*دائما ما يتم أخذ ثمن مقابل ما يقدمه القدر*-مقتطف من ماري ملكة اسكتلندا، من كتابة زويغ

"أنا نكرة ليس لدي وقت للاستمتاع بسطوع الشمس."

"لم يستطِع والداي مساعدتي، ولستُ ذو درجة عالية من التعليم أيضاً. لم أملِك خيار أي آخر سوي أن أنجح بمفردي في المدينة.

"لقد تقدمت للعديد من الوظائف، لكن لم يوظفني أحد أبداً. ربما لأنني لست جيداً في التعبير عن نفسي، ولست أفضل شخص للتواصل معه. أعتقد أنني لم أظهر القدرات الكافية.

"ذات مرة، تناولت رغيفين من الخبز على مدار ثلاثة أيام. كان الجوع يبقيني مستيقظا في الليل. على الأقل، دفعت إيجار شهر مقدمًا، لذا لم أضطر إلى مواجهة رياح الشتاء الباردة في الخارج.

"وأخيرًا، عثرت علي وظيفة في مشرحة المستشفى، حيث كنت أراقب الموتى.

"كان الليل في المستشفى أكثر برودة مما كنت أتخيل. كانت أضواء الممر مطفأة، مما جعل كل شيء يكتنفه الظلام. بالكاد كنت أري قدمي، وكان الضوء الوحيد الظاهر آتي من الغرف.

" يا إلهي ، كانت الرائحة كريهة للغاية. رائحة الموت عالقة الهواء. ومن وقت لآخر، توجب علينا المساعدة في نقل الجثث إلى المشرحة.

"لم تكن هذه الوظيفة الأكثر جاذبية، ولكنها كانت توفر لي لقمة العيش. بالإضافة إلى ذلك، سٓمٓح لي وقت الفراغ في الليل بالدراسة. لم يكن هناك من يجرؤ على الذهاب إلى المشرحة، ولكن عندما فعلوا، كانوا يسلمون الجثث أو يأخذونها إلي المحرقة. كان علي أن أستغني عن الكتب، حيث لم يكن بوسعي تحمل تكاليفها، ولم أكن أرى أي أمل في توفير ما يكفي من المال لها.

"لكن كان علي أن أشكر العامل قبلي لرحيله المفاجئ، لأنه سمح لي بالحصول على هذه الوظيفة.

"حلمت بالعمل في وردية النهار. فالنوم أثناء النهار والاستيقاظ في الليل يجعل جسدي ضعيفًا ورأسي ينبض".

"ذات يوم ، تم إحضار جثة جديدة.

"مما سمعته، إنها جثة العامل قبلي الذي غادر فجأة.

"أثار الأختفاء الغامض للعامل السابق اهتمامي، وبمجرد أن غادر الآخرون الغرفة، فتحت الخزانة وكشفت عن كيس الجثة بهدوء.

"كان رجلاً عجوزًا، ذا بشرة بيضاء مزرقة وتجاعيد تغطي وجهه. لم تقم الإضاءة الضعيفة إلا بجعله يبدو أكثر إرعابا.

"لم يكن لديه الكثير من الشعر،و معظمه أبيض اللون. لقد جُرِّد من ملابسه، ولم يبق عليه حتى قطعة قماش واحدة.

"كرجل ميت بدون عائلة، لم يتمكن الحمالون من مقاومة الفرصة للاستفادة من الرجل.

"رأيت علامة غريبة على صدره. علامة سوداء مزرقة. لا يمكنني تفسير شكلها حقًا. كان الضوء خافتًا للغاية في ذلك الوقت.

"مددت يدي ولمست العلامة، فقط لأدرك أنه لم يكن هناك شيء مميز عنها.

"ناظراً إلي العامل السابق، لا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كان سينتهي بي الامر مثله عندما أكبر...

"لقد وعدت جثته بأنني سأكون معه في رحلته الأخيرة، وأن آخذه إلى محرقة الجثث ثم إلى أقرب مقبرة مجانية. لم أستطع ترك البيروقراطيين يقومون بإلقائه في النهر أو في أرض منسية ما مثل القمامة.

"علمت أنني سيتوجب علي التضحية ببعض النوم، ولكن الحمد الله ،لأن اليوم التالي كان يوم الأحد علي أي حال. يمكنني تعويض ما فاتني من نوم حينها.

"بعد قول ذلك، قمت بغلق الكيس ودفعته مرة اخري إلى الخزانة.

"أصبحت الغرفة مظلمة وأصبحت الظلال أطول...

"منذ ذلك اليوم، كلما أغمضت عيني، يغمرني ضباب كثيف.

"يخبرني شيء ما أنني لست وحدي. هناك شيء ليس ببشري حقا قادم لأجلي . لكن لا أحد يستمع. يعتقدون أنني فقدت عقلي في هذه الوظيفة؛ يقولون إنني بحاجة إلى طبيب..."

نظر أحد الزبائن الذكور الجالسين في الحانة إلى الراوي الذي توقف فجأة وسأل: "و؟"

توقف الراوي فجأة عن سرد حكايته، مما دفع زبون ما في الحانة إلى الانتباه إليه. كان هذا الرجل في منتصف الثلاثينيات يرتدي معطفًا قاتمًا، وسرواله أصفر باهت. كان شعره مصففًا للخلف، وكان يرتدي قبعة سوداء خشنة بجانبه.

بدا عاديًا، مثل بقية رواد الحانة، بشعره الداكن وعينيه الزرقاوين الثاقبتين. لم يكن وسيمًا بشكل خاص، لكنه لم يكن مثيرًا للاشمئزاز أيضًا. لم يبرز عنه شيء يلفت الانتباه.

كان الراوي شابًا قوي البنية في أواخر سنوات المراهقة، بأطراف طويلة وملامح منحوتة قد تجعل أي فتاة تشعر بالضعف. وكان شعره القصير ذو اللون الأسود العميق وعيناه الزرقاوان اللامعتان أضافا فقط إلى جاذبيته.

نظر الشاب بتوق إلى كأس النبيذ الفارغ أمامه وأطلق تنهيدة عميقة.

"وثم؟

"ثم تركت وظيفتي وعدت إلى الريف حتى أتمكن من إخبارك بهذا الهراء"، رد الشاب بابتسامة خبيثة على وجهه.

لقد تفاجأ الزبون.

"هل كنت تمزح معنا فقط؟"

"هاهاها!" انفجر الضحك حول البار.

ولكن الضحك لم يدم طويلاً، إذ نظر رجل في منتصف العمر بصرامة إلى الزبون المحرج قليلاً، وقال: "أنت لست من هنا، أليس كذلك؟ يروي لوميان قصة مختلفة كل يوم. بالأمس، كان رجلاً مفلسًا هجرته خطيبته، واليوم، أصبح حارسًا للموتى!"

"نعم، يتحدث عن قضاء ثلاثين عامًا شرق نهر سيرينزو ثم ثلاثين عامًا على يمينه. إنه مليء بالهراء، هذا الفتي!" أضاف أحد رواد الحانة المعتادين.

كان جميع الرجال هنا من مزارعي قرية كوردو، وكانوا يرتدون سترات ذات ألوان داكنة.

انحنى الشاب ذو الشعر الأسود، لوميان، إلى الأمام على منضدة البار و وقف على قدميه. ابتسم ابتسامة متلاعبة وأعلن، "كما تعلمون جميعًا، لست أنا من اختلق هذا. أختي هي من تكتب هذه الحكايات. إنها كاتبة في عمود معروف باسم روايات اسبوعية أو شيء من ذلك القبيل".

مع قول هذا ، استدار لوميان، ونشر ذراعيه على نطاق واسع، وابتسم باشراق للزبون الأجنبي.

"يبدو أنها قد صنعت قصة رائعة. أنا آسف لأنك أسأت الفهم."

ابتسم الرجل العادي الذي يرتدي قميص التويد بني اللون ووقف.

"يا لها من قصة مثيرة للاهتمام. وكيف يمكنني أن أخاطبك؟"

"أليس من باب اللباقة أن تُعرِّف عن نفسك قبل أن تسأل الآخرين؟" أجاب لوميان معيدًا الإبتسامة للرجل.

أومأ الأجنبي برأسه.

"اسمي ريان كوس.

"هؤلاء هم رفاقي، فالنتين وليا."

الجملة الأخيرة أشارت إلى الرجل والمرأة الجالسين بجانبه.

فالنتاين، رجل في أواخر العشرينيات من عمره، ذو شعر أشقر ناعم وعينين زرقاوين، يرتدي صدرية بيضاء وسترة تويد زرقاء وبنطالاً أسود. وكان من الواضح أنه وضع جهدًا كبيرًا في ملابسه، وكأنه كان يستعد لموعد خاص.

كان لديه نظرة باردة إلى حد ما علي وجهه، حتى أنه لم يلقي نظرة على المزارعين والرعاة من حوله.

من ناحية أخرى، ليا امرأة شابة مذهلة ذات شعر رمادي فاتح طويل مربوط في كعكة معقدة وحجاب أبيض يعلو رأسها.

كانت عيناها تتطابقان مع شعرها، وكانت تنظر إلى لوميان بابتسامة مفتوحة، ومن الواضح أنها استمتعت بنقاشهما السابق.

في وهج مصابيح الغاز داخل الحانة، أظهرت المرأة التي تدعى ليا أنفها الحاد وشفتيها المنحنيتين بشكل مذهل. كانت بالتأكيد امرأة مذهلة في الريف مثل كوردو.

إرتدت فستانًا أبيضًا ضيقًا من الكشمير مع معطف صغير أبيض اللون وزوج من أحذية مارسيال. كانت هناك جرسان فضيان صغيران مثبتان في حجابها وحذائها. كانا يرنان عندما دخلت الحانة، مما لفت انتباه العديد من الأشخاص - وخاصة الرجال.

في نظرهم،هذا هو نوع الملابس الأنيقة التي لا تراها إلا في المدن الكبرى، مثل عاصمة المقاطعة بيجور أو حتى العاصمة ترير.

أومأ لوميان برأسه تقديراً للأجانب الثلاثة.

"الاسم هو لوميان لي. يمكنك مناداتي بـ لوميان."

"لي؟" قالت ليا.

"ما الخطب؟ هل لديكم مشكلة مع اسم عائلتي؟" سأل لوميان بنظرة فضولية على وجهه.

تولي ريان كوس مهمة شرح الأمر نيابة عن ليا، "اسم عائلتك مخيف للغاية. لقد فقدت السيطرة على صوتي للتو."

ملاحظا تعبيرات الحيرة على وجوه المزارعين والرعاة من حوله، تابع: "إن الأشخاص الذين التقوا بالبحارة وتجار البحر على دراية بمثل شائع في البحار الخمسة:أفضل أن أواجه وجهًا لوجه أدميرالات القراصنة أو حتى الملوك بدلاً من أن ألتقي برجل يُدعى فرانك لي."

"لقب هذا الشخص هو لي أيضًا."

"هل هو حقا مخيف إلى هذه الدرجة؟" استفسر لوميان.

هز ريان رأسه ردا على ذلك.

"لست متأكدًا تمامًا، ولكن إذا كانت مثل هذه الأسطورة موجودة، فلا يمكن أن تكون بعيدة عن الحقيقة."

ثم غير الموضوع وقال للوميان: "شكرًا على القصة. إنها تستحق الشراب. ماذا تريد؟"

"كأس من لافي فيرتي" لم يماطل لوميان وجلس مرة أخري في مقعده.

عبس ريان كوس.

" لافي فيرتي... الأفسنتين؟"

"يجب أن أذكرك أن الأفسنتين مضر بجسم الإنسان. مثل هذا الكحول يمكن أن يؤدي إلى الجنون والهلوسة."

"لم أتوقع أن تصل موضات ترير إلى هنا"، تدخلت ليا بابتسامة.

أجاب لوميان علي تعليقها بشكل مقتضب.

"إذا لسكان ترير يستمتعون أيضًا بـلافي فيرتي..."

"بالنسبة لنا، الحياة صعبة بما فيه الكفاية. لا داعي للقلق بشأن المزيد من الضرر. هذا المشروب قادر على تهدئة أذهاننا."

"حسنًا." استند ريان إلى ظهر كرسيه والتفت إلى النادل. "كأس من لافي فيرتي وكأس أخرى من كور ايبيك."

الكور ايبيك عبارة عن مشروب كحولي مشهور يعتمد على الفاكهة والذي تم تقطيره إلى حد الكمال.

تدخل الرجل النحيف الذي كشف اكاذيب لوميان قائلا "أعطني كأسًا من لافي فيرتي أيضًا. بعد كل شيء، أنا من قال الحقيقة الآن. يمكنني حتى أن أخبرك بالحقيقة حول وضع هذا الطفل!" حدق في لوميان، متحديًا إياه للاعتراض. "أجنبي، أستطيع أن أقول لك إنك لا تزال لديك شكوك حول صحة هذه القصة."

"بيير، أنت ستفعل أي شيء من أجل الحصول على كأس مجاني من الكحول،" رد لوميان متجهما.

قبل أن يتمكن ريان من الرد، أضاف لوميان، "لماذا لا يمكنني سرد قصتي وأحصل على كأس إضافي من لافي فيرتي ؟"

"لأن لا أحد يعرف إن كان ينبغي تصديقك أم لا"، قال بيير مبتسمًا. "القصة المفضلة التي تحكيها أختك للأطفال هي "الصبي الذي بكى ذئبًا". الناس الذين يكذبون طوال الوقت يفقدون مصداقيتهم في النهاية".

هز لوميان كتفيه وراقب النادل وهو يضع أمامه كأسًا من الكحول الأخضر الفاتح. وقال بلا مبالاة: " حسنا".

التفت ريان إلى لوميان.

"ألا بأس بذلك؟"

"بالتأكيد، مادامت محفظتك قادرة على تحمل ذلك"، أجاب لوميان بمرح.

"في هذه الحالة، كأس آخر من لافي فيرتي" قال ريان وهو يهز رأسه.

أضاء وجه بيير بابتسامة.

"أيها الأجنبي الكريم، يجب عليك أن تبقي بعيدا عن هذا الرجل"، قال وهو يشير إلى لوميان. "إنه الفتي الأكثر خبثا في القرية بأكملها".

"قبل خمس سنوات، أحضرته أخته أورور إلى القرية"، تابع بيير. "لقد بقي هنا منذ ذلك الحين. هل يمكنك أن تتخيل؟ كان مجرد فتى صغير في الثالثة عشرة من عمره في ذلك الوقت. كيف يمكنه أن يذهب إلى المستشفى ليصبح حارسًا للجثث؟ يقع أقرب مستشفى في دارييج عند سفح الجبل. سيستغرق الأمر فترة ما بعد الظهر بالكامل للوصول إلى هناك سيرًا على الأقدام".

"أعيد إلى القرية؟" سألت ليا بصوت يشوبه بالريبة.

أمالَت رأسها، مما تسبب في رنين أجراسها.

أومأ بيير برأسه تأكيدًا.

"انتقلت أورور إلى هنا منذ ست سنوات. وبعد مرور عام، ذهبت في رحلة وأحضرت معها الصبي معها. قالت إنها وجدته على الطريق، طفلاً جائعًا بلا مأوى. لقد حططت لتبنيه."

"ثم أخذ لقب أورور، لي. حتى اسمه، لوميان، أعطته له أورور."

"لا أتذكر حتى ما كان اسمي قبل أن تعطيني أورور الاسم." لوميان، غير منزعج بهذا الكشف، فأطلق ابتسامة عريضة وأخذ رشفة من الأفسنتين.

من الواضح أن ماضيه لم يزعجه على الإطلاق.

2024/12/06 · 15 مشاهدة · 1660 كلمة
Arthur
نادي الروايات - 2025