2 - بترا مدينة الخوف(إعادة رفع الفصل الأول)

مدينة الخوف بترا

و كأنها مدينة الهلاك...عاشوا لسنواتٍ طوال لا يعرف مداها، يتحملون ما لا يتحمله غيرهم من قسوة هذه اليابسة الملعونة، أشجارُها عاليةٌ بلا أوراق، يتدلى من كل فروعها طائر اليرسوع، هذا الطائر ذو العينين المخيفتين و الحوافر القاطعة و الريش المتساقط، أشجارُ لا تخرج ثماراً بل هي أقرب إلى الصخور لا نبت فيها إلا على جبل ماخان، هذا الجبل الفسيح الشاهق نادر الأمطار، مدينة واسعة ممتدة الأطراف بها الآلاف من السّادون.. انها بترا مدينة الخوف كما سميت من أهالي ممالك السبعين باباً.

أخذ من تبقى معه بعد ما لاقاه من كوبر و فرسانه متجهًا نحوها، ليس أمامه سوى هي او الهلاك المحقق وسط الصحراء القاحلة التي ليس بها سوى الموت، كان شماخ يرى أن الموت يحصد الكثير من الشّاروس أمام عينيه دون أن يستطيع أن يفعل شيئا، ليس أمامه حل آخر سوى التقدم نحو بترا مقرهم الوحيد، يسير بلا توقف غير مكترث لمن يسقط بجانبه أو من خلفه، لا يكترث الا لحبيبته ديمانا والفتاة التي أتت معها و لا يعلم عنها شيئا....هجانا مالوم زيراخ ذات الملامح الرقيقة و البشرة الناعمة والقلب الطيب، و كان كلما غاب ضوء السماء أخذ ديمانا بين ذراعيه خشية أن يهاجمها وحوش صحراء السراب الأحمر، رغم شراسته العاتية فهو يحنو عليها كما تحنو السباع على أشبالها، بمجرد أن يأخذها بين ذراعيه يتحول فوراً إلى شماخ بطاي الفارس النبيل من مملكة يازوم، لا إلى شماخ بطاي قائد الشاروس المرعب، هي الوحيدة القادرة على أن تعيده إلى ما كان عليه، كان يعلم ذلك جيداً؛ مما جعله يخاف على نفسه و يصر على ألا تفارقه بعد ذلك أبداً.

كان كلماً اقترب من بترا زاد خوفه؛ فالشاروس منهكون وهم في تناقص مستمر، و الموت يحصدهم حصداً، اقترب من باب المدينة العتيق ذي الأسوار العالية و كأنها جبال، كان يعلم أن أي نزال بينه و بين السادون لن يكون في صالحه لعوامل كثيرة، أخذ يفكر في الظلام و هو ينظر نحو الفضاء الفسيح، كيف تكون خطة هجوم و كيف يدخل بترا منتصراً وهي المدينة التي لم يدخلها أحد غير السادون على مدى تاريخها الطويل، أخذ يتذكر كيف كان يدير الحروب وقتما كان الفارس الأول في مملكة يازوم، كيف كانت عبقريته في خداع خصمه، اعتدل في جلسته ثم أخذ يدبر خطة النجاة.

(البوابة هي مفتاح النصر) هكذا قال لنفسه، بعد أن سطع ضوء السماء على تلك الصحاري الفسيحة ذات الألوان الكثيرة، والتي يغلب فيها اللون الأحمر، أمر كشّار بأن يأتي معه ليصعدا أعلى أحد المرتفعات بالقرب من بوابة بترا؛ ليراقب تحركاتهم و يعرف أسرارهم، نظرت له وهي تودعه قائلة:

-كن حذراً يا شماخ فليس لي غيرك

-لا تخافي علي يا عزيزتي ديمانا، فمثلي تخشاه المهالك

-أعلم يا شماخ ولكنني بدونك أخشى كل شيء حتى الهواء في أنفي و الضوء في عيني

توّجه مسرعاً برفقة مساعده كشّار نحو أعلى قمة بالقرب من البوابة ليرى كيف تسير الأمور هناك، صعداً معًا بعد طول معاناة وأخذا ينظران إلى هذه البوابة المهيبة التي تعد المدخل الوحيد للمدينة، فالجبال الوحيدة تحيط ببترا من كل الجوانب، ظلا يرقبان كل تلك التحركات بلا كلل، يعرف مدى شراسة السادون و يتذكر جيداً تلك القصص التي كانت تروى له عن الحروب الطويلة التي دارت بين الشاروس والسادون، تلك الحروب التي امتدت لآلاف السنين، كان النصر فيها سجالاً بينهم، أخذ يتذكر تلك الحكاية التي حكاها له كشّار من قبل، عن واحدة من أكبر المعارك التي دارت بين الشاروس و السادون منذ ألف عام و كانت الغلبة فيها للشاروس، تلك الحرب التي قتل فيها مورجوان قائد السادون على يد رآف قائد الشاروس، ولكن تلك الحرب التي حكى له عنها كانت في وسط صحاري السراب الأحمر موطن الشاروس وليس بترا مدينة الخوف، علم ان الحرب أمر حتمي لا بديل له إلا الموت و الهلاك وسط تلك الصحاري الجافة، كما يعلم جيداً قوة طوان قائد السادون الحالي، أنه اشبه بوحش الجحيم التي كانوا يسمعون عنها وهم صغار؛ ضخم الجثة بشكل كبير، عنيد و شرس، فرسه و سلاحه يرهبان أي فارس ينظرون إليه.

قضى يوماً طويلاً في المراقبة بمرافقة كشًار فعرف الكثير من أسرارهم، ولكنه عرف أيضاً ان الهلاك قادم لكليهما، نظر إلى كشّار قائلاً:

-هل تعتقد أن الشاروس يمكنهم أن يقتحموا بترا رغم ما رأيناه اليوم؟

-في الحقيقة ياا سيدي شماخ... سيكون الأمر دامياً بشكل لم نعتده، فأعدادهم كثيرة و مؤنهم وفيرة و مدينتهم حصينة و قائدهم طوان، أنت تعرفه أكثر مني، ولكن ليس لنا سوى الحرب أو الهلاك الحتمي.

-أشر على يا كشّار فأنا في حيرة من أمري، الشاروس يموتون جوعاً ولكن بترا هي أيضا موتهم المؤكد الذي ينتظرهم.

-هناك فكرة قد واتتني، أريد أن أقولها لك لعلها تنال رضاك يا سيدي

-قل يا كشّار فأنا أعرف ذكائك جيداً

-سيدي من الصعب، بل من المستحيل أن نقتحم بترا مدينة الخوف التي عاش بها السادون لآلاف السنين، ونحنُ على هذا الحال، فالشاروس منهكون من حربهم مع العماليق وأولائك الفرسان الذين أتوا من السماء الأخرى، فقد نقصت عددنا و ضعفت قوتنا و لا أرى سبيلاً الا الإتحاد

-اتحاد؟! عن أي اتحاد تتحدث يا كشّار؟

-اتحاد الشاروس و السادون يا سيدي، تخيل يا سيدي كيف ستكون تلك القوة اذا اتحد الخصمان المتناحران لآلاف السنين، سنصبح قوة تخشاها كل ممالك السبعين باباً فلن يكون هناك جيش يمكنه ردعنا أبداً.

أخذ شماخ يفكر قليلاً وهو ينظر هنا و هناك، ثم قال مبتسماً:

-حقاً إنها فكرة صائبة تستحق عليها الثناء يا كشّار

-خادمك الأمين يا سيدي

-ولكن الأمر لن يكون بتلك السهولة التي تتخيلها، فالأمرشديد التعقيد، فطوان لن يسمح لنا ونحن على على هذه الحال بأن نزاحمه على مدينته المهيبة بهذه السهولة، فهو يعلم ما حدث لنا من العماليق، اذاً فلابد لنا ان نحاكي خطة لنجبره على الإتحاد و يكون الساعي إلى ذلك.

-وكيف يكون ذلك يا سيدي؟

-ستعرف يا كشّار، ولكن علينا العودة الآن و الإستعداد لحرب طاحنة بلا رحمة.

عاد ممتطياً جواده مسابقا الريح ليعد تلك الخطة التي أتته غرة، راحت الأفكار تتصارع في رأسه وهو يبرق بفرسه كالسهم في الفضاء، حروب وقتلى، اتحاد وقوة، غزو وسلطة، قال في نفسه (إنها الممالك السبعين باباً تنتظرنا وأنا لن أتأخر عنها) وجدها تنتظره بصحبة (هجانا) والخوف باد عيها، سألته بلهفة:

-شماخ،هل أنت بخير؟

نعم حبيبتي، لا تخافي على،فكما قلت لك، مثلي تخشاه المهالك.

-ولكنك تأخرت طويلاً وأخذت الظنون تتلاعب برأسي

-لا عليك حبيبتي، اطمئني ولكن يجب أن تستعدي لما هو قادم، فهناك حرب ضارية تنتظرنا.

-هل ستحارب السادون؟

-ليس أمامنا خيار آخر ديمانا.

-أليس هناك بديل يا شماخ سوى القتل والدم؟

-هناك أوقات يكون فيها القتال هو الحل الوحيد يا حبيبتي ومنه تولد النجاة.

كانت (هجانا) تستمع إليهما والخوف يملؤها من ذلك العالم الذي وجدت نفسها فيه، أخذت تتذكر فارسها النبيل (هيكون شيراز) الذي لا تعلم عنه شيئا سوى أنه أصبح من فرسان الفيلق الأعظم، شعرت بأنه هو الوحيد القادر على إخراجها من هذا العالم الكريه الذي تعيش فيه، تعلم بأنه لا يزال يحبها فهي مازالت تتذكر تلك النظرات التي كان يعبر بها عمّا بداخله نحوها، مازالت تتذكر تلك الزهرة التي احتفظت بها طويلاً قبل ان تترك قصرها عنوةً وتتركها معه في أحدى الجدران الفضية، كانت زهرة شديدة البياض وكأنها الضوء، كان قد أهداها لها اعتذاراً عن تجاهله إياها فترة طويلة رغم ما أبدته له من إعجاب، أخذت تتذكر تلك السعادة التي غمرتها حينما تأكدت أنها سيكون ذلك الفارس الجميل يبادلها مشاعر الإعجاب، ما أن عادت من ذكرياتها تلك حتى سمعت شماخ يقول لهم بصوت فيه حدة:

ستبدأ الحرب في بداية اليوم الجديد عندما يسطع ضوء السماء، فيجب عليكم عدم الخروج من هذه الغرفة بأي حال حتى نعود في آخر اليوم، أتمنى ألا يخالف أحد أوامري فيكون العقاب شديداً.

مع أول شعاع من ضوء السماء كان أول رمح قد سكن في صدر أحر حراس البوابة، لتتوالى الرماح والسهام بشكل جنوني، تستيقظ مدينة الخوف على أصوات الطبول معلنة عن هجوم لم يتوقعه احد، خرج طوان من قصره لينظر إلى تلك السهام الحارقة التي تتساقط عليهم من خارج المدينة وكأنها أمطار جهنم، علم أنه شماخ وأن الشاروس قد بدأوا الحرب، يعلم أن الأسوار عالية والقلاع حصينة ويدرك أن الشاروس مهاريس حرب، وفتح الباب المدينة يعد خطراً بالغاً؛ فالشاروس ينتظرونهم ورائها وهم على استعداد للموت لدخول بترا، لم يكن أمامه إلا خيار واحد هو أن يتحصن بالمدينة دون الخروج منها، وهذا ما أراده شماخ، كانت تلك هي خطته فيعد أيام قليلة سيشتد الحصار وتقل المؤن على السادون ولن يتبقى أمامهم إلا أمران: إما الحرب التي لا يعلم أحدهم مداها وإما السلام والإتحاد.

مرت أيام شاقة على كليهما عانى الجميع فيها من نقص في كل شيء، رأى طوان أن يبعث رسولاً إلى شماخ ليعرف ماذا يريد، ما إن علم شماخ بقدوم رسول السادون حتى نظر إلى كشّار الذي كان يقف عن يمينه نظرة انتصار وكأنه يقول له(ها هي خطتنا قد نجحت).

تقدم الرسول الذي بدأ وكأنه مصارع من مصارعي الطاووس، مدجباً بالأسلحة وكأنه أتى للحرب، دخل عليهم والغضب ظاهر عليه ثم قال بصوت خشن:

-أين الفارس شماخ بطاي قائد الشاروس؟

كان شماخ جالساً في كرسيه بشيء من الفخر، رد كشّار قائلا:

-ما بك يا هذا ! هل هناك أحد في الممالك السبعين باباً لا يعرف القائد الأعظم لجحافل الشاروس؛ الفارس الذي لا ينكسر له سيف، شماخ بطاي.

-عذراً ولكني جئت لأبلغه بأن سيدي طوان أراد أن يراه

-وماذا يريد القائد طوان من سيدي شماخ؟

-لا أعرف، جئت أبلغ رسالة ولأعود من حيث أتيت.

قام شماخ واقفاً ليحدثه قائلاً:

-بلغه بالزمان و المكان الذي سأحدده لمقابلته وسأنتظر منه الرد.

-ومتى الزمان؟ وأين المكان؟

-اليوم قبل ذهاب ضوء السماء بقليل وراء الجبل الأزرق.

آتاه طوان بغضب:

-لمَ أتيت إلى مدينتي يا شماخ؟

-تعرف لما أتيت؛ فلم يعد هناك مفر لنا من الموت سواها.

-ولكن بترا هي معقل السادون منذ آلاف السنيين وأنتم لكم صحاري السراب الأحمر الفسيحة هي موطنكم الدائم.

-لم تعد كذالك يا صديقي بعد حربنا مع العماليق ولا حياة لنا بعد ذلك الا في مدينة الخوف.

-ولكن الحرب ستهلكنا جميعاً!!

-أعلم ولكن ليس هناك إلا ذلك أو......

-أو ماذا؟

-أو نتقاسمها معاً

-أنت لا تعرف ماذا تقول، السادون لن يرضوا بذلك مهما كلفهم الأمر وأنا لن أتخلى عن ملك مدينتي.

-ومن قال أنك ستتخلى عن شيء، بل العكس سنفعل ما لم يستطع أن يفعله أي قائد من قادة الشاروس و السادون على مر العصور، سنجعل من بترا بداية وحدت ستخضع لها ممالك السبعين باباً كافةً، سيهابنا الجميع وسنكون قوة لا نظير لها ووقتها لن نتوقف عن الزحف نحو أجمل الممالك وأخذها عنوة، صديقي طوان هذا هو البديل الوحيد عن الحرب فأنت تعرف أن هلاكنا نحن جحافل الشاروس لو بقينا في تلك الصحاري وستحارب الجحافل حتى آخر فرد فيها حتى تدخل بترا، فليكن الإتحاد يا صديقي فهو الطريق إلى المجد.

راح طوان يفكر وهو يدور بفرسه هنا وهناك وشماخ يقف بثبات ينظر له، وبعد تفكير طويل قال طوان يتردد:

-إذن دعني لأستشير كبار السادون في هذا الأمر وسيأتيك الرد.

-وأنا سأنتظر طوان، ولتعلم بأنني مستعد تمام الإستعداد إلى أمرين: الأتحاد والحرب

كان يعرف بأن طوان سيوافق فهذا هو خياره الوحيد، والبديل هو الهلاك لهم جميعاً، انتظر ذلك الرسول القوي الذي آتاه في الأمس ولكنه فوجئ بفتاة باهرة في جمالها تدخل عليه قلعته وفي يديها رسالة من طوان، قالت له وهي تنظر في عينيه:

-مولاي طوان قد بعث لك بتلك الرسالة ليقرأها ففوجئ بما لم يتوقعه، إنها (جمحنا) إبنة نازخ كبير حكماء السادون، نظر لها ليرى فتاة شديدة الجمال، يظهر على وجهها ذكاء روح فارس مقدام لا يخشى المهالك، نظر لنا متعجباً؛ ثم سأل بتودير:

-أأنت جمحنا إبنة حكيم نازخ؟

-نعم سيدي شماخ

وهل تقبلين بما كتب في هذه الرسالة؟

-بالطبع وإلا لم أكن لأتي إلى هنا

-إذن كيف قبلت بالزواج من فارس لم تربه من قبل ولا تعرفي عن شيئاً؟!

-الكل يعرف من هو شماخ بطلي الفارس الأسطوري سيدي

-ولكني أحب فتاة أخرى

-وأنا أقبل سيدي

-ولكنها هي التي لن تقبل

-نجاة الشاروس والسادون في هذا الزواج سيدي ولا سبيل إلا المصاهرة حتى نحمي الجميع من الدمار والموت المحقق وعليك أن تقنعها بخطورة الأمر

-أنت غير أي فتاة عرفتها من قبل، أشعر بأنك محاربة.

-وأنا بالفعل كذلك سيدي، فوقت الحروب أكون في المقدمة ولا يستطيع أحد أن يقف أمامي.

تم إعادة نشر الفصل بسبب الأخطاء ومشاهدة ممتعة:)

2019/10/25 · 326 مشاهدة · 1894 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024