، ولم يرغب في شيءٍ لحظتها غير العودة من حيث جاءَ والعثور على أخويه الكبيرين. لكن ماذا عساه يقول لهما؟ عليه أن يقترب أكثر، عليه أن يرى المتكلِّمَيْن.

تنهَّد الرجل وقال: "يَجدُر بكِ أن تُفَكِّري أقلَّ في المستقبَل وأكثر في مُتع اللَّحظة".

- "كفى!"، صاحت المرأة، وسمعَ بران صوت لحمٍ يَلطِم لحمًا، ثم ضحكة الرجل تتردَّد.

سحبَ بران نفسه إلى أعلى، وصعدَ فوق الكرجل ثم زحفَ منه إلى السَّطح. كانت هذه هي الطَّريقة الأسهل. تحرَّك فوق السَّطح إلى الكرجل التَّالي الذي يقع فوق نافذة الغُرفة التي يتكلَّمان فيها مباشرةً.

قال الرجل: "كلُّ هذا الكلام أصبحَ مُتعِبًا جدًّا يا أختاه. تعالي هنا واهدئي".

جلسَ بران منفرج السَّاقين فوق الكرجل، وضغطَ ساقيه حوله قدر الإمكان، ثم دلَّى نفسه إلى أسفل بالعكس، فصارَ معلَّقًا من ساقيه حول الكرجل، ثم مَدَّ رأسه إلى أسفل نحو النَّافذة. كان العالم يبدو غريبًا بالمقلوب، وامتدَّت السَّاحة من تحته بشكلٍ يصيب بالدُّوار، والثُّلوج الذَّائبة لا تزال تُبّلِّل حجارتها.

ثم نظرَ بران من النَّافذة.

في داخل الغُرفة كان هناك رجل وامرأة يتصارعان. كان كلاهما عاريًا، ولم يتبيَّن بران من هما. كان ظَهر الرجل إليه، وحجبَ جسده المرأة عن الأنظار وهو يدفعها إلى أعلى قُبالة الحائط. سمعَ بران أصواتًا ناعمةً تَصدُر منهما، وأدركَ أنهما يتبادلان القُبلات. راقبهما بعينين متَّسعتين من الذُّعر غير قادرٍ على التقاط أنفاسه. كان الرجل يضع يدًا بين ساقيها، ولابُدَّ أنه كان يؤلمها في تلك البُقعة، لأنها بدأت تتأوَّه بصوتٍ خفيض وقالت: "توقَّف... توقَّف... آه، أرجوك، توقَّف". لكن صوتها كان ضعيفًا مستسلمًا، ولم تُحاوِل أن تدفعه بعيدًا عنها. دفنَت يديها في شَعره، شَعره الذَّهبي الكثيف، وجذبت وجهه إلى نهدها.

رأى بران وجهها. كانت عيناها مغلقتين وفمها مفتوح تَخرُج منه آهة طويلة، وتأرجحَ شَعرها الذَّهبي من جانبٍ إلى جانبٍ ورأسها يتحرَّك إلى الأمام والخلف، لكن بران تعرَّف على المَلكة.

لابُدَّ أنه أصدرَ صوتًا ما، لأن عينيها انفتحتا عن آخِرهما فجأةً وحدَّقت فيه مباشرةً، ثم صرخَت.

وحدثَ كلُّ شيءٍ في لحظاتٍ معدودة. دفعَت المرأة الرجل بعيدًا بعُنفٍ وهي تصيح وتشير، وحاولَ بران أن يدفع نفسه إلى أعلى وهو ينحني بشدَّةٍ ليَبلُغ الكرجل. كان يتحرَّك بعجلةٍ شديدة، وحكَّت يداه الحَجر الأملس بلا طائل، وانزلقَت ساقاه من فرط ذُعره، ووجدَ نفسه يَسقُط فجأةً. للحظةٍ شعرَ بالدُّوار يكتنفه والرُّؤية تتشوَّش في عينيه وهو يهوي مارًّا بالنَّافذة. ألقى يدًا تتمسَّك بالإفريز لكنه أخطأه، ثم تمسَّك به باليد الأخرى وتأرجحَ بقوَّةٍ على جانب المبنى. طردَت صدمة التوقُّف أنفاسه كلها من صدره، وتدلَّى بران بيدٍ واحدةٍ يلهث.

ثم برزَ الوجهان من النَّافذة من فوقه.

المَلكة... والآن تعرَّف بران على الرجل الواقف إلى جوارها. كانا متشابهَيْن كانعكاسٍ في المرآة.

قالت المرأة بحدَّة: "لقد رآنا".

- "هذا صحيح. " بدأت أصابع بران تنزلق، فتمسَّك بالإفريز بيده الأخرى، وانغرسَت أظفاره في الحَجر الذي لا يلين. مَدَّ الرجل يده إليه قائلا: "أمسك يدي قبل أن تَسقُط".

أطبقَ بران على ذراع الرجل وتمسَّك به بكلِّ ما لديه من قوَّة، فرفعه الرجل إلى الإفريز، بينما قالت هي: "ماذا تفعل؟" تجاهلَها الرجل. كان قويًّا جدًّا، وببساطةٍ أجلسَ بران على عتبة النَّافذة وقال: "كم عُمرك يا فتى؟" أجابَ بران وهو يرتجف راحةً: "سبعة أعوام". كانت أصابعه قد حفرَت أخاديد عميقة في ذراع الرجل، فتخلَّى عنها بخوفٍ مرتبك.

رمقَ الرجل المرأة للحظاتٍ ثم قال بمقت: "يا للأشياء التي أفعلها من أجل الحُب!"، ثم دفعَ بران من النَّافذة.

صارخًا، هوى بران من النَّافذة على ظَهره في الهواء المفتوح. لم يكن هناك أيُّ شيءٍ يتمسَّك به، واندفعَت السَّاحة إلى أعلى لتلتقي به.

وفي مكانٍ ما على مسافةٍ بعيدة تردَّد عُواء ذِئب، بينما حلَّقت الغِربان حول البُرج المكسور في انتظار الذُّرة.

2019/11/28 · 444 مشاهدة · 3206 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024