– ماذا حصل لهذه العائلة؟!

لم أكن أظن أنني سأطرح هذا السؤال يومًا...

"ماذا حصل لعائلتي؟"

السؤال الذي يصرخ الآن في رأسي كلما نظرت إلى الوجوه التي كانت بالأمس عالمي… والآن، بالكاد تذكر من أكون.

كان كل شيء مثاليًا، أو على الأقل، هذا ما اعتدت أن أصدّقه.

كنا عائلة تُضرب بها الأمثال — دوقية فيرشي، عريقة، عظيمة، مهيبة... ومتحابة.

رجالنا نُبلاء، لا يعرفون للجبن وجهًا.

ونساؤنا، حَكيمات، قويات، لا يرضَين الظلم ولا يخرجن من بيت الحكمة.

ووسط هذا المجد، كنت أنا — ابنة دوق فيرشي، آخر أبناء سلالةٍ لم يُعهد منها إلا المجد والنبل.

لكنني لم أكن مجرد وريثة لعائلة فخمة. كنت... محبوبة.

أبي... آه، أبي...

لم يكن فقط دوقًا تهابه المجالس وتخضع له المقاطعات. كان أبي بطلي.

كان أكثر من رجل نبيل، أكثر من أب.

كان الضوء الذي لا ينطفئ في قلبي.

كان يحبني كما لم يحب أحدًا.

يوقظني على صوته العذب، يداعب رأسي بكفّيه الكبيرتين، ويهمس لي:

"كيف ستبتسم الشمس إن لم تبتسمي أنتِ أولاً، كارينا؟"

كان لا ينام إن لم يسمع ضحكتي.

يرفض أن يغلق عينيه إلا وأنا نائمة على صدره، أسمع دقات قلبه كأنها ترتّل لي حكايات الأمان.

أما أمي… فقد كانت ظلًا من الماضي.

رحلت مبكرًا، في صمتٍ غامضٍ لم يفسره أحد.

قالوا لي إنها ماتت مريضة، لكني كنت أرى في أعين الخدم شيئًا آخر… خوفًا؟ أسرارًا؟ لا أعلم.

لكني كنت أعلم شيئًا واحدًا: أبي عوّضني عنها.

أحبني كأنه يحاول أن يمحو ظلمه لي بموتها.

---

وجدتي…

السيدة الجليلة، وقورة الملامح، التي لم أرَها يومًا ترتبك.

كانت تعرف كل شيء. تعرف متى أكون حزينة، ومتى أكون مترددة، ومتى أكون مشوشة.

تلك المرأة… علمتني أن الضعف ليس عيبًا، بل أن القوة الحقيقية هي أن تواجهيه.

كانت تجلسني على مقعدها المفضل أمام المدفأة،

علمتني أن أقرأ، أن أكتب، أن أستمع.

عرفتني على تراتيل العائلة، وعلى أسماء أجدادي، على تاريخ كل تحفة فنية في القصر.

كانت حارس إرثنا… وأنا، كنت مرآتها الصغيرة.

---

وعمّي...

شقيقي، أبي الأصغر، كان لا يزال في بداية شبابه عندما وُلدت.

ولأنه لم يكن يكبرني إلا بأثنى عشر سنة، صار أقرب إلى الأخ والصديق منه إلى العم.

كان يركض خلفي في الممرات الرخامية كطفلٍ طائش.

يلعب معي وكأننا بعمر واحد

وحين أبكي، يقدّم لي قطعة حلوى وهو يتظاهر أنه لم يكن السبب.

لم يكن يرفض لي طلبًا.

كان الوحيد الذي يواجه أبي إذا بكيت.

كنت مدللته كما كنت مدللتهن جميعًا.

---

لكنّ التي كانت تحميني من الليل حين يرتجف قلبي…

كانت مربيتي.

ليست خادمة، ليست وصيفة، كانت أكثر من ذلك.

كانت... أمّي الثانية.

منذ لحظة ولادتي، هي من احتضنتني، من أرضعتني، من غنّت لي حين بكيت، وسهرت حين مرضت.

كانت تعرفني أكثر مما كنت أعرف نفسي.

إذا أصابني كابوس، كانت تظهر في غرفتي قبل أن أصرخ.

وإن جرحت ركبتي، كان صوتها يسبق الطبيب.

كانت الملجأ حين أخاف، والدفء حين أبرد، والحنان حين يجفّ كل شيء.

---

كل شيء كان جميلاً.

كل من كان ينظر إلينا، كان يحسدنا… يقولون: "يا لروعة دوقية فيرشي! كم هي مترابطة، قوية، نظيفة القلوب!"

لكن...

لم يبقَ شيء من هذا.

لا أعرف متى بدأ كل شيء بالانهيار...

هل كان اليوم الذي طرقت فيه خالتي الأرملة باب قصرنا؟

أم اليوم الذي وافق فيه أبي، بقلبه الرحيم، أن يفتح لها غرف أمي؟

أم حين ضحكتُ لها صدقًا... فابتلعتني بنظراتها الباردة؟

بعد مجيئها… تغيّر كل شيء.

---

كلما أتذكره، يبدو وكأنه جحيم… جحيم لا نهاية له.

دخلت حياتنا مثل عاصفة…

خالتي الأرملة.

لم تكن تملك مأوى، ولا ملجأ، بعدما نبذتها عائلة زوجها، تلك العائلة التي لطالما سمعت عنها من أبي… حاقدون، جشعون، كاذبون، كما كان يقولها دائمًا.

أبي… الرجل الذي طالما كرههم، فتح لها باب قصرنا.

لم يكن يحبها… لا، لم يكن الأمر كذلك أبدًا.

لكنها كانت وصية والدتي.

قال يومها:

> "إن كنتُ لا أرحم وصية زوجتي، فمن أكون؟"

فتح لها الغرف… دون أن يطلب إذنًا من أحد.

معها، جاء أبناؤها… طفلان، ما يقارب عمري، شاحبو الوجوه، لا يعرفون ما الابتسام.

منذ أول يوم… بدأ كل شيء يتغير.

---

لم يمضِ وقت طويل، حتى بدأت الأمور تخرج عن السيطرة.

كلما حدثت مشكلة، وُضع اسمي فيها.

كلما انفجر أحدهم، أُشير إليّ.

لا أعرف كيف… ولا لماذا…

لكنني، فجأة، أصبحت "الفتاة المشاكسة"، "الفتاة الحسودة"، "الفتاة التي تغير من أبناء خالتها".

كنت أبكي ليلًا، أراجع تصرفاتي، أبحث عن دليل… هل حقًا فعلت شيئًا؟

لكنني لم أكن أجد شيئًا.

ثم، وقعت الحادثة… حادثة السم.

خالتي تسممت.

في وليمة صغيرة نظّمتها جدتي لأجل المصالحة… سقطت خالتي أرضًا.

الكأس الذي شربت منه، كان مسمومًا.

وفي أقل من ساعة…

قالوا إنني أنا من فعلها.

أنا… الطفلة التي بالكاد تخرج من غرفتها.

قالوا إنني وضعت السم من شدة كراهيتي لها.

قالوا إنني كنت أكره وجودها وأردت طردها.

قالوا… الكثير.

أقسمت… بكيت… توسلت…

لكنهم لم يستمعوا لي.

كانت الأدلة ضدي، كأس الشاي الذي حضرتُه أنا، الكلمات الغاضبة التي قلتها قبل أسبوع، الغرفة التي دخلتها وخرجت منها دون أن يعرفوا لماذا.

حتى أبي… ظل صامتًا طويلًا، ثم قال:

> "حتى لو فعلتِها، أنا أسامحكِ. لا أريد أن أفقدك."

كلماته… جرحتني أكثر مما عزّتني.

كنت أحتاج أن يقول: "أعلم أنك بريئة".

لكنّه قال: "أسامحكِ"…

---

منذ ذلك اليوم، بدأ كل شيء فيّ ينهار.

أصبحت أمرض كثيرًا.

حمّى، تعب، دوار، صداع، آلام متفرقة.

في البداية، خافوا عليّ، اصطحبوني للأطباء، أحضروا أفضل المعالجين.

لكن… بعد أشهر، بدأت همساتهم.

"إنها تتصنّع."

"تريد أن تلفت الأنظار."

"تحاول استعطاف أبيها."

"تمثّل المرض لتُبعد الشبهة عنها."

حتى جدتي، تلك التي ربّتني على الصدق والحكمة… غضبت.

تركت القصر، وسافرت إلى موطنها في الجبال.

قالت لأبي قبل أن ترحل:

> "حين تتخلى عن الحقيقة لأجل الشفقة… تفقد كلاهما."

ولم تعد إلا بعد خمس سنوات.

---

أما عمي… من كان يومًا صديقي، أخي، ظلي…

أصبح شخصًا آخر.

انكمش في زاوية نفسه، بعيدًا، كأنه يهرب من البيت، من الخلافات، من عينيّ.

وفي لحظة هدوء نادرة، تزوّج "أريان"، خطيبته التي طالما حدثني عنها.

لكن زواجه لم يحمل فرحًا.

لا احتفال، لا عزف، لا ضيوف.

عقد بسيط، سري، كما لو أنه يريد أن يختبئ من العالم.

بعدها، ساءت الأمور أكثر.

هو وأريان… يتشاجران.

صراخهما يسمعوها الخدم.

الأطباق تتحطم، الأبواب تُغلق بعنف.

ثم… صمتٌ طويل.

أريان حامل.

فجأة، اختفى كل شيء.

لم يعد عمي عنيفًا، لكنه لم يعد موجودًا أصلًا.

يغيب طوال النهار، ويعود متأخرًا.

تجنب، صمت، هروب.

وحين أواجهه… يقول لي، ببرود:

> "أنتِ السبب… أنتِ لعنة هذا البيت."

---

حتى أبي… تغيّر.

لم يعد ذاك الذي يسهر على ضحكتي.

صار يقول:

> "كارينا… حاولي أن تكوني هادئة. لا تخلقي المشاكل."

كنت أصرخ داخليًا: "أنا لم أفعل شيئًا!"

لكنه لم يعد يسمعني.

---

كل يوم، مشكلة جديدة.

كل أسبوع، صدمة.

كل شهر، حزن جديد.

بدأت أهرب من القصر… إلى شخص واحد فقط.

رون.

صديق طفولتي.

كان يراني، لا يسمع فقط.

يفهم حزني دون أن أتكلم.

يجعلني أضحك… يهدئني… يرسم لي عالمًا خارج جدران القصر.

كنت أعود من لقائه وكأنني خرجت من كهف مظلم.

لكنه لم يغيّر شيئًا.

كان كل شيء حولي… ينهار.

وأسوأ ما في الأمر… أنني بدأت أشعر أنني فعلاً السبب.

ومع هذا…

كنت أعرف… أن الأسوأ لم يأتِ بعد

---

مرت الشهور… والأيام.

أصبحت خلالها مجرد ظلٍ يتجول في أروقة القصر.

لكن ذات يوم… عادت جدتي.

---

عادت، كالإعصار.

لم تدخل بهدوء.

لم تُحيِّ أحدًا.

تجاهلت نظرات الاستغراب، مشاعر الذنب، ومظاهر الحزن الزائف.

دخلت بهيبتها، بشعرها الفيروزي المربوط بدقة خلف رأسها، بعصاها الفضية التي تضرب الأرض وكأنها تصفع كل من خانه ضميره.

صرخت، بقوةٍ أرجفت جدران القصر:

> "كفى!!"

"كلكم… كلكم خذلتموها!"

نظر إليها الجميع في صمت، وجوه خجِلة، وألسنة عاجزة.

لم يسمع أحد صوتًا بعدها.

حتى الرياح التي كانت تضرب النوافذ… سكنت.

دافعت عني كما لم يفعل أحد.

احتضنتني أمامهم، وكأنها تعلن أمام الجميع:

> "هذه حفيدتي… من يمسّها، يمسّني."

في تلك الفترة… هدأت الفوضى.

حلّ نوع من الصمت الثقيل… لا سلام، بل تجميد للألم.

لكن، كما العاصفة… إن هدأت، لا يعني أنها انتهت.

---

لم يمضِ وقتٌ طويل، حتى تصدّعت الجدران من جديد.

جدتي، رغم كل قوتها، لم تعد قادرة على كبح ذلك الغضب المشتعل.

في أحد الأيام… أقفلت غرفتها.

قالت بصوتٍ مرتجف:

> "لم أعد أريد رؤية أحد… أنتم جميعًا خذلتم كل ما بنيته."

ولم تخرج بعدها إلا نادرًا، كأنها انسحبت من الحياة.

---

ثم جاءت الولادة.

أريان، زوجة عمي، وضعت طفلها الأول.

كان المفترض أن يكون هذا يومًا للفرح… للدموع الجميلة، للضحكات المرهقة.

لكن عمي… لم يكن موجودًا.

لم يسأل، لم يزور، لم يهتم.

جلست أريان على السرير، متعبة، دامعة العينين، تنتظر زائرًا لن يأتي.

صرخت، ذات مساء، في بهو القصر:

> "أين هو؟! لماذا لا يأتي؟! أهذا جزاء من منحتك طفلًا؟!"

وأخيرًا، وصل الرد…

بصوتٍ مثلج، خالٍ من كل مشاعر الأبوة:

> "أنتِ طالق!!

لا أريدك… ولا أريد طفلك."

ذهلت.

ذهل الجميع.

تلك الكلمات بقيت تطنّ في أذني لأيام.

سمعتها حتى في أحلامي.

كان عمي… الرجل الذي كان يومًا صديقي، يقول ذلك دون أي تردد.

---

في تلك الليلة، حاولت تهدئة الأمور، ركضت إليه، توسلت، لكن عينيه لم تتوقف عندي لحظة.

قالها ببرودٍ مطلق:

> "لا تظهري أمامي مجددًا."

ثم رحل… وكأنني لم أكن جزءًا من حياته أبدًا.

عدت إلى القصر، لأجد أريان في حالة يرثى لها.

وجهها متورم من البكاء، عيناها مذبوحتان بالحزن.

قالت لي بصوتٍ متهدج:

> "كل هذا بسببك… أنتِ… أنتِ من جلبت اللعنة لهذه العائلة."

كنت أسمع تلك العبارة كثيرًا… لكن من فم أريان، كانت موجعة بشكل خاص.

خرجت.

لم أستطع البقاء.

هربت ككل مرة، إلى "رون"…

جلست عند البحيرة القريبة من مدرّج الحجارة القديم.

حدّثته عن كل شيء، بكيت بين يديه، وهو كالعادة… صامت، يستمع، لا يحكم.

---

لكن حين عدت…

كانت الفاجعة بانتظاري.

"صديقتك… توفيت."

قالتها الخادمة، دون تمهيد.

ركضت إليها، أمسكت كتفها، هززتها:

> "أيّ صديقة؟! من؟! عن ماذا تتكلمين؟!"

قالت… اسمها.

الوحيدة التي كانت تضحك معي في المكتبة.

التي كا

نت تراقبني خلسة حين أتمرن على العزف.

التي خبأت لي الحلوى مرة، حين عاقبوني.

ماتت… فجأة.

قالوا مرض.

قالوا إنها كانت ضعيفة.

لكنني لم أصدق.

---

في تلك اللحظة… أحسست أن شيئًا في داخلي انكسر للأبد.

أدركت، أخيرًا، أنني فقدت شيئًا لا يمكن استعادته.

لم تكن قصتي مجرّد سوء تفاهم…

بل كانت لعنة حقيقية.

---

هل هذا كل شيء؟

لا.

لكن ما لا يعرفه أحد…

هو أن ذلك اليوم… كان بداية النهاية. أو ربما… بداية الحقيقة

2025/09/18 · 3 مشاهدة · 1606 كلمة
Mira Abubkar
نادي الروايات - 2025