كان هناك شخصان في معبد أبولو.
رجل وفتاة.
كانت ليلة القمر الجديد
كانت الفتاة مرمية على جانبها وبالكاد تُرى في الضوء الخافت للنجوم، وقف الرجل ينظر إليها.
كانت تتأوَّه من الألم.
قال الرجل بنبرة باردة: "ناديه، نادي فوغو، استدعيه إلى هنا، اصرخي، وترجيه بأن يأتي لإنقاذك".
لم يكن في صوته ذرة من الشفقة، فقط القسوة والرغبة بالقتل.
لكن الفتاة تأوَّهت فقط، لم تتحرَّك، يداها ورجلاها كانوا ملويين في اتجاهات تمنعها من التحرك، لم تستطع الهرب لوحدها.
قال الرجل: "لا تحاولي قتالي"، لم يكن كلامه تهديداً، بل حقيقة واقعة "إن
مانيك ديبريشن
انطلقت يديه لتقبض على عنق الفتاة، واخترقت أصابعه اللحم تحت الجلد.
ودوت صرختها عبر الظلام.
***
هذه قصة عن أناس غير قادرين على اتخاذ القرارات.
ليست لديهم أهداف للمستقبل، ولا حنين إلى الماضي.
الماضي والمستقبل لا يعنيان شيئاً لهم، هم موجودون في الحاضر فقط، يكافحون بلا فائدة.
أهم يكافحون لإيجاد هدف؟ أم للمضي قدماً؟ أم للانسحاب؟ من يدري؟ لا يمكنهم الإجابة، العالم الذي تخلَّى عنهم لهذا المصير لا يقدم أية إجابات.
هم واثقون من أمر واحد: الأرض تحت أقدامهم تنهار، ولم يعد بإمكانهم الوقوف بثبات.
ليس لديهم غد، ولا وطن، كيف يمكنهم إيجاد الأمل؟ ما الذي قد يدفعهم لتجاوز بؤسهم؟ دعونا نتابع فتى من أولئك الناس. اسمه بيناكوتا فوغو، ينعته بعضهم بالخائن، ويحتقرونه لاعتقادهم بأنه بلا شرف. قراراته ستحدد جريان مصيره.
***
الفصل الأول: "رأيت جمجمة"
مدينة ميلانو، إيطاليا، ملعب سان سيريو، أحد أشهر ملاعب الكرة في العالم.
شيء ما لم يكن على ما يرام، لم تكن هناك ضجة، لطالما كانت هناك ضجة: حشود من الجماهير المتحمسين، وصرخات الباعة المتجولين، والشرطة التي تصارع لحفظ النظام. لا يكون الملعب هادئاً في هذا الوقت من اليوم.
خاصة أن اليوم يوم المباراة، كان من المفترض أن يلعب فريق المدينة المفضل في مواجهة منافسيهم اللدودين أمام حشد هائل من الناس. ومع ذلك، كانت المقاعد ال 80.018 فارغة، لم يكن أحد يلعب، ولا أحد ليشاهد. لم يكن أحد هناك.
لم يكن هناك سوى الصمت المرعب تحت السماء المفتوحة، التي يحلق فيها منطاد ليصور المباراة التي لم تحدث.
على جانب ذلك المنطاد، وبحروف غير مبهرجة، كان مكتوباً: "
سبيدواغون
نظر الطاقم داخل حجرة القيادة إلى الملعب الفارغ بتوتر، تبادلوا النظرات، وأومأوا لبعضهم، ثم تحدث أحدهم عبر الجهاز اللاسلكي قائلاً:
"الملعب فارغ، بإمكانك التقدُّم".
"تلقيت ذلك".
تقدَّم الرجل على الطرف الثاني من المكالمة أمام المقاعد الفارغة، ولوَّح للمنطاد في الأعلى، لمع ضوء دلالة على أنهم رأوه.
قال: "راقبوا بحذر، وإن أصابني أي شيء، غادروا فوراً".
"مفهوم، كن حذراً، غويدو ميستا".
أطفأ ميستا جهاز اللاسلكي ونزل لأسفل الملعب، وأخرج مسدساً من حذاءه الطويل، وصوَّب باحتراف نحو النفق الذي يدخل منه اللاعبون. وقال:
"حسناً، أخرجي، شيلا-أي".
كان صوته منخفضاً، ولكن متَّزناً كمغني أوبرا. ساد الصمت عدة ثوانٍ، ثم خرج شخصان من الظل، كانت حركتاهما بعيدة كلَّ البعد عن نشاط الفريق الرياضي.
أحدهما كان فتاة، اسمها "شيلا-أي" كانت ملامحها تدل على أنها ما تزال يافعة، ولكن عينيها شيآن آخران تماماً، كانتا عيني وحش بري مستعدٍ للانقضاض على فريسته وغرس أسنانه فيها وتمزيقها إرباً إرباً. كان على وجهها عدة ندوب، ولكن لم يبدُ عليها أنها منزعجة منهم.
كانت برفقة فتى، صعد الفتى إلى الملعب بحذر، خافضاً رأسه، اهتز قرطه الذي على شكل فراولة.
عندما صارا على بعد عشرين متراً من ميستا، صرخ هذا الأخير: "توقفا".
توقفا، توقفت شيلا-أي منتصبة القامة كجندي في عرض عسكري، ولكن الفتى انكمش، وأخذ يرتجف. كان ميستا يصوِّب مسدسه نحوه.
كانت أسطوانة المسدس موَّجهة مباشرة نحو وجهه، بين جبينه وشفتيه، نحو الطرف العلوي من قصبة أنفه، بلا تردُّد.
عبس ميستا، وتأمل الفتى ثم قال: "لم أرك منذ وقت طويل".
رفع الفتى رأسه، والتقت عيناه بعيني ميستا الباردتين كالجليد.
قال ميستا: "أخبرني يا فوغو، ماذا كنت تفعل؟".
لم يجب الفتى، يبدو أنه كان عاجزاً عن الكلام.
قال ميستا: "كل ما نعرفه أنك كنت في الأشهر الستة الماضية تعزف على البيانو في حانة، أتجيد العزف على البيانو؟ لم أكن أعرف هذا، مع أننا نعرف بعضنا من مدة طويلة".
".........."
قال ميستا: "أعتقد أن الأولاد الأثرياء يتعلمون العديد من المهارات".
تمتم فوغو بكلام ما.
قال ميستا: "هم؟ ماذا قلت؟ إذا كان لديك كلام ما، قله وحسب".
أمال فوغو شفتيه وصرخ: "لا شيء"، ولكن لم يكن الأمر كذلك، كان يرفض تدخل ميستا في أفكاره.
رفع ميستا حاجبه وأنزله، ثم قال: "حسناً، ألديك ما تقوله لي؟ أيوجد أمر تريد معرفته؟ سأجيب على ما أستطيع".
وقف فوغو صامتاً لدقيقة طويلة، ثم قال أخيراً:
"أهو.. ميت حقاً؟".
كان في عينيه حزن عميق، وعندما رأى ميستا ذلك، عبس والتفت نحو شيلا-أي قائلاً:
"شيلا-أي، سدِّي أذنيكِ".
هزت رأسها بطاعة، وغرست أصابعها في أذنيها بقوة لدرجة أنه كان من الغريب أنهما لم تنزفا. كانت طاعتها للأمر مبالغاً بها، ولكن ميستا لم يهتم بذلك.
التفت نحو فوغو وقال: "إذن فقد سمعت عن موت بوتشاراتي؟".
شحب وجه فوغو، وأخذ يرتجف من رأسه لأخمص قدميه، واصطكت أسنانه، بدا وكأنه قد رُمي نحو عاصفة ثلجية فجأة.
تابع ميستا: "نارانتشا وأباكيو ماتا أيضاً، أتذكر ما قلتَه؟"
لم يجب فوغو.
أكمل ميستا عوضاً عنه: "أنتم لستم واقعيين، لا يمكنكم النجاة بالأفكار المثالية وحدها، لا يمكننا أن ننجو إن خرجنا عن العصابة".
تذكَّر فوغو هذه الكلمات، لن ينسى أبداً الكلمات التي أدت إلى تخليه عن الرجل الذي ظنَّ أنه سيعمل لجانبه طوال حياته.
هل ارتكب خطأً؟ أكان هو غير الواعي بما يحدث حقاً؟
كان هذا السؤال يؤرِّقه كلَّ يوم، والآن، يقف الجواب –أو جزء منه- أمامه، أحد الأشخاص الخمسة الذي تخلَّى عنهم في ذلك اليوم.
سأل فوغو مجدداً: "ميستا.. أهذا صحيح؟".
كان صوته يرتجف، لم يكن سؤاله محدداً، ولكن ميستا ابتسم ابتسامة شاحبة وقال:
"إذن فقد سمعت الإشاعات، ماذا كانت؟".
قال فوغو: "أن.."، توقف ونظر إلى شيلا-أي، لقد أمرها ميستا بسد أذنيها كي لا تسمع كلامهما، احتاج إلى جهد كبير ليتابع كلامه: "سمعت بأن الرئيس أظهر نفسه أخيراً، وبأن اسمه.."
تساءل ميستا: "ما اسمه؟".
تابع فوغو: "اسمه جورنو جوفانا، قالوا إن رئيس
باشيوني
قال فوغو: "نعم، ولكنك تعلم أن كلَّ ذلك كذب، فقد كنت معنا قبل أن تقع المصائب كلها".
كان مسدس ميستا ما يزال مصوباً نحو رأس فوغو، تابع ميستا: "لقد كنت معنا قبل أن يقتل ديافولو –الرئيس الحقيقي- بوتشاراتي والآخرين".
شعر فوغو بأن حلقه جاف، ولكنه لم يجرؤ على بلع ريقه.
تابع ميستا: "انضم جورنو للعصابة ليقضي على الرئيس ويأخذ مكانه، وكان بوتشاراتي يساعده طوال الوقت، منطقي أليس كذلك؟ من اللحظة التي انضم فيها جورنو للفريق لم يكن مجرد مبتدئ، وكان بوتشاراتي يعامله بثقة ، ولكن الحقيقة أن.. بوتشاراتي كان يعمل لصالح جورنو. هذا ما شعرتُ به على كل حال، كان مستعداً للتضحية بحياته من أجل حلم جورنو، وقد فعل ذلك، آخذاً ديافولو معه".
"........"
أكمل ميستا: "تصرَّف جورنو بسرعة وكفاءة وقوَّى نفوذه، وكانت هذه القصة الجميلة التي سمعتها، أليس كذلك؟".
أجاب فوغو: "بلى.. أسطورة أمير العصابات الذي سينظف العالم السفلي. ويقولون إنك الرجل رقم اثنين في منظمته يا ميستا".
صحَّح ميستا: "على مهلك، هذا غير صحيح، الناس يتصورون الرجل المسلح على أنه اليد اليمنى، ولكن الرقم اثنين الحقيقي هنا هو بولناريف، أنا الرقم ثلاثة، فكِّر بالأمر: الرقم اثنان مرتين يعني أربعة، ورقم أربعة يعني الحظ السيء. لا أريد الاقتراب من ذلك، رقم ثلاثة أكثر أماناً بكثير.
تخففت لهجة ميستا من بعض شدتها.
تساءل فوغو: "بولناريف؟ هذا اسم فرنسي..".
قال ميستا: "أنت لم تقابله، ولن يفيدك اسمه في شيء، ولن تجد أي بيانات عنه".
"......"
واضحٌ أنَّ كلُّ ما سبق كان معلومات سرية للغاية، وهذا ما جعل فوغو يتساءل مجدداً عن سبب وجوده هناك.
كان كلُّ ذلك كثيراً عليه، القضاء على الرئيس وأخذ مكانه؟ هذا جنون. لهذا السبب ترك فريق بوتشاراتي.
ثم وجدته شيلا-أي في الليلة الماضية، لقد أرسلتها
باشيوني
فكَّر فوغو: "قوتهم تفوق ما كان يحلم به الرئيس القديم بامتلاكه".
قبل ستة أشهر، كانت منظمة
باشيوني
لكن ليس هذا.
استدعاؤه إلى ملعب كرة القدم الضخم هذا يعني إبعاد عشرات الآلاف من المشجعين المتحمسين، وتأجيل موعد المباراة ناهيك عن مواعيد البث في التلفاز عبر العالم. هذا يتطلب قوة تفوق قوة رؤساء الدول ونفوذ
باشيوني
سبيدواغون
"أنا.. ماذا يمكن أن يكون غير ذلك؟".
شعر فوغو بعيني ميستا تتفحصانه، وشيلا-أي كانت تراقبه أيضاً.
سأل ميستا: "فوغو! ما رأيك؟ هل تعتبر نفسك خائناً؟ هل تخلَّيت بقسوة عن بوتشاراتي في الوقت الذي احتاجك فيه؟ هل يبقيك الشعور بالذنب مستيقظاً طوال الليل؟".
"......"
تابع ميستا: "عليَّ أن أعترف بأنك ربما كنت على حق، أعني، بوتشاراتي مات، أنت لم تأتِ معنا ولهذا نجوت، أنا نجوت لأنني شخص ذو حظ خارق ولدت تحت نجمة مباركة. ولكن أنت لست كذلك، لم تكن لتنجو في المعركة المجنونة التي وقعت بين ديافولو وجورنو. وقد كنتَ ذكياً بما يكفي لتدرك ذلك قبل حدوثه".
"......"
تابع ميستا: "نحن متفقان حتى الآن، ولكن السؤال الآن: ما الذي تنوي فعله؟".
"....."
عندما لم يقل فوغو شيئاً، أشار ميستا لشيلا-أي بأن تخرج أصابعها من أذنيها. استجابت شيلا-أي للأمر ووقفت على أهبة الاستعداد للقتال في أي لحظة.
قال ميستا بهدوء: "فوغو، أظهر لنا الستاند الخاص بك".
برقت عينا شيلا-أي كالخناجر، وازداد وجه فوغو شحوباً.
كرَّر ميستا: "أظهر لنا
بيربل هيز
صرَّ فوغو أسنانه، ولكنه نفَّذ ما طُلب منه. بدا جسد فوغو ضبابياً، ثمَّ مزدوجاً، ثمَّ تقدَّم النصف الضبابي منه إلى الأمام. كأن روحه قد تحرَّرت من جسمه، وأخذت تتحرك من تلقاء نفسها، أو كأن جزءاً من شخصيته قد حصل على شكل. هذا هو
الستاند
كان خليطاً من الإنسان والزومبي، عيناه جاحظتان ومحتقنتان بالدم. وقد أطلق عليه فوغو اسم
بيربل هيز
إنه جانب آخر من فوغو، قوة له وحده، وإحدى أكثر القوى المخيفة في العالم أجمع.
"جررررر...."
صرَّ بيربل هيز أسنانه على نحو مزعج، وسال لعابه من على ذقته.
كان فوغو يكره النظر إليه، لقد كان مرعباً، بل مريعاً.
ولكن ميستا لم يطرف له جفن. بل قال بهدوء مع استمراره بالتصويب نحو هدفه:
"إذن يا فوغو، أنت تعلم لِمَ استدعيناك إلى هذا المكان في منتصف النهار أليس كذلك؟".
لم يجب فوغو.
تابع ميستا: "فوغو، الستاند الخاص بك خطر جداً، الفيروس الذي ينشره سيذيب أي مخلوق يصيبه، سيذيبه حتى الموت، ولا توجد وسيلة للسيطرة عليه. إنَّه العشوائية والتوحش ونية القتل متجسدين.
بقي فوغو صامتاً.
"ولكني أعرف أن هذا الفيروس لا يحب الضوء، وأن نطاق انتشاره لا يتجاوز الخمسة أمتار. وأنت تعرف أني أعرف".
قال فوغو: "صحيح".
"وبالتالي، في هذا المكان وهذا الطقس ومن هذه المسافة، لا يمكن
لبيربل هيز
سيكس بيستولس".
كان المسدس الذي يحمله ميستا مسدساً عادياً ملقَّماً برصاصات عادية، ولكن فوغو استطاع أن يرى أشياء صغيرة تسبح في الهواء بين الرصاصات، مثل جنيات صغيرة مشاكسة.
هذا هو ستاند ميستا، الرصاصات التي يطلقها تسير في الطرق غير المتوقعة، متجاوزة كل الدفاعات، ومصيبة أكثر المناطق حيوية.
بإمكان فوغو أن ينشر الفيروس بالقدر الذي يريد، ولكن ميستا على بعد عشرين متراً، لن يصله أبداً، في هذا الملعب المفتوح على أشعة الشمس سيختفي الفيروس قبل أن يلحق أي ضرر.
لن يتضرر أحد من هجوم كهذا سوى فوغو، سيموت بكل تأكيد.
والفتاة..
شعر فوغو بعيني شيلا-أي تخترقان ظهره، كانت كبش فداء، إن قام بأي عمل غير متوقع، سترمي بنفسها عليه، إنها على علم بأن الفيروس سيصيبها ويقتلها ولكنها لن تتردد بالتضحية بحياتها. عرف أنها كذلك من اللحظة التي التقت عيناهما لأول مرة.
لم يكن ثمة من مهرب.
قال فوغو: "أعرف يا ميستا.." كان بإمكانه سمع صوته يرتجف، ولكنه أجبر نفسه على المتابعة: " لو كنت تريد قتلي، لكنتُ ميتاً منذ وقت طويل".
رفع ميستا حاجبه متعجباً: "أوه..؟ هذا ليس طبعك يا فوغو، عندما كنت تقع في موقف حرج كنت تفقد صوابك وكان يجن جنونك".
"....."
"أعترف بأنني كنتُ مرتاحاً عندما لم تتبع بوتشارتي، تصور أن تفقد صوابك في لحظة ما وتنشر ذلك الفيروس في كلِّ مكان، كنا سنموت جميعاً، سيكون ذلك غبياً، أليس كذلك؟".
من الواضح أن ميستا كان يستفز فوغو، الذي فكر: "إنه يفعل ذلك عمداً، يحاول أن يثير غضبي ويدفعني لمقاتلته، ممَّا سيمنحه ذريعة للإطلاق عليَّ، وهو واثق من أنه سيتمكن من قتلي قبل أن أؤذي شيلا-أي".
في تلك اللحظة أصبح فوغو واثقاً من سبب استدعائه إلى ذلك المكان.
أخذ نفساً عميقاً، وقال:
"ليس في كل مكان".
"هه؟".
"لا يمكنني نشر الفيروس في كل مكان، فقط ستَّ مرَّات، توجد ستُّ كبسولات فقط على يدي
بيربل هيز
عبس ميستا، كان فوغو هادئاً، لقد تحسن فيما يبدو. سأله:
"سأسألك من جديد، فوغو، ما الذي تفكر به الآن؟".
أجابه فوغو: "أنا لم أخن
باشيوني
أمال ميستا شفتيه جانباً وقال: "فهمت، هذه الكلمات مختارة بعناية. لطالما كنتَ ذكياً، تعرف ما عيك فعله، أليس كذلك؟ عليك إثبات ولائك لجورنو".
"إثبات..؟".
"لتثبت أنك لست عدواً لنا، اذهب واقتل عدواً لنا. إن لم تستطع، سوف نقتلك".
لم يكن هناك خداع في كلامه، لم يكن تهديداً فارغاً، ولا تباهياً. كان الحقيقة بكل بساطة.
كان أمراً ألقاه شخص يمتلك السلطة، قبل ستة أشهر فقط كلاهما كانا مجرَّد صعلوكين برتبة منخفضة، لم يكن مخيفاً هكذا، الهوة بينهما غدت هائلة.
كادت أسنانه تصطك، ولكنه أجبر نفسه على التماسك، شعر بأنه ضفدع يتجمد من نظرات أفعى متربصة. ولكنه حصل على تأجيل لإعدامه على الأقل.
كان من المفترض أن يشعر بالراحة، ولكن على العكس، كان منحرف المزاج. انفجر شعور بالمرارة في داخله، ومع ذلك كان عليه أن يكظمه.
"جررررررر".
زمجر بيربل هيز فجأة، أخرج صوته فوغو من أفكاره.
قال ميستا عابساً: "يكفي، أرجعه".
ترك فوغو ازدواجه ينسحب إلى داخله.
تذمرت شيلا-أي قائلة: "ألا يمكنك إبقاؤه هادئاً حتى؟ أليس لديك ضبط للنفس على الإطلاق؟".
لم يكن فوغو ليجادلها في ذلك.
قال ميستا: "لا تبدآ بالشجار، ستعملان معاً".
لمعت عينا فوغو وتساءل: "سنعمل؟".
"وليس أنتما فقط، ستحصلان على بعض المساعدة، لا يمكنكما القضاء على أولئك الأشخاص لوحدكما".
"أولئك الأشخاص؟".
"هدفك شخص واحد، ولكن لديه فريق يحميه"
التقت نظراتهما، وعرف فوغو من عيني ميستا كل شيء، هذا الهدف يعني مهمة، سرت قشعريرة في عموده الفقري.
قال: "إن كان لديه فريق، فهو..".
هز ميستا رأسه:
"بقايا من باشيوني القديمة، فريق المخدرات".
***
في نفس الوقت تقريبا، في مستودع في أطراف فيلا سان جيوفاني (وهي بلدة صغيرة على مضيق ميسينا) كانت الأحداث قد بدأت بالفعل.
ترددت صرخات رجل داخل الغرفة المضاءة بضوء خافت.
وقف أمامه فتى بخدين غائرين وعينين كبيرتين جاحظتين، كان مغطى بالجروح العميقة من رأسه لأخمص قدميه، حتى على جفنيه وشفتيه.
لم تكن جروحاً قديمة، معظمها جديدة ومتقرحة، بكل تدرجات الألوان الشنيعة.
حتى في تلك اللحظة، كان الفتى يحفر جرحاً غائراً في خده باستعمال بخنجر.
"غي غي غي غي غي!"
صرخ الفتى محاكياً الصوت الذي تخيله مناسباً لعملية التقطيع، كانت عيناه غائرتين وبدا حياً بالكاد.
بعد أن انهى جرح نفسه بدأ يغمغم على نحو متقطع:
"إن الإنسان المتحضر.. غير كامل. كلُّ ذلك الهراء.. غير كافٍ. لا أقصد التغذية أو اللياقة البدنية.. ما أقصده.. أنه مقارنة بالإنسان البدائي، هناك شيء.. شيء في الحياة المعاصرة اليومية.. غير موجود!".
فجأة صدر صوت فرقعة من حلقه وتطاير شيء من داخله، وسعل قطعة من الجلد من الجرح المتقرح.
"فهم مثلاً يقولون بأنهم لا يشعرون بأنهم على قيد الحياة، أنا جاد، لست أمزح، كلامي
جدييييي جداااااً
أخذ الدم يسيل من جانبي فمه، ولكن الفتى لم يعره اهتماماً.
"ماذا إذن؟ هذه هي المشكلة الرئيسية: عندما لا يكون لدى الكائن الحي ما يكفي من قوة الحياة، سوف ينقرض! لا أعرف إن كان أحدهم قد قال هذا الهراء، ولكن لا شك بأن أحداً قاله، وأنا.. عليَّ أن أتجنب ذلك، عليَّ أن أشعر بأني على قيد الحياة، لذا..."
أخذ يجرح نفسه من جديد.
"الألم هو الحقيقة، إنه ما يبعث الحياة فيَّ! بدونه سوف أنقرض.. و.. وأنا لا أريد أن أنقرض...
"....."
"هم؟ إذن.. ماذا كان اسمك؟ أكان هاري؟ هاري؟ لا، سالي؟ شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟".
كانت لهجته ودية وكأنه يخاطب صديقاً قديماً.
كان الرجل الذي اسمه سالي، مغطى بالعرق، وكانت جبهته متجعدة بسبب التوتر. كانت لحظات حرجة له.
كان هو الآخر عضواً
باشيوني
"ولكن اسم سالي مليح جداً! هل فهمتها؟ لأن سالي يعني الملح! (بالإيطالية)
هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها
ضحك الفتى بشدة لدرجة أنه أخذ يلهث ليلتقط أنفاسه، ولكن عندما لاحظ بأن سالي لم يكن يضحك، تلاشت ضحكاته.
تذمر قائلاً: "أنت، أنا أحادثك، وعندما يتحدث إليك فيتوريو كاتالادي، يُستحسن ألا تتجاهله. مهلاً.. ألا تعرف آداب السلوك؟"
"....."
"
مرحباً
"...."
"أم لديك اعتراض؟ إذا كان لديك اعتراض فأرني.. أرني
الستاند
كرافت ورك
كان سالي أكبر من فيتوريو بسنوات، ولكن الكفة كانت راجحة لفيتوريو بكل وضوح.
"....."
كان كلُّ شيء في الفتى يجعل كلَّ شعرة من سالي تقف. لقد مرَّ بكثير من المواقف الصعبة -حتى إنه قاتل ميستا وعاش ليروي ذلك- ولكنه لم يشعر بكل هذا الخوف من قبل.
كانت عينا الفتى الكبيرتان المجنونتان تحدقان به.
رغم كلِّ كلامه عن الإنسان والحضارة، إلا أنَّ عيني الفتى تثبتان أنه بلا مستقبل.
لم يكن هناك بريق فيهما، لا حلم، ولا أمل، ولا شغف. ما تفوه به كان مجرد كلام حقود.
أهو حقاً عضو في فريق المخدرات؟
كان تصديق ذلك صعباً على سالي، كان فريق المخدرات الفريق الذي يحلم الجميع بالانضمام إليه في
باشيوني
إلا أن هذا الفتى ضيق الأفق وغافل وغير متعلم، قد يزعجه أي أمر. و...
أبعد سالي نظره عن فيتوريو، كان هناك شخص ثالث في الغرفة: فتاة جلست في الزاوية، وبالكاد تتحرك بما يكفي لتدل على أنها حية تتنفس.
كان وجهها شاحباً على نحو مروع، أما شفتاها، فقد كان اللون الأحمر ظاهراً عليهما بالكاد.
كان الظلام يحجبها ولكنه رأى عينيها المحدقتين في الفراغ، وكانت تدندن أغنية بصوت خفيض بالكاد أمكنه سماعه.
"لا، لا لا...لا لا لا، لا لا، لا...."
كانت أغنية صقلية شهرية (رأيت جمجمة)Vitti 'na crozza) ) كان من المفترض أن تكون أغنية سريعة ومبتهحة، ولكنها كانت تغنيها ببطء وعلى نحو متقطع.
ما تزال فتاة يافعة، تناثر شعرها الطويل على الأرض، كان طويلاً جداً وكأنها نسيت أن تقصه، أو نسيت أن بإمكانها ذلك. كانت جالسة على الأرض، نحيلة وذابلة، يرتجف عنقها النحيل تحت ثقل رأسها، بدا وكأنه سيتحطم في أية لحظة.
"لا، لا لا، لاي لو لاي لا، لا لا.."
كان اسمها أنجيلكا أتاناسيو، وكان اسم الستاند الخاص بها
نايت بيرد فلاينغ
حدَّق سالي في أنجليكا بكلِّ قوَّته، ولكنها تجاهلته، ليس من باب الاستهزاء، بل لأنها لم تكن واعية بوجوده بكل بساطة.
سال لعابها حتى ذقنها، كان هناك دماء فيه، كانت تنزف من فمها، من الواضح أنها مدمنة على المخدرات.
لكن الحقيقة التي أثارت غضب سالي، أن هذا الفتى بلا مستقبل، وهذه الفتاة المدمنة التي لن تعيش طويلاً... هذان الشخصان المثيران للشفقة قد حاصراه في الزاوية.
عضَّ شفته بقوة حتى نزفت، ولكنه لم يشعر بالألم، ليس لأنه كان غاضباً جداً لدرجة أفقدته الشعور بالألم، بل لأنه واقع تحت تأثير
نايت بيرد فلاينغ
شعر بالأرض ترتجف تحت قدميه، بذلك كل جهده ليقف، شعر بالدوار، ولكن الدوار لم يتلاشَ ولم يعد إليه إحساسه بالتوازن. لا يستطيع القيام بأي من خدعه المعتادة.
إذن فالخيار الوحيد له هو الهجوم المباشر، حدَّق في فيتوريو الذي كان يعاود جرح نفسه مصدراً أصواته:
"كي كيييي، كي كي كي كي كي، كي!"
كان نصل خنجره عاكساً كمرآة، رأى سالي صورته منعكسة عليه.
راقب سالي الخنجر مفكراً: "مثل أن ميستا متخصص في استعمال المسدس، فإن فيتوريو متخصص باستعمال الخنجر. ولكن في معركة بين ستاند وآخر لا فائدة من خنجر عادي.. إذن ماذا قد تكون قدرته السرية؟"
لدى ستاند سالي
كرافت ورك
فكر سالي: "صحيح... ليس لدي ما أخشاه!".
كان قد فقد القدرة على اتخاذ القرارات العقلانية، لقد نجى حتى ذلك الوقت عن طريق إدراكه لحدود قدرات الستاند الخاص به والهرب في المواقف الخطرة. ولكنه أخفق هذه المرة.
"لا، لا لا، لاي لا لاي لا، لاي لا لا لا..."
لقد صار مثل أنجليكا غير قادر على التفكير.
توقف فيتوريو عن جرح نفسه، ونظر له ببرود قائلاً:
"هيَّا تقدَّم. الستاند الخاص بك، والآخر الخاص بي
دولي داجر
في اللحظة التي خرج فيها نصل الخنجر من جسد الفتى، ركض سالي للأمام.
إن حاول فيتوريو طعنه، فإن سالي لن يتجنبه، بل سيثبت الخنجر في مكانه، ثم يثبت جسد الفتى.
ولكن الخنجر لم يتوجه نحوه مع أنه صار قريباً منه.
لم يتحرك الفتى ويهاجمه بالخنجر، بل لم يتحرك على الإطلاق. وقف في مكانه وحسب، منتظراً، لم يحاول الدفاع حتى، كان ذلك غريباً وغير طبيعي، ولكن لم يعد بإمكان سالي التوقف، عليه أن يكمل.. وهذا ما فعله، ضارباً يده بقوة في صدر فيتوريو الأعزل.
لقد ثبَّت قلب الفتى، مما سيقتله على الفور. لا مفر له.
لقد انتصر.. أو هذا ما اعتقده.
...ارتفعت رجل الفتى.. وركلته.
طار سالي وتدحرج على الأرض.
فكَّر: "هذا مستحيل"، لقد ضرب صدر الفتى! نظر إليه، كان فيتوريو قابضاً على صدره ويتلوى من الألم.
تأوَّه وسال العرق من على جبهته، ولكن كان من المفترض أن يكون ميتاً.
تساءل سالي متعجباً: "كيف؟".
ثمَّ لاحظ شيئاً مغرقاً في الغرابة.
كان شيء يطفو في الهواء بينهما، شيءٌ ضارب إلى الحمرة، ويبدو.. لزجاً كاللحم. كعضو حيوي... صغير ومكتنز ومتكور. لقد عرفه سالي.
إنه قلب...
قلب منتزع من صدر أحدهم، ومثبت في الهواء... ولكن... قلب من؟
فجأة أصبح رأس سالي ثقيلاً، لقد فقد القدرة على رفعه، وجره ثقل رأسه إلى أسفل... ليرى فتحة كبيرة في صدره.
لقد انعكس هجوم سالي عليه، ولكن لم يعد لديه وقت ليتساءل عن السبب، فبدون قلب ينبض في داخله، أخذ جسده يتضور جوعاً للدم، وتلاشى وعيه تدريجياً ليزول إلى الأبد.
سقط قلب سالي على الأرض محدثاً ضجة، بعد أن تحرَّر من القوة التي كانت تثبته.
صرخ فيتوريو وسقط على الأرض متلوياً من الألم.
صرخ منادياً أحداً خارج غرفة المستودع: "ماسيمو! ساعدني! ماسيمو!".
انفح باب المستودع وانسكب الضوء عليه، ودخل رجل طويل القامة.
كان يجر شيئاً بدا وكأنه صفيحة بلاسيكية، ولكنه ألقاه عندما رأى فيتوريو.
قال الرجل: "هل قمت بعمل مجنون مرة ثانية؟"، كان صوته كصفير الرياح عندما تعبر عبر صدع في جدار.
"أسرع! قلبي! لا ينبض تماماً! لقد توقف.. ثلاثون بالمئة منه متوقف!".
"كم مرة عليَّ أن أحذرك فيتوريو؟ إن
دولي داجر
اقترب الرجل الطويل من الفتى بينما هو يقول ذلك، وضربه بقوة على صدره، سقط فيتوريو على الأرض، وانفجرت أنجليكا بالضحك بهستيريا.
قال فيتوريو وهو ينهض: "بربك، خذ الأمور ببساطة!"، لم يعد يتألم، لقد عادت وظائفه الحيوية لطبيعتها عندما لمسه الرجل.
تجاهله الرجل، ومشى نحو أنجليكا.
سألها: "أهذا كلُّ شيء؟".
أومأت برأسها قائلة: "لا يوجد أحد آخر حولنا، لا أحد على الإطلاق، لا أحد يراقبنا".
ثمَّ أشارت إلى الشيء البلاستيكي الذي رماه جانباً وقالت:
"باستثناء هذا".
همهم الرجل ونظر إليه.
قال فيتوريو: "أوه، أهذا هو زوكيرو؟ سمعت بأن بإمكانه تفريغ الأشياء من الهواء".
اقترب منه ليلقي نظرة فاحصة، بدا عن قرب كبالون على شكل رجل مفرغ من الهواء.. وكان يرتعش.
"لا تستطيع استعمال قوتك على نفسك في أغلب الأوقات، ولكن هذا الرجل يستطيع".
"أجل، وعندما يكون مسطحاً هكذا يمكنه الانزلاق عبر الفتحات الضيقة، والاقتراب من الأهداف. وهكذا استطاع هو وسالي الاقتراب منا".
"ها ها ها، حظهما سيء! لدينا أنجليكا، لا يمكن لأحد التسلل نحونا".
داس فيتوريو على الرجل المسطح ماسحاً قدمه به.
"مقرف! إنه ينبض".
نظر الرجل الطويل إلى خصمه المهزوم نظرة خالية من العواطف. وقال: "إن قلبه يستمر بالنبض حتى عندما يكون مفرغاً من الهواء. ولكن الستاند الخاص بي
مانيك ديبرشن
اسم هذا الرجل ماسيمو فولبي، إنه خطير جداً لدرجة أنه على رأس القائمة السوداء لجورنو جوفانا. وجوده مشكلة لدرجة أنه يمكن السماح لباقي فريقه بالفرار مقابل أن يتم القضاء عليه.
ولكنه يبدو شخصاً هادئاً، شخص لا يثير في انطباعاً قوياً في النفس.
إنه إيطالي، لكن بنيته العضلية تجعله يبدو ايرلندياً، أنفه رفيع وكذلك عيناه وحاجباه.
تابع فيتوريو العبث ببقايا زوكيرو وهو يقول:
"إذن فهو لا يستطيع إعادة نفسه للوضع الطبيعي، ولكننا لن نستطيع تعذيبه، هل يمكنه التحدث وهو هكذا؟".
"من يدري.. لا مفر له الآن".
"يا رجل، كم الستاند الخاص بك
مانيك ديبرشن
دخل العضو الأخير من الفريق إلى الغرفة. رجل عجوز.
قال: "تياً يا ماسيمو. ألم أخبرك ألا تقاتل إلا عند الضرورة القصوى؟ أنا وفيتوريو يمكننا التعامل مع الحثالة. عليك أن تتركنا نحميك وأنجيلكا".
كان وجه العجوز مغطى بالتجاعيد، ولكن ظهره مستقيم، وحركاته نشيطة.
قالت أنجيلكا: "أوه، كوكاغي!"، ولوحت بسعادة له. وفركت وجهها على فخذه مثل قطة تحيي صاحبها.
ربَّت على رأسها بلطف، ولكنه لم يحول ناظريه عن ماسيمو.
"أتسمعني يا ماسيمو؟ أنت قلب الفريق، نحن موجودون فقط من أجلك".
أجاب ماسيمو: "ولكنك القائد يا فلاديمير، أنا أنفِّذ ما تقوله وحسب".
كان كلام ماسيمو خالياً من العواطف، يبدو أنهما قد خاضا هذا الجدال من قبل.
تنهد فلاديمير كوكاغي قائلاً: "أنت لا ترى ذلك، يمكنك أن تحكم العالم بهذا الستاند الذي تملكه. يمكنك أن تتربع على أعلى قمة فوق جميع البشر".
"وأنت أيضاً، لا يمكن لأحد هزيمة
رايني داي دريم آوي
"أووه، أوه، وأنا؟ الستاند الخاص بي
دولي داجر
"ها ها ها ها ها ها! كلنا رائعون!".
عقلية جبارة في جسد هرم، ورجل بلا عواطف، وفتى مجنون، وفتاة مدمنة، هذا هو فريق المخدرات الذي تبحث عنه منظمة
باشيوني