الفصل المائتان والسابع والتسعون: الشبان
____________________________________________
كانت الشوارع تضج بالمارة، وكلٌ يسعى مسرعًا نحو غايته بكل ما أوتي من قوة، بينما تاه آخرون في زحام الطريق، يجيلون النظر حولهم في حيرةٍ وضياع، يسيرون بوجوهٍ خاليةٍ من أي تعبير، وكأن لا وجهة لهم في هذه الحياة.
إن أصناف البشر في هذا العالم كثر، ولكن يمكن تقسيمهم إجمالًا إلى صنفين لا ثالث لهما: صنفٌ يدفعه الطموح، وصنفٌ آخر يغلبه الانحلال واليأس. فالصنف الأول يبذل قصارى جهده بلا كللٍ أو ملل لتحسين حاله، أما الثاني فلا يجد ملاذًا سوى الاستسلام عند أول عقبةٍ تعترض طريقه.
فالحياة مهما طالت لا تتجاوز بضع مئاتٍ من السنين، ولربما كان الاستسلام هو الحقيقة الراسخة في نهاية المطاف. سار غو شانغ في طريقه وقد طافت هاتان الكلمتان في ذهنه فجأة، فهز رأسه مستنكرًا، إذ شعر بأن في هذه الخاطرة سخريةً مبطنةً من حاله هو.
فعمره قد تجاوز مئات السنين بأشواط، ولم يعرف للاستسلام سبيلًا قط، بل كان سعيه وجهده يفوقان سعي أي إنسانٍ آخر. وعلى الرغم من أن الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى نُسَخه، إلا أنه ونُسَخه كيانٌ واحدٌ في نهاية الأمر، فجهدهم هو جهده، وسعيهم هو سعيه.
بعد أن قطع بضع خطواتٍ أخرى، وجد نفسه واقفًا أمام مطعمٍ صغير. لم يدرِ لمَ ساقته قدماه إلى هذا المكان تحديدًا، لكنه شعر وكأن قوةً خفيةً قد أرشدته إليه.
'إنه لشعورٌ غريب حقًا.'
رفع بصره ليتفحص المكان، فوجده مطعمًا قديمًا يقدم مأكولات إقليم سيتشوان الخفيفة. كانت القاعة المربعة تحوي ثماني أو تسع طاولات، لم يكن يشغلها سوى زبائن على طاولتين فقط، بينما بقيت الأخريات فارغة.
مر بجانبه عامل توصيلٍ مهرولًا، واتجه مسرعًا نحو منصة الاستقبال، وفي تلك اللحظة، ضاقت عينا غو شانغ فجأة وهو يراقب عامل التوصيل الذي وصل إلى المنصة، فقد راوده شعورٌ قويٌّ بأن أمرًا مريبًا يحيط بهذا الرجل.
وبما أن الشك قد تسلل إلى قلبه، كان لا بد له من كشف الحقيقة، وإلا فلن يهنأ له نومٌ هذه الليلة. وقف عند باب المطعم ينتظر في هدوء، وحين خرج عامل التوصيل حاملًا صندوق الطعام، وضعه في الصندوق الخلفي لدراجته، ثم أدار مقبض السرعة وانطلق مبتعدًا.
لم يكن مجرد انطلاقٍ سريع، بل كان تحليقًا في الهواء، فقد حلق في الأجواء مع دراجته النارية، وكلما زاد من قوة الدفع، ارتفعت سرعته أكثر فأكثر. إن التقنية في هذا العالم معقدةٌ للغاية، وقد ازدادت تعقيدًا وغموضًا بعد ظهور القوى الخارقة المتنوعة.
أخفى غو شانغ هيئته عن الأنظار، وحلّق بدوره في السماء، منطلقًا في إثر عامل التوصيل ذاك. وبفضل قوته الحالية، كان تتبعه أمرًا في غاية السهولة.
بعد خمس دقائق، وصل عامل التوصيل إلى زاوية نائية من المدينة، بعيدة عن صخب المركز، بجوار بحيرةٍ كبيرةٍ تتناثر حولها عدة أجنحة صغيرة. كان شابٌ يجلس في أحد تلك الأجنحة، فتقدم عامل التوصيل وناوله صندوق الطعام، ثم استدار وغادر دون كلمة.
فجأةً، شعر غو شانغ بأن ذلك الإحساس الغامض الذي دفعه لاتباع عامل التوصيل قد انتقل بسرعةٍ إلى ذلك الشاب الجالس. تقدم بخطوةٍ واحدةٍ ليصبح أمامه، وبعد أن تفحصه بعناية، وجد أن هذا الشاب مجرد شخصٍ عادي، لا يملك أي أثرٍ للزراعة، مما جعل الأمر برمته محيرًا ومثيرًا للفضول.
فتح الشاب صندوق الطعام، ثم ناوله زوجًا من عيدان الأكل ووعاءً بلاستيكيًا، وقال وعلى وجهه ابتسامةٌ ودودة: "الضيف هو الضيف. لقد طلبتُ بالصدفة مجموعة إضافية من أدوات المائدة، فلتشاركني طعام الغداء."
كان الشاب يرتدي ملابس رياضية بيضاء، وكان ذا بنيةٍ نحيلة، ومظهرٍ لطيف، وابتسامةٍ دافئةٍ مشمسة، أشبه بفتى الجيران الذي يظهر في المسلسلات التلفزيونية. لم يرد عليه غو شانغ، بل اكتفى بالنظر إليه في صمت، لكن الشاب لم يبالِ وبدأ يأكل بمفرده.
وبعد نصف دقيقة، قال الشاب: "أنت مميزٌ جدًا."
فسأله غو شانغ: "أعلم أنني مميز، ولكن هل يمكنك أن توضح أكثر؟"
أجاب الشاب وهو يرتشف من حساء الأعشاب البحرية، والابتسامة لا تزال على وجهه: "أنت لست من هذا العالم، لكنك في الوقت نفسه مندمجٌ به ارتباطًا وثيقًا، وهذا ما يجعلك مميزًا للغاية."
تجمد غو شانغ في مكانه، فهذا الشاب قد تمكن من كشف هويته، مما يعني أنه ليس بالبساطة التي يبدو عليها. ومع ذلك، كان هناك شعورٌ غريبٌ بأن شيئًا ما ليس في محله. أطال غو شانغ النظر، وفجأةً لمح بعض الدلائل، فقد كان هذا الشاب يبذل قصارى جهده ليبدو هادئًا ومطمئنًا، وكانت كل حركةٍ من حركاته مجرد تمويهٍ متقن.
في هذه الأثناء، كان الشاب قد أنهى طعامه، فمسح فمه من بقايا الطعام، وسأل مبتسمًا: "هل ترغب في عقد صفقةٍ معي؟"
"وماذا تقترح؟"
"الصفقات الجيدة يجب أن تظل طي الكتمان. ما رأيك أن تبدأ بتوقيع اسمك هنا أولًا؟"
أخرج الشاب من جيبه ورقةً بيضاء مطويةً ثلاث مرات. كان من الواضح أنها تحوي الكثير من البنود، لكن محتواها كان محجوبًا بالكامل، ولم يظهر منها سوى مكانٌ واحدٌ مخصصٌ لتوقيع الشخص المُرخَّص له. كانت هذه الورقة غريبة، وكان هذا الشاب أغرب منها.
ثم أضاف الشاب بنبرةٍ ملؤها الترقب: "ما إن توقع هنا، سأخبرك بكل المعلومات التي أعرفها!"
"لدي طبعٌ غريب، فأنا لا أحب عقد مثل هذه الصفقات."
كانت الأسباب المجهولة أكثر من أن تُحصى، ولم يكن غو شانغ ينوي المخاطرة، فلم يكن يجرؤ على ضمان عدم حدوث شيءٍ سيءٍ له بعد التوقيع. وأمام هذا الموقف، كان لديه خططه الخاصة أيضًا.
تنهد غو شانغ، ثم حشد قوته مباشرةً ليهاجم الشاب. لقد كان هذا الشخص غامضًا جدًا ويشكل تهديدًا له، وكان من الأفضل أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى كل الإجابات. ورغم وجود احتمال للفشل، إلا أن ذلك لم يكن يهمه في شيء، فقد كانت لديه فرصٌ لا حصر لها ليبدأ من جديد، فالعالم الحقيقي لم يكن مقتصرًا على هذا المكان وحده.
لم يكن الأمر سوى ضغطٍ بسيطٍ من طاقته الروحية. وفي لحظةٍ خاطفة، سقط الشاب على الأرض وقد علا وجهه الإحراج والارتباك.
"أنت...!"
تغيرت ملامح الشاب أخيرًا في هذه اللحظة، وحدّق في غو شانغ بنظرةٍ تملؤها بعض الغضب، ثم قال: "ألم أطلب منك التوقيع فحسب؟ هل كان من الضروري أن تفعل هذا؟"
في انطباعاته، كان هذا الشخص رجلًا طيبًا، ليس هذا فحسب، بل كان قلبه مفعمًا بالفضول. لقد ظن أن المهمة هذه المرة ستكتمل بسلاسة، لكنه لم يتوقع حدوث مثل هذا التغير المفاجئ. قرأ غو شانغ الكثير من المشاعر في عيني الشاب، كان أبرزها عدم التصديق. لكن لمَ لا يصدق ما حدث؟
أحاطت القوة الجبارة بجسد الشاب، وبعد تفكيرٍ قصير، لوّح غو شانغ بأصابعه، فظهر جرحٌ على جسد الشاب، ثم تدفقت من الجرح ثلاثة خيوطٍ من الدم اندمجت في جسد غو شانغ. إن كان يريد معرفة الحقيقة، فلا بد له من فحص ذكرياته.
في هذا العالم، لم يكن يملك تلك الأساليب التي تمكنه من التحكم بالذاكرة. كان بإمكانه الآن انتزاعها بالقوة بفضل طاقته الذهنية الجبارة، لكن كان هناك احتمالٌ كبيرٌ أن يؤدي ذلك إلى حوادث غير متوقعة، كإتلاف الذاكرة مثلًا. لذا، كان السبيل الأكثر أمانًا هو استغلال قدرة جسد إله الدم لاستخلاص ذكرياته.
ببطء، ومع فقدان كميةٍ كبيرةٍ من الدم، أصبح وجه الشاب أكثر شحوبًا، وخارت قواه تمامًا حتى عجز عن الكلام، ولم يعد بإمكانه سوى التلوي وإصدار همهماتٍ ضعيفة. وعندما وصل إجمالي الدم الممتص إلى ثلاثين بالمئة، ظهرت فجأةً في ذهن غو شانغ فيوضٌ من الذكريات.
وبعد بضع ثوانٍ، أدرك كل شيء.
'إذًا، لم يكن سوى مُدَّعٍ.'
بعد تفكيرٍ وجيز، لم يقتل غو شانغ الشاب، بل استخلص قطرةً من دمه ودمجها في جسد الآخر.